فى سرية تامة سافرت مجموعة من رجال مخابرات السفارة الأمريكية إلى الإسكندرية.. يوم وقفة عيد الأضحى.. والتقت مديرى شركة سياحة يونانية وطلبت منهم وضع خطة إجلاء 400 من كبار دبلوماسييهم برًا من القاهرة إلى بورسعيد.. ومن هناك بحرا إلى لارناكا.. عاصمة قبرص.. ومنها جوا إلى بلادهم. مثل هذا التصرف الخفى من دولة مطلعة على الأحوال فى مصر كشف عن شعور بالخطر استوجب منها الحذر.. وفرض عليها خططا سابقة التجهيز لتجنبه والنجاة منه.
بعد أيام قليلة مما فعله الأمريكان، كان المشير طنطاوى يقف موجهًا كلمته الأولى إلى الشعب، بعد أن اشتعلت الميادين مرة أخرى محتجة عليه، ومطالبة له بأن يسلم السلطة، وأن يشكل حكومة إنقاذ وطنى، وأن يسارع بتحقيق كل ما وعد به من أهداف الثورة.
أنهى طنطاوى خطابه القصير الذى لم يتجاوز الدقائق الثلاث، لينفجر غضب المتظاهرين فى ميدان التحرير واصلوا هتافهم الذى يعيد إلى الأذهان الغضب على مبارك ورجاله «الشعب يريد إسقاط المشير».. فما قاله لا يختلف إطلاقا عما قاله مبارك فى خطابه الأول الذى وجهه للمصريين يوم جمعة الغضب.
كان طنطاوى متعاليًا.. أنكر أن هناك رصاصة أطلقت من القوات المسلحة على صدور المصريين.. قال إنه أوقف محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، وفى رسالة لم تخف على أحد.. بدا أن المشير طنطاوى يحذر المصريين من نفاد صبر المجلس العسكري، الذى تحمل إهانات كثيرة على غير عادة العسكريين.
ربما اعتقد من كتب الخطاب للمشير أن كلماته هذه ستكون رادعة.. بعدها سيهرع المصريون إلى بيوتهم خوفًا من سيف المشير الذى أشهره فى وجوههم، رغم نبرة صوته الخافتة وملامح وجهه المرهقة.. لكن ما حدث أن الرجل أسقط آخر ورقة من أوراق شرعيته وشرعية المجلس العسكري.
لقد سحب الشعب الذى حشد نفسه ليسترد ثورته ويستعيدها ممن سرقوها، الشرعية التى كان قد منحها للمشير ورجاله، فقد حملهم بدمائه إلى إدارة شئون البلاد، لكن عندما رأى أن هؤلاء الذين رفعهم على أكتافه هم من يفرطون فى دمائه بل ويسفكونها على أسفلت العناد أعلن التمرد الذى يبدو أنه لن ينتهي.. فالدماء عندما تسيل لا يتوقف الغضب إلا بعد أن يحصل الغاضبون على ثأرهم.
قبل ساعات من طلة المشير طنطاوى على المصريين، تسربت أخبار عن نقل سلطة المجلس إلى رئيس المحكمة الدستورية العليا.. كان التسريب فيما يبدو متعمدا، فقد نقلته قنوات فضائية ومواقع إليكترونية على اعتبار أنه أنباء.. وهو ما يشير إلى أنها لم تكن إلا قنبلة اختبار فقط.. ليعرف المجلس العسكرى هل يبارك المصريون هذه الخطوة، أم يخرجوا فى مظاهرات من أجل التمسك بالمجلس.
لم تخرج المظاهرات.. بل انتظر المصريون ما سيقوله المشير أولا، ولما تحدث لم يقترب من نقل السلطة وهو ما أكد أنه كان مجرد بالون اختبار.
تحدث المشير عن قبول استقالة حكومة شرف وتكليفها بتسيير الأمور حتى تشكيل حكومة إنقاذ.. وحدد موعدًا لانتخابات الرئاسة وأصر على أن تجرى الانتخابات البرلمانية فى موعدها.. وكنت أتمنى أن يكون الحديث على نقل السلطة إلى رئيس المحكمة الدستورية حقيقيًا.
