الفساد، ظاهرة عالمية لا تختص بدين ولا ثقافة ولا قومية ولا جنس ولا مجتمع، عرفتها كافة المجتمعات البشرية عبر التاريخ، ولا يكاد يخلو منها مجتمع، غنياً كان أو فقيراً، متطوراً أم غير متطور، مع ملاحظة أن المجتمعات تتفاوت في نسب الفساد ومستوياته وأشكاله وطرق كشفه ومعالجته، فالمجتمعات المتطورة لديها من آليات الرقابة والمساءلة الفاعلة ومن قوة الحصافة المجتمعية ووعي الرأي والحريات الإعلامية الواسعة، ما يمكنّها من كشف الفساد ومقاومته وتحجيمه ومحاصرته بخلاف ما عليه الحال في معظم المجتمعات الأخرى غير المتطورة والتي لا تملك مثل هذه الفاعلية بسبب ضبابية التشريعات وغياب الشفافية وعجز المؤسسات والآليات الرقابية وقوة مؤسسة الفساد. ما هو الفساد؟ يتفق الباحثون والخبراء على أنه من الصعب وضع تعريف جامع مانع للفساد لأنه ظاهرة معقدة ومتشعبة ومتداخلة في كل المناحي الشعبية والرسمية، فهناك فساد سياسي، وفساد مالي، وفساد إداري، وفساد اجتماعي وفساد ديني، بل هناك فساد قانوني، بمعنى أنه فساد مقنن وهذا هو أخطر أنواع الفساد، فلا يمكن وضع تعريف شامل لكل أنواع الفساد، ولعل هذا ما دفع مندوبي الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر 2003 إلى تجنب تبنّي تعريف شامل للفساد في أول اتفاقية دولية لمكافحة الفساد، ولجؤوا إلى وضع توصيف للحالات التي تُعدُّ فساداً مجرماً، وهي الرشوة بجميع وجوهها في القطاعين العام والخاص والاختلاس والمتاجرة بالنفوذ وإساءة استغلال الوظيفة، والإثراء غير المشروع وغسل العائدات الإجرامية، وإخفاء الممتلكات المتأتية من جرائم الفساد، وإعاقة سير العدالة فيما يتعلق بهذه الجرائم، مع ملاحظة أن الاتفاقية الأممية في تحديدها لحالات الفساد غلّبت الممارسات الفاسدة ذات الانعكاس الاقتصادي والتنموي تمشياً مع التيار العالمي المعبّر عن إدانة الفساد من منطلق تنموي براغماتي وليس من منطلق فلسفي أو أخلاقي. وفي هذا يضيق مفهوم الفساد في اتفاقية الأممالمتحدة الخاصة بالفساد وغيرها من التعاريف المعتمدة في أدبيات التنمية، وفي تقارير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، عن "المفهوم القرآني للفساد"، إذ يتسم المدلول القرآني للفساد بالاتساع والشمول، فالقرآن الكريم تناول الفساد في 50 آية محذراً ومستنكراً، وفي مقابلها 150 آية مشجعاً على إصلاح الفساد. القرآن الكريم يحذرنا في هذه الآيات تحذيراً جازماً متكرراً من التساهل في مواجهة الفساد حتى لا يستشري ويتغلغل في مفاصل السلطة والمجتمع، فتكون العاقبة كما حل بالأمم السابقة التي فسدت فحق عليها الدمار والهلاك. يقول عز وجل: "فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض"، ويقول: "وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها)، ويقول: "ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا". كما يرشدنا القرآن الكريم إلى الأسلوب الأمثل في تغيير الفساد؛ تغيير ما بالنفس: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم". والتعريف اللغوي للفساد في تراثنا الثقافي يرادف المفهوم القرآن، فالفساد في اللغة: كل ما هو نقيض الصلاح، ويشمل كافة الانحرافات عن الاعتدال، والهلاك والقحط، والسحر والظلم والقتل والكفر والمعاصي والخراب والجور.. إلخ. ويقظة المسلمين في مقاومة الفساد مبكرة جداً في التاريخ الإسلامي. وقد بلور ابن خلدون في