عند كل موجة ثورية تجتاح أي بقعة في ه العالم يصبح السؤال عن مدي تأثيرها في محيطها الدولي و الإقليمي هو أكثر الأسئلة إلحاحا ، و مما لا شك فيه ان الأنظمة المحيطة ببؤرة الثورة ستحرص جاهدة علي تحصين نفسها ضد الثورة أو حتي مجرد إحتمالاتها ، فهل من الوارد أن تنتقل عدوي الثورات التي إجتاحت العالم العربي في أنظمته الجمهورية إلي دول الخليج ؟ الإجابة علي هذا التساؤل الهام تستلزم أولاً الإجابة عن تساؤل آخر أكثر أهمية و دلالة و هو : كيف " لماذا " تثور الشعوب ؟ تهدف الثورة في الأساس و بإعتبارها أعلي صور العمل الإحتجاجي إلي إعادة صياغة و تشكيل العلاقات الإقتصادية و السياسية المستقرة داخل أي مجتمع ، و من الممكن أن نسرد في هذا السياق عشرات الأسباب لثورات الشعوب ، قد يكون بعضها سياسيا أو إقتصاديا أو إجتماعيا ، أو قد يكون البعض الأخر متعلقا بالطبيعة الديموغرافية أو العرقية أو الدينية .. إلخ ، إلا إننا نري أن السبب الأكثر شمولا و تعميما هو في الأساس سببا " طبقيا " ، وهو الذي يستلزم انحياز النظام القائم ضد مصالح الطبقة أو الشريحة الأكثر تأثيرا و فاعلية في المجتمع ، والتي هي - فيما يشبه إجماعا من علماء الأقتصاد و الإجتماع – الطبقة الوسطي ، و ذلك علي إعتبار ان هذه الطبقة هي تحمل علي عاتقها عبء النشاط الإقتصادي بالدرجة الأولي ، كما إنها تعتبر مكمن القيم الإجتماعية الأساسية داخل أي مجتمع ، ولأنها الطبقة الأكثر تأثيرا و تفاعلا في المجتمع فإنه حال وصول حدة تناقض المصالح – بإعتباره شرطا موضوعيا - الي ذروته ، تصبح الطبقة الوسطي هي الأكثر قدرة علي امتلاك الفعل الثوري ، إلا أن ذلك مشروط بقدرة هذه الطبقة علي الإستقلالية و التنظيم و إمتلاكها قدرا معقولا من الوعي بذاتها يمكنها من إحداث التغيير الثوري . وفيما أري فإن دول الخليج ليست استثناءاً من هذا النظر ، علي أنه يجب أن أشير في هذا السياق إلي أن بعض الباحثين و المراقبين يعولون في إمكانية قيام الثورة من عدمها في منطقة الخليج علي عوامل عدة منها طبيعة الأسر الحاكمة و الوضع الطائفي و القبلي و المناطقي و التركيبة السكانية ... إلخ و هي عوامل علي اهميتها إلا أنها تالية في الأهمية للعامل الأساسي – الأوًلي – الذي أشرنا إليه آنفا . من هذا المنظور فلا مناص إذن من دراسة و تحليل أوضاع الطبقة الوسطي في منطقة الخليج لبيان مدي توافر الشرط الموضوعي للثورة الذي أشرنا إليه آنفا ، ألا وهو التناقض بين مصالح الطبقة الوسطي في الخليج و مصالح السلطة الحاكمة هناك ، وهي دراسة أزعم انها تحتاج جهدا جادا من جانب المختصين في مجالي العلوم الإجتماعية و الإقتصاد ، غير أن هناك من الشواهد و الأدلة التي ترجح أن فرص التغيير الثوري في بلدان الخليج تكاد تكون منعدمة ، علي الأقل في المدي القريب والمتوسط ، فإرتفاع معدلات النمو الإقتصادي لدول مجلس التعاون الخليجي الي المستوي الذي يجعلها من أفضل الإقتصادات آداءً خلال العقد