نقل السلطة إلى رئيس المحكمة الدستورية العليا كان يمكن أن يعيد الأمور إلى نصابها.. وقتها سيكون لدينا رئيس مؤقت.. يعود إلى العمل بدستور 1971 بعد إضافة المواد التى تم استفتاء المصريين عليها.. وهو ما يعنى إعادة الاعتبار لاستفتاء الشعب.. كما أنه سيكون صاحب السلطة العليا فى تسيير الأمور.. يرعى إجراء الانتخابات البرلمانية.. والانتخابات الرئاسية بعد ذلك.. ثم تتكون بعدها لجنة تشكيل الدستور.
لكن يمكن البناء فى هذه اللحظة صحيًا ونظيفًا.. لقد تخوف البعض من أن الجيش لو سلم السلطة إلى رئيس المحكمة الدستورية العليا فإنه سيترك الأمور للفوضى الكاملة، وهو أمر مستبعد تمامًا، فالمؤسسة العسكرية المصرية لها أخلاقياتها ومبادئها التى لا يمكن أن تتخلى عنها.
إن الجيش هو جيش الدولة.. جيش الشعب.. وسيكون تحت تصرف رئيس المحكمة الدستورية العليا (الرئيس المؤقت للبلاد) لكن يبدو أننى أتحدث عن حلم بعيد المنال، وهو ما يجعلنى أيضا أستعيد الصورة من البداية لعلنا نفهم بعض ما جرى.
لقد سرقت الثورة التى أبهرت العالم فى 25 يناير من الشباب الذى صنعها.. ومات فى ميادينها.. وجرح دفاعًا عنها.. وقف وحده يناجى ربه وهو مذهول من جرأة اللصوص ووقاحتهم.. وبجاحتهم.. وقدرتهم الفائقة على التنكر والتحول وتلطيخ وجوههم بالأصباغ السياسية الجاهزة.. الإرهابى أصبح ديمقراطيًا.. المنافق أصبح ثائرًا.. الفاجر أصبح متدينا.. البلطجى أصبح زعيمًا.. القاتل أصبح نجمًا تليفزيونيا.. والمخبر فى أمن الدولة أصبح مرشحًا محتملاً للرئاسة، وذبلت كل الأزهار التى تفتحت فى « التحرير».. الوحدة الوطنية انقلبت إلى هجمات طائفية.. حلم استعادة المليارات المنهوبة انتهى بكابوس التضخم والبطالة والانكماش والإفلاس.. والشعور المريح بالأمان تغير إلى شعور مؤلم بالخوف.
التسامح أصبح تعصبا.. التقارب أصبح نفورا.. الرحمة أصبحت قسوة.. الحكمة أصبحت نقمة.. العنف أصبح قانونا.. والثورة أصبحت فوضي.. وعورة.. وأزمة.. وكارثة.. ولعنة.
واستغل رجل كان يحترمه الجميع مثل المستشار طارق البشرى ضعف الخبرة السياسية للمجلس العسكرى ولعب دور حصان طروادة.. ففتح الباب على مصراعيه للتيارات الدينية كى تستولى على الحكم بسهولة فى انتخابات برلمانية تسمح لها بوضع الدستور على مزاجها.. وحسب هواها.. فى أكبر جريمة تشريعية ارتكبت فى حق مصر.. تسببت فى الجحيم الذى تعيشه.. دون أن تدخله الجنة.
نقض القاضى الجليل فى آخر سنوات العمر كل حصيلته القانونية والفقهية وفتح ثغرة لتخرج منها الدولة المدنية الديمقراطية.. وتتسلل إليها الدولة الدينية التى يقول كل من فيها إنه يحكم باسم الله وهو فى الحقيقة لا يحكم إلا باسم نفسه.. دولة ألف ليلة وليلة التى ينبطح فيها شهريار على عشر وسائد.. عاجزًا عن السيطرة على أمته وحريمه إلا ببلطجى آخر هو مسرور السياف.
والغريب أن التيارات التى ساندها راحت تنافق المجلس العسكرى إلى حد تقبيل يديه وربما وصل الأمر إلى حذائه الأسود الثقيل.. لكنها.. ما إن أخذت منه كل ما أرادت حتى تنكرت له.. وهددت وجوده.. وطالبت برحيله.. ووصل الأمر بأحد رموزها الذين لا نعرف أين كان يختبئ، أن وجه إلى المشير إنذارًا بالرحيل وأعطاه مهلة لا تزيد على 24 ساعة.
