رفض المشاركة فى مؤامرة الأتراك لاغتيال خليفة بغداد.. وعشق مصر بمجرد وصوله إليها يستحق أحمد بن طولون، مؤسس الدولة الطولونية فى مصر، المولود فى رمضان عام 220 هجرياً، شخصيته الجديرة بالبحث والاهتمام إذ إنه مؤسس أول دولة مستقلة بمصر فى عهد الخلافة العباسية لأول مرة منذ الاحتلال الرومانى للبلاد عقب انتصار أغسطس قيصر على كليوباترا فى موقعة اكتيوم سنة 31 قبل الميلاد، كما أنه أحد بناة هذا البلد ولا تزال آثاره موجودة حالياً كما أنه من حكام قلائل عاملوا المصريين بشكل جيد. واختلف المؤرخون حول نسب أحمد بن طولون، وقال بعضهم إنه مملوك تركى أهدى إلى الخليفة المأمون، ولكن المؤرخة سيدة الكاشف، ترجح أنه ابن لجندى تركى كان فى جيش الخليفة العباسى المستعين بالله، وأن أمه تزوجت بتركى آخر يدعى «بكباك»، حاول أن يجعل «أحمد» جندياً فى الجيش إلا أن الأخير رفض ووجد وسيلة ليسافر مع الخليفة المستعين، وعندما أراد الأتراك العاملين فى جيش الخليفة اغتياله رفض أحمد المشاركة ولكن تم قتل الخليفة ليعود أحمد إلى سامراء. جاء أحمد إلى مصر نائبا عن زوج أمه «بكباك» الذى صدرت أوامر بتوليه إدارتها بقرار من المعتمد بالله، الخليفة العباسى الجديد، ومنذ وجوده فى مصر شعر أحمد أنها ستخلصه من الترك والعباسيين معاً، وبعد وفاه «بكباك»، وتولى شئون مصر والى جديد، تحسنت أحوال ابن طولون الذى تمسك بالبقاء فى البلاد وأرسل هدايا إلى الخليفة العباسى حتى سمح له بالاستمرار فى منصبه بدلاً من ابن الخليفة نفسه التى كانت مصر من نصيبه كما استغل ابن طولون ضعف الخليفة وأظهر أنه يسانده فى مواجهة أخيه وحاول أن يقنع الخليفة بالانتقال إلى القاهرة ليسيطر عليه والتحكم أكثر ليس بمصر ولكن ببقايا الخلافة ولكن محاولته فشلت فاستقل بحكم مصر. وفى عهد بن طولون أصبحت مصر مركزاً هاماً بين بلاد الشرق الإسلامى وبين أفريقية «تونس وبقية بلاد المغرب، وكانت ممراً للراغبين فى الحج والرحالة والعلماء، وحرص ابن طولون أيضاً على توطيد سلطانه بمصر بتحسين علاقاته بكل الدول المحيطة. وحرص ابن طولون أيضاً على تكوين جيش عظيم، وذلك لحماية مصر ومن أطماع الدولة العباسية فى استردادها بعد أن أعلن استقلاله وكان الجيش وافر العدد والنظام وقائماً حتى فى زمن السلم عكس بقية جيوش ولايات الخلافة، كما كان فى مصر لأول مرة جيش خاص بها عدد جنوده من الأفارقة والعرب والموالى تجاوز 50 ألف فرد. لم يكتف ابن طولون فقط بتكوين جيش محترف ولكنه اهتم أيضاً بتكوين قوات بحرية، مستغلاً أن مصر وقتئذ كانت مركزاً لصناعة السفن خصوصاً أن الأسطول الحربى كان مهماً لتنفيذ توسعات فى بلاد الشام بجانب حماية مصر من أى عدوان بيزنطى عليها، ووصل عدد قطع الأسطول إلى 100 سفينة حربية. واهتم ابن طولون بالفن الإسلامى، وكان يريد منافسة الخلافة العباسية فبنى مصر على طراز تفوق على جمال مدينة سامراء، وهو ما يتضح من الآثار التى تركها إلى اليوم وتشكل ما يعرف ب«الفن الطولونى». وقرر ابن طولون الخروج بعيداً عن مدينة الفسطاط التى اعتاد الولاة السابقون السكن فيها، خصوصاً مع اكتظاظها بالسكان وزحامها، وبنى مدينة جديدة قريبة أطلق عليها «القطائع»، وخططها لتكون أقرب إلى مدينة سامراء، وجاء اسم القطائع لأن العاصمة الجديدة المخصصة أساساً للجنود كانت مقسمة لأجزاء جزء للسودانيين، وآخر للجزارين.. وهكذا، وبنى فيها قصره الضخم، ومسجده الذى بنى على طراز خاص ضد الحروق وغرق الفيضان، ومازال فى مكانه حتى الآن قرب