أتعجب من المهللين بما يطلقون عليه "تحرير ليبيا"، والشامتين في مقتل القذافي بالصورة البشعة التي يستنكرها كل من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. من قال إن الحرية تأتي بالتمثيل بجثة السجان؟
من قال إن الحرية تكتب بالدماء التي تسيل من أسير ضعيف ولو كان شيطانا رجيما. أو أن من علاماتها أن تجعل جثمانه مزارا للشامتين والحاقدين ومصاصي دماء الفراعين.
إن الثورة التي تأتي لتهلك الظالم لابد أن تتسم بالعدل، والثورة التي تريد هدم الفساد لابد أن تعلو فوق الأحقاد، وإلا ما الفرق بين الظالم والثائر عليه إذا اتفقا في سوء الخلق، وانعدام الضمير، والفظاظة في اللسان والغلظة في القلب.
إن مشهد مقتل القذافي سيظل يلاحق الثائرين بالعار ويسمهم بالخسة زمنا طويلا، وإن إقدام المجلس الانتقالي على عدم تسليم جثته وابنه لأهله وعشيرته أمر يخالف كل الشرائع والأعراف الإنسانية، وهو ما يؤكد أن ليبيا لم تتحرر بعد.
ربما تحررت من قيود فرضها هذا الظالم لنفسه ولشعبه.. وهذا أمر سهل رغم صعوبته؛ لسبب بسيط أن مراد الله سابق، بل وواقع لا محالة، فهو سبحانه القادر وحده على أن ينزع الملك ممن يشاء، فإن شاء يسَّر الأسباب لنزع الملك أو جاء به بلا أسباب، ولكن الصعب والصعب جدا أن تتخلص النفوس من أسر أحقادها وضغائنها ليستطيعوا أن يبنوا الفرد القادر على بناء الدولة.
أكاد أشعر أن القذافي سجن ليبيا حيا وميتا..
سجنها حيًّا بجبروته وطغيانه وجهله.
وسجنها ميتا بإصراره على أن يواجه الثائرين عليه؛ حتى وقعوا في فخ الانتقام البغيض، والقتل الوحشي، والنهاية التي تكتب لهم العار.
أليس فيهم رجل رشيد؟
الأمر المؤسف والذي لم أكن أتمناه للشعب الليبي أنه قريبا جدا سيبدأ الصراع المقيت على الثروة والسلطة.. صراع بين فئة من الذين كانوا يحملون السلاح معا ويدافعون عن ظهورهم بالأمس، عندما يواجهون أنفسهم المليئة بالكراهية مع قلوبهم المليئة بالأطماع، وتتصارع المصالح، ويبحث كل منهم عن بعيد يحميه أو قريب يواري سوءته، وعندئذ ستسجن ليبيا في قبو المطامع والأحقاد.
ودليل ذلك قول أحد القادة بالمجلس الانتقالي إن جميع الفرقاء في ليبيا قد جمتعهم كراهية القذافي!
ولنا أن نتخيل معا قوما جمعتهم الكراهية لفرد.. هل ستستمر تجمعهم هذه الكراهية أم سيفرقهم حب الجاه والمال والسلطان؟
قوم تجمعهم الكراهية للظالم إلى أين تذهب هذه الكراهية بعد مقتله؟ ستبقى في النفوس كالنار لتحرق كل من يقف حجر عثرة في طريق أحدهم لتحقيق مآربه وأمانيه.
فالكراهية ليست سيفا تخرجه لتقتل به عدوك، ثم تغمده بيدك؛ إنها النار التي لا يخمدها إلا الحب، ومن أن يأتي به الفرقاء.
إن الكراهية لا تجمع القلوب أبدا، بل إنها تجمع المصالح والأحقاد.
إن الكراهية أيها السادة كفر بنعمة الحب التي أودعها الله في قلوب الناس، فمنهم من آمن بها وبقدرتها على التغيير للأفضل، ومنهم من كفر بها، وظن أن بالكراهية والاحتفاظ بالغل يكسب المعركة.
ليبيا الآن مسجونة أيها الأعزاء، وربما تظل مسجونة ما لم يتطهر ثائروها ويعتذر قادتها ويتوبوا ويستغفروا لما فعلوا بفرعونهم حين صار مستضعفا بين أيديهم.
لقد نجى الله فرعون ببدنه ليكون للناس آية، وكأن البحر كخلقٍ من خلق الله لفظه، وألقاه للبر ليكون للناس آية.
لقد ظل فرعون ينادي أن يا موسى أنقذني وقيل إنه ناداه ثلاثا، فلم يجبه نبي الله، أتدرون ماذا قال ربنا في هذا، كما جاء في الحديث القدسي:"وعزتي وجلالي لو ناداني مرة واحدة لأجبته".. فلماذا لم يفهم الثوار قول رسول الله وتخلقوا بأخلاق الله، في موقف جعلهم الله فيه الأعلى بعد أن كانوا مستضعفين في الأرض؟
إن ليبيا تتنازعها الآن فتنة كبرى بدأت بمشهد مقتل القذافي، وستظل حبيسة هذا المشهد حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر الذي ينتظره الليبيون البسطاء.
وظني أنها ليست رهينة الأحقاد والنزاعات الداخلية فقط.
ولكنها أصبحت أيضا سجينة لأوامر أمريكا والناتو، أولئك الذين سيسعون جاهدين لتقسيمها حسب أهوائهم ومصالحهم، وكذلك يفعلون.
الشيء الوحيد الذي يعطي بريق أمل في غد أفضل لليبيا إذا تحقق فقد جاء على لسان السيد مصطفى عبدالجليل رئيس المجلس الانتقالى الليبى حين دعا للمسامحة والمصالحة وعدم الإقصاء لأي فئة كانت، وعضد ذلك بأن قتلة القذافي سيحاكمون.. غير أن ما يضعف هذا الأمل في تحرير ليبيا حقيقة أن دول الناتو باتت تنتظر الثمن، وتصوري أنها ستفرض وصايتها على ليبيا بشكل أو بآخر، ولعل مؤتمر أصدقاء ليبيا بقطر يقدم لها هذه الوصاية على طبق من ذهب.
أما الدرس الذي لم يتعلمه كل الثوار في الوطن العربي، فهو الدرس الذي أعطاه النبي حين ملّكه الله الأمر وأوقفه على باب الفتح حين قال لأعدائه:"اذهبوا فأنتم الطلقاء".. لقد أعطى الحرية لمن سجنوه، وفك أسر من حاصروه. لعل الثائر على الباطل من البشريه من بعده يدرك أن الثائر الحق لا يثور من أجل أرض يملكها أو مال يجنيه أو حرية زائفه ينالها، وإنما من أجل أن يغرس بذور القيم العليا في نفوس الإنسانية جمعاء.
فليت قومي يفيقون قبل أن يتحول الربيع العربي إلى خريف تتساقط فيه كل أوراق القيم، فتسقط الأوطان في جحيم من الغل والنزاع.