وفى الوقت نفسه أثبت المجلس العسكرى أنه صناعة خالصة لنظام مبارك الذى ورثه واستولى عليه ومشى على خطاه.. فهو بلا خبرة مثله.. بطىء مثله.. عاجز عن اتخاذ القرار السليم مثله.. لا يستشير إلا المنافقين مثله.. عنيد مثله.. يختفى فى الأزمات مثله.. وربما يفسر ذلك مخاوف الكثيرين من أن يكون امتدادًا له.. أو صورة طبق الأصل منه.. وهو ما جعل الخيال يشطح إلى حد تخيل عودة مبارك إلى السلطة من جديد.
وبعد أن كان الشعب والجيش يدًا واحدة ارتفعت حدة النقد للمشير وسخنت المطالبة برحيله عن السلطة.. وتسليمها للمدنيين.. وهو ما نسمعه بقوة فى ميدان التحرير الآن.. دون أن نعرف من يتسلمها.. وكيف؟
ويخرج من تحت الجلد فى هذه الظروف الصعبة الدكتور محمد البرادعى ليكون الفارس والمنقذ.. وهو رجل ربما نعرف أوله ولكننا لا نعرف آخره.. نعرف جذوره ولكننا لا نعرف علاقاته.. ولا شك أن تسلمه السلطة الآن فيما يعرف بحكومة إنقاذ وطنى يفتح النار عليه ويحيى اتهامه بالتواصل مع الأمريكيين.
والمؤكد أن هناك خصومًا أشداء للرجل ربما على رأسهم المجلس العسكرى نفسه.. ولو هدأت الثورة بعد أن يتولى ما يقترحه البعض عليه فإنه سيتلقى تهمة التحريض على الثورة كى يصل إلى السلطة.
على أننا نرى أنه أكثر ذكاء من أن يقبل بمنصب ما فى هذه الظروف ليحترق مع كل شيء تشب فيه النيران الآن.. بما فى ذلك المشير نفسه.
لقد بنى المشير شرعيته على رفضه إطلاق النار على متظاهرى ثورة يناير.. لكن.. هذه الشرعية فقدت بعد قتل عشرات من متظاهرى ثورة نوفمبر.. ومن ثم لا نستبعد أن ينضم هو ورجاله إلى قضية مبارك المتهم فيها بقتل المتظاهرين.
لقد كان الجيش شديد الحذر فى التعامل مع الرصاص الحى إلى حد قبوله بانفلات الأمن خوفاً من أن يسقط مواطن واحد بنيرانه.. لكن.. الحذر الذى لا يمنع القدر تبعثر فى أحداث ماسبيرو التى انتهت بقتل ودهس نحو ثلاثين شهيدًا.. ولأن الدم يجلب الدم، فإن القتلى تساقطوا مؤخرًا فى الثورة الثانية.. وراحت الدوائر تدور وتدور وتدور.
بدأت أحداث الثورة الثانية باعتصام تحت خيام متواضعة لمجموعة من مصابى الثورة الأولى تدخلت الشرطة لفضه.. فكان ذلك بمثابة شرارة وإشارة منتظرة لجماعات وتنظيمات شبابية مختلفة راحت تتدفق بسرعة مذهلة على ميدان التحرير.. وغيره من ميادين الحشد الثورى فى محافظات أخرى.. مستعيدة قدرتها على ذلك عبر شبكات التواصل الاجتماعى.. التويتر والفيس بوك.
كانت هذه الجماعات ستنزل الميادين لهذا السبب أو انتظارا لسبب آخر.. فهى تمثل الشباب الذى وجد نفسه خارج الحسبة السياسية التى طردته منها قوى سلفية وليبرالية وعسكرية وحزبية.. نسيته تماما.. وراحت تتصارع على السلطة.. وتنفرد بأنانية مفرطة بثمار اللعبة.. تلتهمها وحدها.
لقد قرر شباب الثورة استردادها من الانتهازيين الكبار الذين استولوا عليها دون أن يحققوا شيئا يذكر ل « واحد من الناس ».. بل.. تسببت صراعاتهم وخلافاتهم فى تقسيم المجتمع وتخويفه وتجويعه وتفكيكه وتخريبه وربما تدميره.. وكأن الثورة لم تأت إلا بالعار.
وكان من الطبيعى أن يطرد الشباب الغاضب من الميادين كل الشخصيات التى قفزت على الثورة.. مثل حازم أبوإسماعيل.. سليم العوا.. ومحمد البلتاجى ورموز أخرى من الإخوان وغير الإخوان.. فكان ذلك بمثابة إنذار لغيرهم.. فلم يفكر أحد فى الذهاب إلى هناك.. بل إن كل الديناصورات السياسية التليفزيونية الصاخبة انكمشت صامتة تحت اللحاف.. وتقلصت إلى حجمها الطبيعي.. أصبحت فئرانا.. وكل ما فعلته التيارات الأخرى المرتعشة أنها أعلنت عن استعدادها لحماية الثوار بدرع بشرى منهم يفصلهم عن الأمن.. لكن.. ذلك لم يقبل منهم.
