لم ينعزل الدين أبدا فى مصر عن السياسة، منذ الفراعنة وحتى ثورة 25 يناير، لكن تداخلت أشكال التدين ومقولات منتجى الخطاب الدينى مع الممارسات السياسية اختلفت من زمن إلى آخر، بادئا بتأليه الحاكم فى مصر القديمة، ثم تبجيله فى العهد القبطى، لتنتهى رحلة توقيره وطاعته فى العهد الإسلامى بتكفيره على أيدى بعض الجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامى . والجماعات التراثية الجديدة ولدت من رحم السياسة، ولا جدال فى هذا، فمشروع حسن البنا كان ردا على انهيار الخلافة العثمانية، والجمعيات الإسلامية التى نشطت مع مطلع القرن العشرين كانت محاولة لتطويق وحصار الإرساليات والثقافة الغربية فى مصر ومنذ ذلك التاريخ وهذه الجماعات تتعاطى السياسة بدرجات متفاوتة، لكن إيمانها بأن الوصول إلى السلطة هو الخطوة الأكبر والأهم نحو تحقيق أهداف هذه الجماعات لم يتفاوت من لحظة إلى أخرى، اتكاء على القاعدة الفقهية ذائعة الصيت التى تقول "ما لا يزع بالقرآن، يزع بالسلطان". ودفع التيار الإسلامى المحافظ فى مصر ثمنا باهظا طيلة حكم الرئيس السابق حسنى مبارك، الذى وصلت علاقته بأتباع هذا التيار إلى ما يشبه العقدة النفسية، فرغم أن الإخوان لم يكلوا أو يملوا من طرق باب السلطة أيام مبارك بين فينة وأخرى فإنه لم يفتح لهم سوى مرة واحدة عابرة حين عقد معهم صفقة انتخابية عام 2005 ليبعث رسالة واضحة إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، التى كانت تضغط عليه من أجل الإصلاح، بأن البديل لنظامه هى جماعة الإخوان، وبالتالى لا تجد واشنطن بدا من استمرار وضع يدها فى يد مبارك وأعوانه، كحليف استراتيجى، نزولا على "فزاعة الإخوان" التى أحسن مبارك استعمالها لإطالة أمد حكمه. وفى المقابل تم تطبيع العلاقة بين النظام و"الجماعة الإسلامية" بعد مراجعة مواقفها ونبذ العنف، وعلى التوازى تم التخفف من أعباء تنظيم الجهاد إثر انخراطه فى "القاعدة" ابتداء من عام 1997، ووظف مبارك فى الوقت نفسه فريقا من التيار السلفى لخدمة سياسات النظام البائد وتبريرها وتعزيز شرعيته بمنحه خطابا دينيا يساعده على مواجهة الخطاب المناهض له الذى قدمه الإخوان، لكن قطاعا من السلفيين رفض الانضواء تحت عباءة النظام، وقاوم عمليات التجنيد التى مارسها "أمن الدولة" ونجح فى اصطياد البعض ليعملوا لصالح السلطة. وقبل انطلاق الموجة الأولى للثورة، والتى انتهت بإجبار الرئيس السابق حسنى مبارك على ترك السلطة، أعلنت جماعة الإخوان أنها لن تشارك فى المظاهرات التى دعت إليها قوى سياسية فى 25 يناير، الذى يوافق عيد الشرطة، ثم تراجعت الجماعة قليلا عن موقفها بالقول إنها لن تمنع أى فرد إخوانى من المشاركة بصفته الشخصية وليس ممثلا عن الجماعة. لكن بعض شباب الإخوان لم يمتثل للمنع أو التحايل ونزل إلى الشارع فى اليوم الأول، على التوازى كانت مختلف التيارات السلفية تحرم التظاهر بدعوى أنه خروج على ولى الأمر، وكانت الكنيسة أيضا قد اتخذت قرارها، كالمعتاد، فى صالح النظام الحاكم، وضد المتظاهرين. وما إن انطلقت الثورة ودهس الشعب المصرى يوم 28 يناير قوات الأمن المفرطة فى القوة والغطرسة، حتى سارع أتباع التيار المحافظ تدريجيا إلى المشاركة، ولعب الإخوان دورا بارزا فى تنظيم ميدان التحرير وساهموا