الأول من القرن الواحد و العشرين طبقا لتصنيف البنك الدولي - رغم كونها إقتصادات إستهلاكية في المقام الأول - ، و حرص الأنظمة الحاكمة في الخليج – في ظل الإقتصاد الريعي - علي دعم ورعاية شرائح الطبقة الوسطي من خلال سعي هذه الأنظمة إلي دفع وتيرة التنمية البشرية إلي أقصي مدي لها ، لا سيما في مجالي الصحة و التعليم بما يضمن توزيعا شبه عادل و تقريبا للفوارق في الدخول بين شرائح و أفراد تلك الطبقة علي الأقل ، بالأضافة إلي وجود حد أدني من المرونة من قبل الأنظمة الحاكمة في الإستجابة للإصلاحات الإقتصادية و السياسية ، كل ذلك من شأنه أن يقلل من إحساس الطبقة الوسطي الخليجية بالأزمة أو التعارض بين مصالحها و مصالح حكامها ، ومن ناحية أخري فإنه إذا ما تعرضت هذه الطبقة لهزة ما نتيجة لإرتباط إقتصادات الدول الخليجية و تشابكها مع الإقتصاد العالمي و المعرض من وقت لآخر للأزمات الكبري فإن الطبيعة الريعية للإقتصاد الخليجي كفيلة بتخفيف آثار تلك الأزمات علي الطبقة الوسطي الخليجية ، و بناء علي ذلك فإن المببرات " الموضوعية " التي قد تدفع الطبقة الوسطي للفعل الثوري تكاد تكون معدومة . لا يقدح في هذه النتيجة ما ذهب إليه البعض و منهم الباحث القطري عبد العزيز محمد الخاطر من أن الطبقة الوسطي في منطقة الخليج هي طبقة غير حقيقية وهلامية ، فضلا عن كونها عرضة للتآكل بإعتبارها وليدة الدولة الريعية الإستهلاكية ووجودها مرهون بدعم و رعاية هذه الدولة ، اللهم إلا " إذا قامت الدولة برفع مستويات الدخل لدي الأفراد من خلال السياسات النقدية و الإقتصادية للدولة لتحقيق قدر من العدالة الإجتماعية و كذلك مساعدة المجتمع لبناء ذاته من الداخل من خلال جمعيات المجتمع المدني الوسيطة بين الدولة و الأفراد لتخفيف وهج القطاع الخاص المتعولم أمام الأفراد الضعفاء " ( مقال بعنوان : تخشي غدر الدولة - أزمة الطبقة الوسطي في الخليج - بتاريخ 15 / 1 / 2005- منشور علي موقع التجديد العربي ) . إلا أنه و مع وجاهة هذا الرأي فإنه من الملاحظ أن تلك السياسات التي أشار إليها الباحث قد تكون مطبقة بالفعل بشكل ما أو بآخر و بنسب متفاوتة بين دول مجلس التعاون الخليجي لا سيما في كل من الكويت و قطر و الإمارات وهو الأمر الذي يصب حتما في مصلحة ترسيخ و تدعيم الطبقة الوسطي بتلك الدول ، حتي و إن كانت تلك الطبقة هشة إلي حد ما ولا تملك مقومات وجودها و بقائها بشكل كامل و مستقل بعيداً عن دعم الدولة ، فإن الإهتمام الزائد من قبل أنظمة الخليج بالتنمية البشرية و جعلها علي قمة أولوياتها - لا سيما في مجالي الصحة و التعليم - من شأنه أن يعضد الوجود الذاتي لهذه الطبقة و يخلق لديها وعياً متنامياً بحقوقها و إمتيازاتها والذي هو شرط جوهري لتماسك الطبقة الوسطي و إستقلالها . علي جانب آخر فإن فكرة العقد الإجتماعي في دول الخليج تفترض شكلا خاصا للرضا و التوافق بين الحكام و المحكومين يقوم علي إعتبارات قبلية وعائلية