مقدمته نظرية عن الفساد وآلياته وتطوراته وعقباته، وتكلم بتفصيل عن أطوار الأمم والعدل والعمران والفساد المؤذن بالخراب. لقد كان الفساد فيما مضى شأناً داخلياً بكل مجتمع يعالج في نطاق المجتمع المنكوب بآفة الفساد بمعزل عن الجهود الدولية وتعاونها، لكن منذ الاتفاقية الأممية للفساد، أصبح الفساد شأناً دولياً مثله مثل تجارة المخدرات والتجارة في البشر ومكافحة الإرهاب وحماية البيئة، تتعاون الدول في مواجهته وتنسق الجهود حوله وتعقد المؤتمرات والمنتديات السنوية حول سبل معالجته، وعياً بأن الفساد آفة دولية منتشرة عبر منظمات لها شبكاتها الواسعة في كل الدول، لذلك يجب مكافحته جماعياً. لقد شكل الفساد على المستوى الدولي عائقاً أمام برامج الإصلاح التنموي، وأمام الاستثمارات الدولية والقروض والمساعدات وكافة أنواع المعاملات الاقتصادية الدولية، لذلك نشطت منظمة الشفافية العالمية التي أنشئت عام 1993 في متابعة ومراقبة أوضاع الفساد في كافة دول العالم عبر تقارير سنوية. وإذا كان للضغط الجوي بارومترا يقيسه وينبئ بحالة الجو، فكذلك لمنظمة الشفافية الدولية بارومتر يقيس حالة الفساد في كل دولة، والجهود المبذولة لمواجهته عبر مؤشرات الشفافية التي تضع كل دولة في موضعها من قائمة الشفافية الدولية. ومما يحمد أن الدول الخليجية تحتل مواقع متقدمة مقارنة ببقية الدول العربية، وتتصدر قطر الدول العربية باعتبارها الأقل فساداً. الفساد آفة خطيرة ومستشرية في المجتمعات العربية كافة، ويساعد على انتشارها أن البيئة العربية عندها القابلية للفساد ومهيئة له بسبب عدم تفعيل آليات المراقبة والمساءلة بالشكل المطلوب وتعطيل حكم القانون بسبب الحريات الإعلامية المقيدة، لأن الإعلام عامة والصحافة خاصة تعلب دوراً رئيسياً في تسليط الأضواء الكاشفة على مواطن الفساد في الدولة والمجتمع وتحشد الرأي العام لمطالبة الجهات المسؤولة بالتحرك لملاحقة الفساد ومعالجته. ومما يؤسف له أن أنواعاً من الفساد أصبحت ممارسة مقبولة اجتماعياً في بعض الدول العربية وثقافة سائدة، مثل الرشوة لتخليص المعاملات أو لقضاء المصالح في بعض الجهات الحكومية، بل هناك من يبرر هذه الرشوة باعتبارها حافزاً مالياً ضرورياً لإنجاز الأعمال! إن خطورة الفساد لا تقتصر على تعويق التنمية بل وتخريبها وهروب الاستثمارات وتعذر الإصلاح، وإنما الخطورة الكبرى على قيم المجتمع بإفساد الذمم وخلق سلوكيات منحرفة، وكذلك إفساد أخلاقيات العمل، فيفقد المواطن ثقته بأهمية العمل وجدواه، ويتولد عنده شعور بعدم المبالاة والإهمال وعدم الإخلاص والتهاون في أداء الواجب الوظيفي وتعطيل المعاملات، إضافة إلى فقدان القانون لأهميته في نظر الناس، بسبب تعذر معاقبة المفسدين. إن تعاظم حجم الفساد وانعدام الأمل في الإصلاح، هو الباعث الأكبر لثورات الربيع العربي، كما أن شيوع الفساد يخلق لدى الأشخاص روح التمرد ضد السلطة ويدفعهم للتظاهر والتخريب. وفي الكويت هذه الأيام حركة تذمر واسعة تجاه الفساد الذي طال بعض النواب فيما سمي بالإيداعات المليونية، وفي الأردن تظاهرت المعارضة ضد قانون "هيئة مكافحة الفساد" ورأت فيه تحصيناً للفساد، لأنه يفرض غرامة كبيرة ضد من يتهم غيره بالفساد دون إثبات! علاج الفساد يكون بتفعيل آليات المراقبة والمحاسبة وإطلاق الحريات الإعلامية وصرامة القانون واستقلالية القضاء وتوعية الرأي العام. نقلا عن صحيفة الاتحاد