منطقة السيدة زينب. وتذكر المصادر أن من بنى مسجد بن طولون مهندس مسيحى اسمه سعيد الفرغانى، والذى يشهد المسجد على براعته فى الهندسة والبناء، كما أنشأ بن طولون قناطر لتنقل المياه من نهر النيل إلى القطائع، لا تزال آثارها موجودة وهى ما يعرف حالياً ب«سور مجرى العيون». واهتم ابن طولون بأحوال رعاياه وأنشأ أول بيمارستان «مستشفى» مجانى عام 259 هجريا، دون تمييز بين المرضى على أساس الثروة أو الدين كما أنه اتبع نظاماً يدل على الرقى والتقدم آنذاك، إذ كان يجب على المريض خلع ملابسه وتسليمها هى وأمواله ثم يستلم ملابس جديدة خاصة بالمستشفى، كما كان يحصل على الدواء والغذاء مجاناً خلال فترة العلاج وعند شفائه وخروجه يستلم ملابسه. وكان ابن طولون يتفقد البيمارستان بنفسه، يوم الجمعة من كل أسبوع ليطمئن على راحة المرضى. وقام ابن طولون بعدة إصلاحات منها ترميم منارة الإسكندرية، ومقياس النيل، كما بنى مساجد أخرى على جبل المقطم، لتخفيف العبء على جامع عمرو بن العاص. وكان ابن طولون يتعامل مع أقباط مصر بشكل خاص وذكر جورجى زيدان فى أحد مؤلفاته، موقفه مع دميانة بنت مرقص إحدى أعيان الأقباط، والمهندس المسيحى سعيد الفرغانى الذى بنى له مسجده والذى كان مقرباً منه إذ إن اسطفانوس بن يوحنا كاتب الخراج فى مصر كان قد اتفق مع والد «دميانة» على الوشاية ب«سعيد» عند ابن طولون، بحفر حفرة وضع الجير الحى فيها فى طريق الأخير، واتهام الفرغانى بأنه الفاعل ليقتلا ابن طولون والذى وقع فى الفخ وأمر بحبس مهندسه. وكان هدف اسطفانيوس ومرقص إبعاد سعيد عن دميانة، التى كانت تمتلك قرية كاملة ورثتها عن مربيتها «مارية القبطية التى استضافت «الخليفة المأمون» أثناء زيارته إلى مصر، حيث طمع الأب فى الإرث وأراد أن يزوجها اسطفانيوس واقتسام الثرورة معه، ولكن زكريا خادم «دميانة» كشف أمرهما أمام ابن طولون وأمام البطريرك «ميخائيل» بطريرك الأقباط حينئذ، فأمر ابن طولون بتعويض سعيد عن الأذى الذى لحق به، واعتذر له وقرر تحمل نفقات عرس دميانة وسعيد ونظم حفلاً يشبه أفراح السلاطين ظل أهالى الفسطاط يتذكرونه سنوات. وقال البلوى فى كتابه إن ابن طولون كان يسير بين الناس دائماً ومعه كاتب يدون فوراً أوامره أثناء تفقد الرعية، وأنه كان أول من أسس جيشاً محلياً بعيداً عن دولة الخلافة وأول من أنشأ ديوان الإنشاء فى مصر خصوصاً أنه كان خطيباً وشاعراً وكان يريد من وراء المشروعات إعلان خلافة مستقلة فى مصر. ويحكى عنه أنه شاهد أحد الفلاحين على «حمار مريض» فأمر باستدعاء الفلاح وعلم منه أنه ينتمى إلى الجيزة وجاء إلى الفسطاط ليشكو فقره بسبب الخراج الذى يصل إلى 50 ديناراً ولا يستطيع سداده، فأمر بن طولون بخفض الخراج المطلوب من الرجل إلى القيمة التى طلبها ومنحه 50 فداناً لزراعتها وصرف له 20 ديناراً ليشترى حماراً قوياً وبكى الرجل وانحنى ليقبل الأرض تحت قدم «ابن طولون»، فمنعه وقال له: «السجود لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى، ولا يقبل به إلا كل جبار عنيد». وهناك رواية أخرى حول كرمه مع الفقراء إذ يقال إنه كان يسير على شاطئ النيل وجد صيادًا يبدو عليه التعب يقف بجوار ابنه فأمر بصرف 20 ديناراً له فى الحال، فذهب الكاتب ووضعه النقود بيده، ثم أكمل ابن طولون طريقه، وأثناء عودته وجد الرجل ملقى على الأرض، وبجواره ابنه يبكى، فذهب مسرعا إليه ليكتشف أن الرجل مات من المفاجأة وعندما أراد أن يأخذ الابن المال رفض الأخير بشدة خوفاً من اللحاق بأبيه.