في الأساس ، فالشكل التقليدي للمؤسسات و الهياكل السياسية الديموقراطية المتعارف عليها غير معروف في تلك الدول ، اللهم إلا في دولة الكويت وعلي نطاق ضيق بإعتبار التجربة النيابية المتميزة هناك ، إلا أن ذلك لايعني بحال ان تلك الدول لا تمارس ديوقراطيتها الخاصة – إن جاز التعبير – من خلال أطر و أشكال أخري غير تلك المتعارف عليها ، والتي تعتمد في الأساس علي فكرة الرضا و التعايش المشترك بين القبائل و العوائل التي يتكون منها المجتمع الخليجي ، و علي أي حال فإن مسألة تغيير منظومة الحكم في دول الخليج لا تشكل هاجسا علي الإطلاق لدي شعوب تلك المنطقة في ظل دعم الأنظمة الخليجية لشعوبها و إحتوائها إقتصاديا ، بحيث تظل مصلحة الطبقة الوسطي الخليجية مرهونة ببقاء و استقرار تلك النظم ، و هو الأمر الذي يعني مرة أخري غياب المبرر الموضوعي لأي فعل ثوري في دول الخليج . تظل هناك مسالة نراها بالغة الأهمية في سياق تحليل الواقع السياسي العربي ، إذ يميل بعض المراقبين و الباحثين السياسيين إلي المبالغة في تحميل الظواهر السياسية فوق ماتحتمل ، و إعطائها مدلولات أبعد مما تدل عليه ، فعقب النجاح المبهر للثورتين المصرية و التونسية و ما صاحبهما من زخم سياسي و إعلامي كبير ترك أثرا واسع المدي في المنطقة العربية بأكملها ، أصبح هناك من يتربص لكل تظاهرة أو حركة إحتجاجية تحدث في العالم العربي حتي و إن بدت ضئيلة للغاية ، و يسلط عليها الضوء علي إنها نتاج للمد الثوري المصري التونسي ، و أن ثمة بذور ثورة كامنة تنتظر لحظتها التاريخية للإنفجار ، بل و يذهب أبعد من ذلك في التنظير السياسي و الإجتماعي و الإقتصادي لهذه التظاهرات و الإحتجاجات ، التي تصبح – من وجهة نظرهم – مظهرا و دليلا علي كمون الثورة في المجتمعات التي نشأت فيها ، ظهر هذا جليا في طريقة تناول التظاهرات التي حدثت علي نطاق ضيق للغاية في كل من المملكة السعودية و سلطنة عمان و الكويت ، وهي من ضآلتها لم تكن لتذكر علي الإطلاق لولا أنها تزامنت مع الثورة المصرية و وقعت تحت تأثيرها النفسي و الإعلامي . أما الإضطرابات و الإحتجاجات العنيفة التي شهدتها مملكة البحرين فهي بدورها لا يمكن تصبح دليلا و الحال كذلك علي أن ثمة مدا ثوريا يضرب شواطئ الخليج العربي ، وإنما واقع الحال – فيما نري – أن شاء حظ هذه المملكة العاثر - ولإعتبارات طائفية و ديموغرافية – أن تصبح ساحة قتال و فرض نفوذ و إستعراض قوة بين قوي إقليمية كبري ، بالإضافة إلي كونها غير بعيدة أيضا عن التأثير النفسي للثورة المصرية ، و هو ماظهر بوضوح في إستعارة الأشكال و المظاهر الإحتجاجية للثورة المصرية ، ولا يمكن بأي حال من الأحوال تفسير ما حدث في البحرين خارج هذا السياق ، إذ تظل البحرين داخل إطار المنظومة الخليجية اجمالا و لا تشذ عنها . إن التحليل الموضوعي للواقع السياسي يؤكد بقوة أن دول الخليج ستكون في مأمن من المد الثوري العربي و أبعد من محيط تأثيره المباشر .