واللافت للنظر أن الثورة الثانية رفعت نفس شعارات الثورة الأولي.. وأخطرها «الشعب يريد إسقاط النظام».. والنظام فى الحالة الأولى كان الرئيس حسنى مبارك.. أما فى الحالة الثانية فهو المشير حسين طنطاوي.
لكن.. ليس من السهل قبول المطلب الأخير.. فالجيش رغم صحة ما يوجه إليه من نقد شديد القسوة أصبح عمود الأسمنت الوحيد الذى تقف عليه الدولة.. ولو تهشم أو تفتت أو تصدع فإن الفوضى التى نعيش بعض مظاهرها تصبح حقيقة واقعة حارقة.. لتتحول أقدم دولة مركزية إلى دولة هشة مفككة متناحرة.. مثل الصومال.. وهو أمر غير مقبول من كل الجماعات والتيارات.
والحل الوسط تشكيل مجلس أمن قومى لإدارة البلاد.. يتكون من رئيس المجلس العسكرى ورئيس الأركان ورئيس الحكومة ومدير المخابرات ووزراء الداخلية والخارجية.. بجانب تشكيل لجان متخصصة من شخصيات محترفة فى مجالاتها تمسك بالملفات الحيوية المؤثرة المباشرة مثل الأمن والاقتصاد والتحول الديمقراطي.
وربما لا يدرك المجلس العسكرى أن فى الثورة الثانية المشتعلة الآن فرصته الهائلة كى يصلح ما أفسده بعد الثورة الأولي.. إن شباب الثورة أسقطوا للمجلس كل القوى التى كان المجلس يخشاها ويحسب لها ألف حساب.. وضعوها فى خانة الفلول.. ومسحوا الماكياج من على وجوهها.. فظهرت على حقيقتها.. قبيحة.. وهى فرصة المجلس أن يخرج للشعب ببرنامج سياسى مختلف.. يصحح فيه أخطاءه الدستورية.. ويرسم خارطة سليمة للطريق.. وهو ما يريده الثوار.. وهو أيضا ما يعيد للجيش هيبته وشرعيته وشعبيته التى فقدها بالتنقيط وبالتقسيط.. وأجبر التحرير على وضعه فى أصعب مأزق سياسى وجد نفسه فيه.
لكن.. السؤال الذى أخشى الإجابة عنه هو: هل سيستوعب المجلس مثل هذا الكلام؟.. وينتقل إلى سكة السلامة أم سيصر على المضى فى سكة الندامة؟ إن المشهد المؤلم هو أن المجلس العسكرى مصر على نفخ الروح فى القوى السياسية التى أسقطتها الثورة الثانية.. فالاجتماعات التى عقدها معها لبحث سبل الخروج من الأزمة تؤكد أنه يراهن على الجواد الضعيف المنبوذ من التحرير ولو خرج منه.. وأن المجلس لم يستوعب بعد حقيقة الثورة القائمة.. ولم يفكر فى التفاهم مع قادتها ومفجريها.. فلا تزال ساعته السياسية متأخرة كثيرا.
ولعل خروج ثورة ثانية فى وقت أصبح مسرح الانتخابات جاهزا للعرض يعنى أن أصحاب هذه الثورة وشبابها والمستفيدين منها يرفضون الانتخابات.. ويطالبون بخطة بديلة للانتقال الديمقراطى السلمى للسلطة.
ولو استمرت الاحتجاجات والاعتصامات والاضطرابات إلى ما بعد ساعة صفر الانتخابات، فإن ذلك سيكون تعطيلا ونسفا وضربا لها.. فالأمن المشغول بالثورة لن يذهب إلى لجان التصويت.. والجيش الذى أعاد وضع مدرعاته أمام منشآته الحيوية سيكون مهمومًا بنفسه لا بغيره.
ولو خرج المجلس الأعلى للقضاء ببيان يعلن فيه تخوفه من الإشراف على اللجان والصناديق فى هذه الظروف، فإن الانتخابات ستؤجل بسيف الأمر الواقع.. وربما هذا ما ينتظره ويتوقعه المجلس العسكري.
