للسيدة صوت ملائكى يتسحب برفق ليدخل من مسام الجلد مشبعا مساحات الوجع فى الروح.. للسيدة حضور وتألق يفرض وجودها أينما حلت وحين تغيب.. للسيدة عشاق يملأون الأرض، ومريدون يرددون خلفها الأغنيات.. لذا فإن للسيدة فيروز أن تقول وعلينا السمع والطاعة. ربما هى الصدفة وحدها التى رتبت هذا الترتيب.. وربما يد القدر تفعل تصاريفها.. وربما التوفيق الذى لازم القائمين على تنظيم حفل ساحل علما بشمال بيروت.. وربما.. وربما.. وضع خلف «ربما» ما شئت من التبريرات لكنك ستكتشف مثلى فى النهاية أن وقوف فيروز فى هذا التوقيت لتشدو جاء بمثابة رسالة خاصة لمن يعيها ويفهمها.
ظهور فيروز فى هذا التوقيت لم يكن مقتصرا على المسرح الذى غنت على خشبته، لكنه ألقى بظلاله على مساحات شاسعة من الوطن العربى تعيش لحظات مخاض الحرية بعد فترة طويلة من العقم والجفاف.. وبالتالى كانت رسالتها فى تلك الأغنيات التى شدت بها لتقول «ايه.. فيه أمل»، و «طيرى يا طيارة» و» على جسر اللوزية»، و«لاقونا يا أهل الدار»، «مراكبنا ع المينا»، «تعا ولا تاجي» وغيرها من الأغنيات التى عاشت وما تزال فى قلوب الشعوب العربية.
غنت فيروز كما لم تغن من قبل، غنت لأنها أدركت مدى حاجتنا للغناء الآن، فكلنا يحمل مخاوفه على مصيره، وكلنا يسعى للخلاص الذى ربما نجده فى أغنية تحيلنا إلى الفرح وتعيد إلينا ابتسامتنا.. وهى التى منذ نصف قرن تغنى لنبتسم.. تغنى لنعيش.
لم تكتف بالغناء، لكنها حملت الدف، ولوحت به للحاضرين، فى إشار منها إلى أن هناك مساحة من الفرح يمكن لنا أن نعيشها ونرقص فيها، حتى ولو كره الحاقدون.
يوم الجمعة الماضى حين صعد شاب واعتلى مسرح «بلاتيا» الجديد، وجرى حيث تقف فيروز، وانحنى لها ليقبل فيها ما يقع عليه فمه، لم يخرج أحد ليتهمه بالجنون، لم يقل أحد أنه مارق وخارج عن إطار الدين وقدسية الحدث، بل التقطت العدسات والأقلام فعلته، وتناولتها بالرصد فقط لتؤكد أن شخصاً يقف فى نفس موقفه لن يملك إلا أن يحذو حذوه.. بل إن البعض ذهب لأبعد من ذلك وتمنى لأن يتاح له الأمر ليفعل نفس الشيء.
بعد غياب طويل قررت «جارة القمر» أن تقف لتغني.. بعد مرور عام منذ آخر ظهور لها عادت فيروز لتبث رسائلها لشعوب العرب، ليعلم السوريون أنها تدعو لهم بالغناء أن يتعدوا المحنة، ليدرك أبناء مصر أن الغد أرحب بكثير من ضيق أفق المتزمتين.. وليؤمن أبناء فلسطين أن الخلاص قادم لا محالة.
الآن ربما أجد فى نفسى بعض الحزن لأننى لم أكن هناك.. مثل من حضروا ومنهم الفنان عادل إمام الذى ساعدته الظروف، ووقفت بجانبه المقادير ليكون حاضرا حيث هي.. ليعيش لحظات فى حضور السيدة فيروز، خاصة أن تلك اللحظات نادرة، ولا تتكرر إلا فى أوقات بعيدة.
كل من حضر الحفل، يحمل بداخله إما ذكرى أو وجعا.. لم تكن المسافة مانعا.. لم يكن البعد عائقاً.. هناك فيروز فكل أمر صعب يهون.. من أجلها ازدحم الأفق.. لها تتوجه القلوب، وتشخص العيون، وترهف الآذان، فما ستقوله إن لم يكن شافيا فإنه يحمل وصفات الدواء.. ما تنشده سيظل باقياً كما بقى غيره منذ زمن طويل.
المشكلة الكبرى فى علاقة عشاقها بصوتها، أنهم لا يمتلكون معه الاختيار، وهو ما يضعهم ويضعها أيضا فى موقف يتسم بالصعوبة، لذا عادة ما يكون ظهورها بمثابة بدايات أخرى لسعادتهم.. ويكون صوتها ميلادا جديدا للأمل بداخلهم.