تقف مصر الآن في مفترق طرق خطير, إما يقودها إلي الهاوية والانتكاس عن ثورة 25 يناير والدوران في حلقة مفرغة وإما أن يقودها إلي التقدم والازدهار. فتفاعلات المشهد السياسي في الشهور الأخيرة وتشابكاته المعقدة فيما حدث في ميادين التحرير والعباسية من تصادم وما يشهده الإعلام من تنابز وتبادل الاتهامات يعكس محاولات واضحة من جانب بعض القوي للانحراف عن مسار الثورة الأساسي, والتي اتخذت شعارات وطنية مثل سلمية سلمية والشعب والجيش يد واحدة, ومدنية مدنية, واتحدت جميع فئات المجتمع علي اختلاف انتماءاتها السياسية والدينية علي هدف واحد وهو إسقاط النظام, وقدمت نموذجا رائعا للعالم, لكنها سرعان ما تعارضت وتصادمت في أهدافها لتساهم في تكريس حالة الاستقطاب الحالية. وإذا كان هذه التفاعلات تعكس في ظاهرها ممارسات ديمقراطية صحية غابت لسنوات طوال نتيجة للكبت والقهر الذي مارسه النظام السابق, إلا أنها في باطنها قد تمثل خلطا واضحا يهدد بتفريغ الثورة والأهداف التي قامت من أجلها ويدعونا جميعا لنعود من جديد إلي الاتحاد حول هدف واحد وهو أن نبني مصر من جديد. ومصر التي نريدها هي تلك الدولة التي يتحقق فيها الازدهار الاقتصادي, وهي تلك الدولة التي يحكمها القانون والدستور والمؤسسات ويتساوي فيها جميع المواطنين في الحقوق والواجبات بغض النظر عن اختلافاتهم السياسية أو الدينية, وأن يسود فيها التسامح والتعايش بين مختلف أطياف المجتمع, وهي تلك الدولة التي تستعيد دورها الإقليمي والعالمي, أي أنها تلك الدولة القوية العصرية التي تتناسب مع تاريخها وحضارتها. إن ثورة 25 يناير, التي تعد أول ثورة حقيقية في تاريخ مصر, تمثل فرصة تاريخية ذهبية أمامنا جميعا علينا اقتناصها من أجل إعادة بناء مصر التي نحلم بها ونريدها جميعا بعدما أصابها الشلل والجمود لعقود وتدهورت مكانتها بما لا يتناسب تماما وإمكاناتها وتاريخها, وهي لن تبني عبر محاولة طرف أو تيار بعينه احتكار الموقف وتوجيه الأحداث وفقا لرؤيته الخاصة وتهميش الآخرين أو محاولات البعض زرع الفتنة سواء بين الجيش والشعب أو بين التيارات السياسية وبعضها البعض وتغذية مشاعر الكراهية بينها, كما أنها لن تبني ونحن لازلنا نستغرق في التفاصيل ونقف في المربع الأول, وكأن إسقاط النظام القديم هو نهاية مطاف الثورة. ولكن مصر التي نريدها لن تبني إلا عبر الحوار بين جميع الفئات والتيارات من أجل التوصل إلي خريطة طريق تحدد بدقة أهدافنا وأولوياتنا, وتقوم بتشخيص كامل للحالة المصرية وعللها وأمراضها وتحدياتها, وتجاوب علي أسئلة جوهرية, يجب أن تكون شاغلنا الأساسي في الفترة المقبلة, من قبيل لماذا تأخرنا وكيف ننهض من جديد ومن أين نبدأ وكيف نسير بالثورة إلي غاياتها وبأية بوصلة نهتدي, وإلي أي مرجعية نعود؟ وليسأل كل واحد منا نفسه سؤالا واحدا كيف نعيد بناء مصر الحديثة العصرية الديمقراطية المتقدمة؟ إن تقدم مصر ليست عملية مستحيلة, فلن نخترع العجلة من جديد حيث سبقتنا إليه العديد من الدول التي كانت في ظروف أسوأ منا, كما أننا لن نبدأ من فراغ فلدينا ميراث ديمقراطي وثروة بشرية هائلة, فالتقدم روشتة شاملة ومتكاملة يضعها وينفذها أناس مخلصون, لا تقوم علي فرد أو حزب معين وإنما تيار متجانس ومتوافق يتحرك في إطار مشروع نهضوي شامل في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية, يسير بشكل تدريجي وعبر مراحل متعددة ولكل مرحلة أهدافها التي تصل إلي نهايتها وفق جداول زمنية محددة. ولذا حتي تصل الثورة إلي غايتها الحقيقية علينا أن نتجاوز سريعا وبسلام هذه المرحلة الانتقالية عبر تنظيف الركام الذي تركه هدم النظام القديم وأن يتزامن مع ذلك التفكير في كيفية بناء البيت الجديد الذي يجمعنا جميعا بأن نوجه تفكيرنا ليس في عرقلة المسيرة, وإنما العمل الجماعي علي تكريس ثقافة الديمقراطية ونزاهة العملية الانتخابية بغض النظر عما سوف تفرزه, فالديمقرطية تصحح نفسها بنفسها, كذلك العمل علي بناء اقتصاد حديث وعصري يكون العلم والعلماء هو قاطرته في توظيف قدراتنا ومواردنا الحالية والكامنة ويتمتع بمزايا نسبية تضعه في صدارة الاقتصادات العالمية وقادر علي توفير فرص العمل وحل مشكلة البطالة, وكذلك القضاء علي الأمراض التي تفتك بالمجتمع وحل مشكلة العشوائيات وسكان, وكذلك تأكيد ثقافة التسامح والتعايش بين أبناء الأمة علي اختلاف توجهاتهم السياسية وانتماءاتهم الدينية. وفي هذا الإطار يمكن إنشاء مركز قومي للتفكير في مستقبل مصر, يساهم فيه جميع المواطنين بأفكارهم ويمكن أن تتبناه الحكومة ومراكز الأبحاث ووسائل الإعلام, ليساهم في وضع الآليات التي تحقق أهدافنا. إن الخطر الحقيقي الآن هو أن ننجرف إلي حالة من الهلامية والضبابية لا نعرف فيها ماذا نريد, وأن ندور في فلك الحسابات والمصالح الخاصة والذي بدوره سيقود إلي التصادم الذي لن يكون في مصلحة أحد, فالقاسم المشترك بيننا جميعا هو مصر وبناؤها, وما حدث في25 يناير هو خطوة في طريق طويل يحتاج لخطوات أخري أهم وعلي رأسها ثورة مجتمعية في سلوكياتنا وطريقة تفكيرنا وتكريس قيم التفاني والإخلاص والاتقان والتسامح وثورة اقتصادية وأخري ثقافية, وبدون ذلك فإن ما يحدث الآن وما قد يحدث إذا ظللنا في هذا المنهج ستكون عواقبه وخيمة, وهذا جرس إنذار قوي لكل ذي عقل وبصيرة ويحمل ذرة حب لهذا البلد.