لم تكن المساءلة والمطالبة بالحقوق يوما إحدى المكونات الثقافية لمجتمعنا، وهناك دائما الورقة الجاهزة والمتمثلة في القضاء والقدر والمكتوب على الجبين لازم تشوفه العين، ثم يزدرد المصاب خسائرة المادية أو الجسدية أو المعنوية متلحفا بالمسلمات الغيبية، تاركا وراءه المهمل والمخطئ والمتسيب دون محاسبة أو مساءلة! هناك مناخ ثقافي عام يعمق السلبية ويعزز المشاعر الحيادية تجاه الظلم والتجني والتعدي والإهمال والتسيب. وهناك قناعة مترسخة في الضمير الشعبي تنهي عن أخذ العوض وتحذر من عاقبة ذلك على العيال، وهذه القناعة المكرسة للسلبية والمشجعة للظلم، كانت -حتى وقت قريب – متمكنة بقوة من الوجدان الشعبي تتمترس وراء أحاديث لا يتم التحري عن صحتها، وإن كانت ظروف الحياة الحديثة وتفشي الفقر قد زحزح تلك القناعة، ولعل جذورها لا تزال حية عند بعض الناس!! وستسمع من يطالبك بالرضا والقبول بالمكتوب ، ِحتى لو كان الأمر متعلقا بحقك المنهوب، أو بوظيفة سرقت منك، أو تسيب أو إهمال تعرضت له، وهكذا يذهب المخطئ والمهمل بخطئهما.. بل وحتى السارق بسرقته! لا يمكن أن نكافح الفساد دون أن نعمق شعور الفرد بحقوقه وواجباته، والتأكيد على أن رفض الظلم ومكافحة الفساد الإداري والمالي واجب ديني قبل كل شيء. ولا يمكن أن نكافح الفساد دون أن يُعرّف الفرد بآليات التبيلغ عن الفساد، ودون تنصيص قوانين رادعة تقمع الفساد بكافة أشكاله، وضمان سلامة المبلغ، وعدم تعرضه لعواقب كيدية نتيجة للتبليغ. ففي المجتمعات السلطوية القمعية تعزز دوما مشاعر التخويف والترهيب من المطالبة بالحقوق، لتصبح شكاية صاحب المنصب ضربا من المستحيل، إما لخوف المتظلم من عواقب تلك الشكوى التي قد تصل لقطع الرزق، أو لليأس من نيل الحقوق من جهة أخرى! واليوم ونحن نحصد الآثار الدامية تتهيأ بنية مجتمعنا لغرس الثقافة الحقوقية، ولابد أن تكون البداية من التربية والتعليم! من التعليم نبدأ لمكافحة الفساد عبر محاربة التسيب والإهمال من الداخل فالمعلم قدوة للتلميذ، ومن خلال مناهج وبرامج تثقيفية حوارية تعرف الطالب بحقوقه وواجباته وتحثه على رفض الظلم أيا كان مصدره، وتربيته على تقديس العلم والعمل، ورفض وتجريم الغش والتسيب والإهمال وعدم الحرص على الإتقان. لابد من مراجعة برامج الوطنية المعتمدة على الكلمات الإنشائية الفضفاضة التي لا تؤسس شعورا بالولاء أو الانتماء، فلا يمكن تعميق حب الوطن والحرص على مقدراته، دون تحقيق قيم المواطنة القائمة على المساواة بين المواطنين بناء على الكفاءة!