ومهما بدا المجلس العسكرى مصرا على تنفيذ الانتخابات فى موعدها.. فإنه فى الحقيقة يتمنى أن يحدث ما يجعل قوى مختلفة تضغط عليه كى يؤجلها أو يلغيها.. لقد غضب المجلس منى عندما كشفت عن تكليف من رئيسه لأعضائه بكتابة السيناريو الذى يتوقعه لو لم تكتمل الانتخابات.. وهو ما يعنى أن عقله الباطن مع عدم اكتمالها.
وهناك دليل آخر على ذلك.. هو وثيقة المبادئ الدستورية وقواعد تشكيل لجنة الدستور التى كان مستعدا لإصدارها بتوقيعه، وإن خشى ذلك فتوارى وراء الدكتور على السلمى كى يتلقى الضربات والاعتراضات نيابة عنه.
والوثيقة التى فقدت صلاحيتها بالتعديلات ثم فقدت أهميتها بالتظاهرات.. كانت نوعًا من الحل الوسط المتأخر بين دعاة الدستور أولا ومؤيدى الانتخابات أولا.. ولجأ المجلس إلى هذا الحل خوفا من سيطرة التيارات الدينية على البرلمان وعلى الدستور، وكنوع من التكفير عن ذنبه بفتح أحضانه فى البداية لتلك التيارات.. يضاف إلى ذلك تخوفه من أن يطالب الإخوان والسلفيون بمحاكمته فى أول فرصة متاحة.. فهم لا يحافظون على عهد.. ولا يحرصون على تحالف.. ولا يبقون على صديق.
لكن.. لو اكتفى المجلس ومعه قوى وتيارات أخرى بتأجيل الانتخابات من الثورة الثانية، فإنه بذلك يكون قاصر النظر.. فالثورة الثانية لن تتركه فى ضعفه وعجزه عن التفكير فى الأمور المصيرية.. ما لم يثبت فى ساعات قليلة أنه قادر عليه.. قادر على تنقية مؤسسات الدولة من الطابور الخامس للنظام السابق.. وقادر على الانحياز للسواد الأعظم من الشعب فى قرارات وسياسات تساند معيشته فى مواجهة صعوبتها.. وقادر على رسم التفاهم مع صناع الثورة الحقيقيين وتنفيذ مطالبهم وتصوراتهم.
على أنه سيكون عنده كل الحق لو تساءل عمن يمثل هؤلاء الثوار؟.. إن الخطأ الكبير الذى وقعت فيه الثورة الأولى هو أنها لم تُخرج من ميادينها مجلسا يمثلها.. أو يعبر عنها.. أو يتحدث باسمها.. وهو خطأ تسبب فى كثير مما نحن فيه الآن.. وفى وسط أحداث الثورة الثانية يجب تدارك هذا الخطأ.. وإلا كنا كمن يدخل من باب دوار ليجد نفسه خارجًا منه.. أو متسمراً فى مكانه.
إن الرومانسية الثورية لا تكفى وحدها.. وإنكار الذات لا يمكن أن يستمر حتى يلتهم الانتهازيون الثورة مرة أخري.. لابد من مجلس ويختار من شباب لايزال غبار الثورة يغطيه.. لم تندمل جراحه.. ولم يخفت حماسه.. ولا تزال دماء الشهداء على ملابسه.. هذه خطوة إجبارية وإلا لُدغ من الجحر مرتين.. وربما عشراً.
لن تهدأ مظاهر الثورة الثانية بسهولة.. فأصحابها لن تتاح لهم فرصة أخرى لفرض إرادتهم على الجميع.. ومن ثم فإن التعامل معهم يحتاج إلى إجراءات تقنعهم.. وهو أمر شديد الصعوبة بعد التجارب الفاشلة للسلطة الحاكمة طوال الشهور الماضية.
لابد من محاكمات عاجلة لقتلة الشهداء الجدد.. لابد من وضع رموز النظام السابق وعلى رأسهم مبارك وعائلته أمام محكمة ثورية تعرف كيف تحاسبهم وتعرف كيف تجبرهم على إعادة الأموال التى نهبت.. لابد من ترتيبات انتقالية طبيعية مع جداول زمنية محددة، لو لم يحدث ذلك.. فإن المجلس العسكرى سيكون فى ورطة يصعب عليه الخروج منها إلا بانقلاب عسكرى يعيدنا إلى الوراء مئات السنين