«كفرت بكل الأشخاص ».. هذا ما كتبه الشاب السلفى على ظهره فى ميدان التحرير، معلنا للعالم تبرؤه من قيادات سلفية أدمنت الانبطاح للسلطة.. تمامًا كما رفعها الإخوانى شعارًا فى وجه جماعة جعلت من فريضة الجهاد بوصلة تتحرك فقط باتجاه مصالحها السياسية. ليشهد الفصل الثانى من الثورة تناقضًا حادًا بين قناعات شباب الإخوان والسلفيين والجماعات الإسلامية، وبين الحسابات السياسية لتنظيمات خذلتهم، وقيادات اشترت كرسى البرلمان، ورضاء العسكرى بدماء الشهداء فأعلنوا الخروج عن طاعتها.
حالة احتقان داخلية غير متصورة تعيشها جماعة الإخوان المسلمين الآن، بسبب قرارها الرسمى بعدم المشاركة فى الاعتصام بميدان التحرير، وما ترتب عليه من أوامر تنظيمية شديدة اللهجة من الجماعة لأعضائها تمنعهم من النزول إلى الميدان، بالإضافة إلى حلقات التوعية، والمحاضرات طيلة الأيام الماضية من قيادات الجماعة لقواعدها فى جميع الشعب والمناطق الإخوانية بأن المجلس العسكرى قد انقلب علينا مع اقتراب الانتخابات.. وأن ما يجرى الآن فى ميدان التحرير هو فخ متعمد من المجلس لاستدراج الجماعة للمشاركة فى مواجهات العنف بالميدان حتى يكون ذلك مبررا ل« قلب الترابيزة» عليها، وتصعيد الموقف بعد ذلك إلى كارثة تؤدى فى النهاية إلى إلغاء الانتخابات وحرمان الإخوان من برلمان أصبح فى جيوبهم وإعادتهم مرة أخرى إلى كماشة «الحظر» بعد أن أفلتوا منها.. وعلى ذلك فقد رفضت جماعة الإخوان المسلمين جميع الدعاوى لها بالنزول إلى التحرير مع رغبتها فى ذلك درءا للمفاسد..
كل ذلك تضمنه أيضا المنشور الداخلى الذى تم توزيعه على جميع أعضاء الجماعة فى المحافظات يذكرهم بكلمات «الإمام الشهيد » حسن البنا فى السيطرة على العواطف من أجل المصلحة، على خلفية أمر تنظيمى واضح للقواعد بعدم المشاركة فى اعتصام التحرير أو مليونية إنقاذ الثورة، فى تأكيد على أن المشارك سيتم التعامل معه باعتباره خارجًا على الجماعة، فى تهديد واضح بالفصل.
وذلك بالتوازى مع رسالة د.محمد بديع، المرشد العام، والتى وجهها إلى الصف الداخلى فى الجماعة وأكد فيها بشكل واضح أن الجماعة لديها كل المعلومات الدقيقة التى مكنتها من قراءة المشهد بشكل صحيح، والتى دعمتها أيضا بإعمال مبدأ الشورى فى اتخاذ قرار عدم المشاركة فى الاعتصام، مؤكدا أن الإخوان اختاروا تحمل ظلم الهجوم عليهم، بسبب عدم استجابتهم لدعوات النزول إلى التحرير لإنقاذ الجرحى والمصابين وحمايتهم.. فى سبيل المصلحة الوطنية، ولأن نزول الإخوان إلى الميدان الآن هو «المفسدة الكبرى » بعينها.
هذا ناهيك عن رسائل الموبايل التى ترسلها الجماعة لكل أعضائها نصها « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فاليترك ميدان التحرير ولا ينساق خلف الفتنة ويصلى ويدعو للشباب المتهور هناك بالهداية».
معطيات ساهمت جميعا فى الوصول بالأزمة بين الجماعة وشبابها إلى طريق مسدود خاصة أن شباب الإخوان - خارج السيطرة - قد حاولوا فى البداية التماس الأعذار للجماعة فى منعها إعطاء الأوامر لجمهور الجماعة بالنزول، غيرأن بيان اجتماع مكتب الإرشاد يوم الاثنين، والذى خرج محددا أولويات الجماعة.. «الانتخابات أولا»، كان هوالقشة التى قصمت ظهر البعير..
مانتج عنه بعد ذلك عدد كبير من الاستقالات الجماعية من جماعة الإخوان المسلمين فى مختلف المستويات التنظيمية بمحافظات مصر، بعد أن وضع البيان قيادات الجماعة فى مواجهة مباشرة مع معارضيها الذين أعلنوا أن «القيادة التى تصنع مجدها السياسى بخذلان دماء الشهداء لا سمع لها ولا طاعة على أتباعها، » وأنه « لاشرف فى انتخابات ستفوز بها الجماعة مادامت ملوثة بدماء الأبرياء »..
ما أسفر بعد ذلك عن حرب فقهية وإلكترونية متبادلة بين شباب الإخوان الرافضين للقرار، وبين الخطاب التنظيمى داخل الجماعة، تصاعدت خلاله حرب الفيس بوك التى عكست خيبة أمل شريحة لابأس بها من شباب الإخوان فى قياداتهم، كما شهدت عملية تحريض ضد قرار الجماعة، وتعبئة للقواعد على عصيان أوامر القيادات والنزول للجهاد..
