شهدت مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، تحولًا خطيرًا في مجريات الحرب السودانية، بعد أن بسطت قوات الدعم السريع سيطرتها الكاملة على المدينة عقب معارك عنيفة وحصار استمر أكثر من عام ونصف، وسط اتهامات بارتكاب جرائم حرب وانتهاكات جسيمة ضد المدنيين، وتزايد الإدانات الإقليمية والدولية المطالبة بمحاسبة المسؤولين ووقف إطلاق النار الفوري. انهيار الموقف الميداني وانسحاب منظم للقوات المسلحة أكدت مصادر عسكرية أن القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية نفذت عملية انسحاب منظم من الفاشر، حيث غادر قائد الفرقة السادسة اللواء محمد أحمد الخضر وقائد القوات المشتركة الفريق جمعة حقار المدينة بسلام، عقب تنفيذ خطة الإخلاء المسبق. وفي المقابل، شن سلاح الجو السوداني غارات مكثفة استهدفت مواقع وتجمعات الدعم السريع داخل المدينة، ما أدى إلى تدمير عربات قتالية ومقتل المئات من عناصرها وفق مصادر عسكرية. اتهامات بالفظائع وتوثيق الجرائم أثار انتشار مقاطع مصوّرة لعمليات تصفية ميدانية بحق مدنيين في الفاشر صدمة واسعة، فيما كشفت جامعة ييل الأميركية عن تقرير يؤكد أن الانتهاكات في المدينة قد تُصنّف ك "جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية". كما ذكرت تقارير أمريكية أن مسؤولين في الخارجية الأمريكية أجروا نقاشات مباشرة مع قيادة الدعم السريع بشأن سلوك أحد قادتها الميدانيين المعروف باسم "أبو لولو"، بعد انتشار مقاطع تُظهره في عمليات إعدام ميدانية. إدانات عربية وإسلامية واسعة توالت بيانات الاستنكار من السعودية وقطر والكويت ومصر، التي عبرت عن قلقها العميق من الانتهاكات التي شهدتها الفاشر، ودعت إلى هدنة إنسانية فورية تتيح وصول المساعدات وإنقاذ المدنيين. وأدانت رابطة العالم الإسلامي وجامعة الدول العربية ما وصفته ب "الجرائم الوحشية ضد المدنيين"، مؤكدة أن ما حدث يمثل تحديًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني. مواقف دولية وأوروبية صارمة أعلن الاتحاد الأوروبي أن سقوط الفاشر يمثل "نقطة تحول خطيرة في الحرب"، داعيًا إلى العودة الفورية للتفاوض واحترام قرار مجلس الأمن رقم (2736). وأشارت وزيرة الخارجية البريطانية إيفيت كوبر إلى أن ما يجري في الفاشر "كارثة إنسانية مروعة"، منددةً باستخدام العنف الجنسي كسلاح حرب، ومؤكدة أن "قادة الدعم السريع سيكونون مساءلين عن أفعالهم". كما أدانت كندا وألمانيا وأيرلندا المجازر ضد المدنيين، ودعت إلى فتح ممرات إنسانية ومحاسبة الجناة. الموقف الأميركي وتصاعد الضغوط الدبلوماسية قال مسعد بولس، مستشار الرئيس الأمريكي، في مقابلة مع صحيفة الشرق الأوسط، إن بلاده قدمت مقترحًا لوقف إطلاق النار لمدة ثلاثة أشهر، مشيرًا إلى أن التطورات الأخيرة في الفاشر غيّرت أولويات المجتمع الدولي. وأكد بولس أن الإخوان وفلول النظام السابق "لن يكون لهم أي دور في العملية السياسية المقبلة"، وأن واشنطن تدرس أدوات جديدة للضغط على الأطراف المتحاربة لإنهاء الصراع. ردود داخلية ومواقف سودانية أدان حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي المجازر التي شهدتها الفاشر، مؤكدًا أن ما جرى يمثل جريمة ضد الإنسانية يجب توثيقها ومحاسبة مرتكبيها، فيما دعا مالك عقار إلى بناء نظام سياسي يعبر عن تطلعات الشعب. من جانبه، طالب حزب المؤتمر الوطني بإعلان حالة الطوارئ والتعبئة العامة، محذرًا من "جرائم تطهير عرقي" تستهدف وحدة السودان. حميدتي: ما حدث تحول لصالح وحدة السودان وفي أول تعليق له، أكد محمد حمدان دقلو (حميدتي)، قائد مليشيا الدعم السريع، أن ما جرى في الفاشر يمثل "تحولًا لصالح وحدة السودان"، نافيًا أي نية للانفصال أو تقسيم البلاد. وأشار إلى أنه أصدر توجيهات بتشكيل لجنة قانونية مستقلة للتحقيق في التجاوزات، والتزم بإعلان نتائجها للرأي العام، مؤكدًا أن "من يثبت تورطه سيحاسب". كما دعا المنظمات الإنسانية إلى التدخل العاجل، معلنًا السماح بحرية الحركة داخل المدينة، مع انسحاب تدريجي للقوات وتسليم الأمن إلى الشرطة الفدرالية. مشهد إنساني مأساوي قال آدم رحال، الناطق باسم النازحين، إن أكثر من 3،000 شخص تمكنوا من الفرار من الفاشر إلى منطقة طويلة، ويعيشون في أوضاع مأساوية بلا ماء أو غذاء أو مأوى. كما أكدت المفوضية القومية لحقوق الإنسان أن حصيلة القتلى تجاوزت 1،300 شخص، في حين أعلنت جمعية الهلال الأحمر السوداني مقتل خمسة من متطوعيها بمدينة بارا بشمال كردفان. في النهاية، يبدو أن سقوط الفاشر لم يكن مجرد معركة عسكرية، بل منعطف سياسي وإنساني خطير يعيد رسم خريطة الحرب في السودان. وبينما تتسابق الإدانات والمطالبات بوقف القتال، تبقى المأساة الإنسانية في دارفور جرحًا مفتوحًا في جسد وطن أنهكته البنادق والانقسامات.