بطريقة لافتة فى الدفاع عنه يوم اعتداء البلطجية فى الحادثة التى عرفت ب"موقعة الجمل"، وما إن انتهت الموجة الأولى للثورة حتى سارع هؤلاء إلى اقتناص اللحظة بالدخول فى منافسة شرسة مع "التيار الإصلاحى" الذى أطلق الثورة لتعزيز المراكز والمواقع السياسية فى المرحلة المقبلة، دون انتظار أن تكتمل الثورة أو تنضج، وبلغ هذا التنافس ذروته مع الاستفتاء على التعديلات الدستورية فى 19 مارس . وحتى نقف على كيفية تعلم التيار الدينى المحافظ من الثورة يجب أن نعرف شكل ومحتوى الحضور الدينى بميدان التحرير، فقبل ساعات من انطلاق الثورة كانت الحالة الدينية فى بلدنا العظيم تعرض على سطح الأحداث أسوأ ما فيها، حيث ضيق الأفق، وحرج الصدور، وانغلاق الأذهان، واحتقان النفوس، فالغضب الشديد كان سائدا بعد حادث تفجير كنيسة القديسين بمدينة الإسكندرية، الذى استشهد فيه نحو 26 مصريا والإعلام الرسمى كان يسوق الرأى العام فى اتجاه يقول إن مصر دخلت ضمن "حزام القاعدة"، بعد اتهام ما يسمى "جيش الإسلام" فى غزة بأنه وراء الحادث. وعلى التوازى كان الإخوان يكظمون غيظهم، ويكبحون جماح أنفسهم، حتى لا ينفجروا فى وجه النظام منزلقين إلى عنف مادى فارقوه منذ عقود، والتيار السلفى الدعوى كان يشحن المجال العام بحديث عن تدلل الكنيسة على الدولة المصرية، والمسلمون جميعا كانوا يحاولون تناسى إساءة أحد الأساقفة إلى الإسلام، بينما كان المسيحيون مستاءين من اتهامات تدعى أن الكنائس تحولت إلى مخازن أسلحة.وقد كان عقلاء المصريين يستدعون فى لحظات الحزن من "الاحتقان الطائفى" تجربة ثورة 1919، التى تعانق فيها الهلال والصليب، ويشعر كثيرون منهم بأنها تبدو فى وقتنا هذا "صرحا من خيال فهوى"، لكن كل شىء استعاد عافيته فى زمن يسير، وفترة مدهشة من تاريخ مصر، عاد فيها الهلال والصليب إلى التعانق، وأقيمت "صلاة الجمعة" فى مكان أقيم فيه "قداس الأحد"، وتجاور الإخوان والسلفيون والمسلمون العاديون والمسيحيون بمختلف توجهاتهم السياسية وميولهم النفسية، ثم انصهر الجميع فى تجربة مصرية عظيمة تمثلت فى ثورة 25 يناير، وتحت ظلال وطنية واحدة، وراية متوحدة ترفع شعارا يقول من دون مواربة "الشعب يريد إسقاط النظام". وظنى أن هذه التجربة علمت أتباع المسارات الدينية، الدعوى منها والسياسى، درسا بليغا، من الصعب أن تأتى عليه الأيام بسهولة، فالإخوان المسلمين كان أداؤهم قبل ثورة يناير لا يخلو من غرور، حين يقارنون بين وضعهم كجماعة ضاربة بجذورها فى التربة المصرية ولديها قدرات مادية وتنظيمية وأيديولوجية كبيرة وظاهرة، وأحزاب سياسية ضعيفة ومتهالكة ومتهافتة على السلطة وقانعة بالفتات المتاح الذى تقدمه لها، لكن الإخوان اكتشفوا فى أتون الثورة أنهم قطرة فى بئر، أو قلة فى كثرة وأن القوة الكبيرة التى بوسعها أن تحقق الدفع الهادر نحو التغيير هى قوة الجماهير العريضة حين تتلاحم. وفى الوقت ذاته عرف الجمهور المصرى العام أن الإخوان بوسعهم أن يندمجوا تحت راية مشروع وطنى سريع، فقد تماثلوا مع الناس فى كل الميادين المصرية، التى شهدت الاحتجاجات، ولم يتمايزوا عن أحد، ولعبوا دورا ملموسا فى نقل الثورة من ال"فيس بوك" إلى "الناس بوك" أسرع مما تصور نظام مبارك، ودافعوا باستماتة عن ميدان التحرير فى وجه "البلطجية" والأمن السرى، وساهموا بقوة فى تنظيم حركة الدخول إليه والخروج منه. وساهمت مشاركة المسيحيين فى إضفاء طابع وطنى على ثورتنا العظيمة، ودحضت الدعاية التى أطلقها النظام وادعت أن الإخوان المسلمين يقفون وراء الثورة، ويسعون من خلالها إلى القفز على السلطة.