فكتب أحد الشباب « ولو السماء انطبقت على الأرض فلن يكون صوتى للحرية والعدالة ».. فيما أعلن آخر «الحق أحق أن يتبع.. سقطت ورقة التوت».. واستحضر غيرهما الأحاديث النبوية «من خذل مسلما فى موطن وهو قادر على نصره خذله الله فى موطن يحب أن ينصر فيه ».. « لأن تهدم الكعبة حرما حرما أهون عندالله من إراقة دم امرئ مسلم.. الكعبة أم البرلمان؟!..
فيما استنجد أحد أطباء الإخوان من داخل أحد المستشفيات الميدانية قياداته قائلا «بالله عليكم لا تذهبوا للجلوس مع المجلس العسكرى وتتركوا شبابكم يموتون فى الميدان.. فلا تفاوضوا على دمائهم «..
حتى عندما خرج د.محمد البلتاجى على الفضائيات معلنا اعتذاره - منفرد أو بشكل شخصى - عن تخلف الإخوان عن مساندة الثوار فى التحرير وكتب على صفحته على الفيس بوك أن الجماعة لابد أن تراجع موقفها، وجد الفتاة الإخوانية ترد عليه.. «شكرا يا دكتور بس تفتكر ده هيعوضنا عن الشهدا اللى ماتوا والناس اللى اتصابوا؟!».. فيما أضاف آخر.. « أنا حزين.. احنا نبات فى بيوتنا وفى شباب بيموتوا فى الميدان ننتظر قرار حاسم من مكتب الارشاد بعد اجتماعه المعلن عنه».
هكذا سقطت ورقة التوت عن الإخوان المسلمين، بنص تعبير أحد شبابها، .. خاصة أن الجماعة التى تتخلف عن المصابين والقتلى فى الميدان هى نفسها التى خططت وأعطت الأوامر قبل أيام فقط لكوادرها بالنزول إلى التحرير وإلى جميع ميادين مصر وكذلك إعلان عصيان مدنى يبدأ من أساتذة وطلبة الجماعات إذا ما قرر المجلس العسكرى إلغاء الانتخابات..
وعلى ذلك فلم تحقق الاتصالات التليفونية من مسئولى الشعب للشباب الإخوانى الموجودين فى الميدان -تطالبهم بالعودة من الميدان لمساندة الجماعة فى الانتخابات- أى جدوى منها، ليس هذا فقط.. بل أعلن عدد من الشباب الإخوانى الموجود فى الحملات الانتخابية بالجيزة و6 أكتوبر، رفضهم المشاركة فى هذه الحملات اعتراضا على موقف الجماعة من المعتصمين.
وفى تحد واضح لقرارات الجماعة أعلن خفاجى أمين: شباب حزب «الحرية والعدالة» بالجيزة يخرق قرارالمنع والنزول لمشاركة المعتصمين فى الميدان، وخالد حنفى أيضا مرشح الإخوان فى دائرة السيدة زينب على المقعد الفردي، الذى أصبح مديرا للمستشفى الميدانى فى التحرير، فيما قرر محمد الجبة عضو ائتلاف شباب الثورة المرشح على قائمة الحرية والعدالة فى دمياط انسحابه من الانتخابات نهائيا، بعد أن كتب على صفحته على الفيس بوك «لن أترشح فى انتخابات ثمنها مئات الشهداء وآلاف المصابين من إخوتى ».
وصولا إلى أطباء الامتياز من الإخوان فى قصر العينى والذين يدرسون حاليا الاستقالة الجماعية من الإخوان، بعد كمية المصابين والشهداء التى وصلت إليهم من التحرير وحاولوا إسعافها هناك، وذلك بعد أن أعلن مسئول طب الإخوان النزول بنفسه إلى ميدان التحرير متحديا قرار الجماعة أيضا.
التيارات السلفية أيضا لم تكن أفضل حالا من الإخوان المسلمين، ففى ظل رفض كبار مشايخ السلفية محمد عبدالمقصود وأبوإسحاق الحوينى وياسر برهامي، استمرار الاعتصام فى ميدان التحرير أو المحافظات، وانتقادهم لموقف حازم صلاح أبوإسماعيل بشدة فى دعوته للاعتصام، فى اتهام له بأنه يخرج عن إجماع السلفيين بإصراره على موقفه، ناهيك عن البيان الرسمى للدعوة السلفية الذى أدان الاعتصام بوضوح.
كل هذا أدى إلى انتقال عدوى التمرد من الإخوان المسلمين إلى الشباب من نشطاء السلفيين، الذين نزلوا إلى الميدان بعد لصق لافتات ورقية على ظهورهم كتبوا عليها «أنا سلفي.. لست تابعا لأحد إلا لديني، ثم حرية هذا البلد، وأرفض بيان الدعوة السلفية المنبطح.. فقد كفرت بالأشخاص».. «معذرة شيخى فأخى يقتل بجانبى »، وصولا أما الجماعة الإسلامية فقد شاركت الإخوان المسلمين فى التصريح بأن مايحدث فى التحرير، هو بالأساس مخطط من المجلس العسكرى لإلغاء الانتخابات، وعلى ذلك فقد جددت على لسان قياداتها أنها لن تشارك فى الاعتصام بالميدان.
غير أن ذلك أيضا لم يمنع بعض شباب الجماعة الإسلامية من الخروج على قرار قياداتهم ولو بأعداد قليلة، الأمر الذى أسفر عن استشهاد أحدهم وهو محمد أحمد عبادى من الجيزة وإصابة آخر هو طلحة حمدى أبو القاسم من إمبابة