ورغم مشاركة جماعات شتى من "السلفيين" إلى جانب الإخوان فى الثورة المصرية، فقد غاب رفع الشعارات وطرح الرموز الدينية، وطغت الروح والتعبيرات الوطنية، ووجدنا شبابا ملتحين جلابيبهم قصيرة يصدحون بالغناء الوطنى مع غيرهم من الشباب المصرى، ووجدنا فتيات سافرات يشبكن أيديهن مع منتقبات ومحجبات، وكان كلما أخطأ أحد المنتمين إلى التيار الإسلامى وهتف هتافا دينيا وجد من يزجره بلطف، أو تم تجنيبه دون استجابة له، بينما يصرخ آخر بهتاف وطنى عام، يعبر عن مطالب الثورة، فيتعالى خلفه هتاف هادر لا يسمع سواه. وفى الوقت نفسه أدرك المسيحيون أن نيل الحقوق لا يتم بالطاعة العمياء لرجال الكنيسة المتحالفين مع السلطة، ولا بالتظاهر داخل أسوار الكاتدرائية، إنما بالانخراط وسط التيار المصرى العريض المطالب بالتغيير، وقبل ذلك كان كل المسيحيين المصريين لا يدركون هذا الأمر، ولا يلتفتون طويلا إلى النداءات التى تطالبهم بحل مشكلاتهم على أرضية وطنية. أما بعد الثورة فقد تغير الأمر إلى حد كبير، لاسيما بعد أن أدرك الإخوان وغيرهم من الجماعات الدينية أهمية مشاركة المسيحيين فى تفنيد الادعاءات، التى أطلقها النظام ليخيف الغرب من الثورة، وسوق فيها لكذبة تقول إن الإخوان هم من يقفون وراء اندلاعها، وأدرك المسيحيون أن المسلمين غير مسئولين عن أى أذى لحق بكنائسهم من قبل، فرغم تغيب الأمن تماما عن الشارع بعد 3 أيام من اندلاع الثورة لم يلق أحد حجرا واحدا على كنيسة، بل وقف المسلمون والمسيحيون معا يدافعون عن منازلهم فى ظلمة الليل ضمن اللجان الشعبية، التى شكلها المواطنون ليعوضوا هروب الشرطة واختفاءها. وأدى دخول الإخوان إلى الحياة السياسية من بابها القانونى إلى تجدد أفكارهم السياسية بشكل لافت، فمن يقارن بين ما أنتجته قريحة الإخوان من رؤى حول الحكم قبل أن يتحالفوا مع حزب الوفد الليبرالى فى انتخابات مجلس الشعب عام 1984 وبعد هذا التاريخ إلى قيام الثورة يكتشف حجم التغير الإيجابى المستمر فى الخطاب السياسى الإخوانى الذى خطى خطوات واسعة نسبيا منذ أن طرح مأمون الهضيبى برنامجه فى الانتخابات البرلمانية عام 1995 وحتى برنامج "حزب الحرية والعدالة" الذى يعد أرقى وثيقة سياسية قدمتها الجماعة فى تاريخها. فالسياسة التى تقوم على "لغة المصالح" وتعرف المساومات والمواءمات والحلول الوسط وفنون التفاوض، لا شك أنها تهشم باستمرار الخطاب المتجمد أو المتحجر، الذى يظن أصحابه أنه "مطلق" وغير قابل للدحض، قبل أن يدخلوا إلى غمار السياسة، ويفرض عليهم الواقع بمشكلاته المتراكمة شروطا قاسية لا فكاك منها، فما هو موجود على الأرض نسبى، وتنسحب نسبيته، من دون شك، على أقوال وأفعال كل من يتفاعل معه سلبيا أو إيجابيا. ومثل هذا المدخل سينطبق على الجماعات السلفية التى سارعت بتشكيل حزبى "النور" و"الفضيلة"، فهي إن كانت حديثة عهد بالممارسة السياسية المباشرة التى تتم عبر القنوات القانونية للدولة، فإنها ستجد نفسها، كلما أوغلت راحلة فى دهاليز السياسة، مضطرة إلى التخلى عن بعض مقولاتها الوثوقية المغلقة تدريجيا، حين تدرك أن الواقع المعيش له متطلبات غير تلك التى يمكن أن تدون فى الكتب أو تقال على المنابر أو داخل حلقات الدرس، من دون اختبار عملى لها. وتشكل هذه الجماعات عبئا فى البداية على الحياة الديمقراطية، لاسيما أنها تريد من الديمقرطية الجانب الإجرائى فقط لتستخدمه فى الوصول إلى السلطة دون أن تلزم نفسها أبدا بالجانب القيمى الذى يمثل جوهر الحريات السياسية العامة، فهى هنا تخلق نمطا يمكن أن نسميه "ديمقراطية الكلينكس" التى يتم استعمالها لمرة واحدة، لكن بمرور الوقت فإنها قد تكسب هذه القيم، لاسيما أنها لا تمتلك مشروعا سياسيا حديثا، أو نظرية سياسية متكاملة الأركان، إنما تلبى احتياجات الواقع بآراء ومواقف منبتة الصلة عن بعضها البعض، الأمر الذى يجعلها تقع فى تناقض مستمر، يربك خطابها ويفقده التماسك، ويضعفه فى مواجهة خطاب سياسى أكثر اكتمالا. ومن يتابع تطور الخطاب السياسى للجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامى يكتشف أنها هى التى تأتى على أرضية التيار الإصلاحى أو المدنى، وليس العكس، ومن هنا فإن الاعتقاد بأن الإسلاميين سيظلون معضلة أمام الديمقراطية إلى الأبد يبدو اعتقادا خاطئا، بدليل قدرة هؤلاء على تطوير أفكار سياسية عصرية كما تجلى فى التجربة التركية، وبشكل أقل فى التجربة المغربية. لكن هذه الجماعات والتنظيمات ليست على قدم سواء من الامتلاء بالديمقراطية قيما وإجراءات، فجماعة الإخوان أقرب بحكم انغماسها فى الحياة السياسية مبكرا، وتفاعلها المستمر مع الخطابات المدنية، وتأتى بعدها الجماعة الإسلامية التى غيرت الكثير من أفكارها فى سياق عملية "المراجعات" التى أعقبت "مبادرة وقف العنف"، فبعد أن كانت ترفض الحياة الحزبية تماما وتقول إنه لا يوجد سوى حزبين "حزب الله" و"حزب الشيطان" وبعد أن كانت تعتبر البرلمان "مؤسسة كافرة لأنها تشرع بغير ما أنزل الله" وترى فى الديمقراطية "الرجس من عمل الشيطان" هاهى تقبل بنهم شديد على تأسيس حزب سياسى، وتطمح فى الوصول إلى البرلمان، ويجرى مصطلح الديمقراطية على ألسنة قادتها سخيا رخيا. أما السلفيون فقد تواجدوا على قيد الحياة الاجتماعية المصرية عبر جمعيات للنفع العام أو مسالك مدرسية فقهية من خلال طريقين أساسيين، الأول تمثل فى "الجمعية الشرعية للعاملين بالكتاب والسنة" والثانى هو "جماعة أنصار السنة المحمدية" وكلاهما ظهر فى عشرينيات القرن العشرين، ثم ظهرت فى السبعينيات من القرن ذاته "سلفية الإسكندرية" وتبعتها "جماعة التبليغ والدعوة" فى الثمانينيات. وظل هذا الخط الخيرى الدعوى هو أساس عمل السلفيين، لكنهم عقب الثورة سارعوا إلى الانخراط فى معترك السياسة، دون أن يمتلكوا بعد الفكرة والخبرة التى تؤهلهم لهذه العملية التى قامت على أكتاف ثورة رفعت شعار "الحرية والعدالة والكرامة" ودون أن إبداع رؤى سياسية تطمئن المحيط الاجتماعى بأن الديمقراطية قولا وفعلا قد رسخت فى أذهانهم، لكن هذا لا يعنى أبدا حرمانهم مع ممارسة السياسة، إنما دفعها إلى القبول بشروط اللعبة السياسية كما يضبطها الدستور والقانون، وفى هذا ما سيقود حتما إلى ترشيد أفكارها الاجتماعية والسياسية، وهذا من فضائل ثورة 25 يناير على الجميع.