منذ أن سقط عرش الفراعنة بيد الإسكندر الأكبر عام 332 ق.م إلى ثورة يوليو 1952م لم يجلس على عرش مصر من يحكمها من المصريين. وتوالى على مصر هؤلاء الحكام، فكان منهم من كان لا يهتم سوى بسفك الدماء وجمع الغنائم، ومنهم من كان طامعا فى صنع إمبراطورية كبيرة مركزها مصر، فجاء من الشرق والغرب، وكأن أبواب مصر كانت مفتوحة على مصاريعها لكل من يحمل سلاحا وقوة وكل من له مطامع فى خيرات البلاد ليزيح من كان قبله ويجلس ليحكم فترة، ثم يأتى من هو أقوى منه ليُسقط عرشه ويقيم مملكته. أما نحن المصريين فكنا نتجرع مرارة الظلمة أحيانا، ونتنسم رائحة العدل نادرا، ونثور على الظلم أحيانا. وطيلة هذه السنين لم يستطع الظالم ولا الظلم أن يمحو هوية المصريين، ولا استطاع الحاكم الوافد من الخارج أن يفقدنا روح الوطن أو الانتماء له. فكان دائما يأتى الحاكم بجنوده وعتاده فيبنى القلاع والحصون ويجمع الأموال والثروات، وفى ذات الوقت ينشغل المصريون بحياتهم الخاصة وهم متمسكون بالأرض والوطن وجذور الجدود. وصفحة اليوم من أيام الوطن نحكيها فى فترة ضعف الخلافة العباسية فى بداية القرن التاسع حين انتشرت الثورات ضدهم ودخل الأتراك فى مفاصل الدولة العباسية واستحوذوا على المراكز الكبري. وفى خلافة المأمون أرسل أحد التجار هدية للخليفة عبارة عن مجموعة مماليك من قبيلة تركية ليكونوا فى خدمته. وكان منهم طولون الذى أعجب به الخليفة، ومع الزمن وثق فيه حتى صار رئيسا للحرس الخاص. وأنجب عددا من الأبناء منهم أحمد بن طولون من جارية كانت بقصر الخليفة، فتربى تربية عسكرية حازمة وقضى شبابه فى بغداد. وبعد وفاة والده 854م فوض إليه الخليفة العباسى المتوكل ما كان لأبيه من مهام عسكرية وقد أظهر شجاعة كبيرة فى حماية قوافل الخليفة التجارية الآتية من الشام مما جعله أيضا موضع ثقة. وفى خلافة المعتصم ولى باكباك التركى إمارة مصر والشام وكان زوج والدة أحمد بن طولون، ولم يرد باكباك أن يترك الخليفة ومقر الحكم فأرسل ابن طولون نيابة عنه ليحكم مصر. وبعد مقتله جاء بعده القائد التركى باجوخ الذى كان ابن طولون متزوجا من ابنته فأرسل باجوخ رسالة لابن طولون ليقول له فيها: «تسلم من نفسك لنفسك» وكان هذا إشارة أن يستقل أحمد بن طولون بحكم مصر. وكان ارتباطه بالخلافة العباسية ارتباطا روحيا وأدبيا فقط. وكان أحمد بن طولون له طموح كبير فى التوسع فى حكمه، ولكنه كان أيضا شخصية فيها تناقضات كبيرة حتى قال عنه مصطفى الرافعى: «إنه كانت له يد مع الملائكة ضارعة ويد مع الشياطين ضاربة». ولكنه فى ذات الوقت اهتم بالزراعة والصناعة مما جعل البلاد تزدهر. وقد كان المقر القديم لحكم العرب فى الفسطاط، حيث بنى عمرو بن العاص الجامع الكبير واجتمع حوله بيوت وأسواق قريبة من مدينة بابليون التى كان يسكنها الأقباط. وحين دخل العباسيون بحثوا عن موضعٍ جديدٍ لإقامتهم بسبب احتراق الفسطاط بواسطة مروان بن محمد أخر الخلفاء الأمويين لذلك بنوا مدينة سموها العسكر أو المعسكر، وكانت هى العاصمة الثانية بعد الفسطاط فيها دار للإمارة ومسجد ومعسكرات الجنود ويحيط بها بعض الأحياء يسكنها بعض الموظفين ورجال الدولة. ولكن لم ترض هذه المدينة غرور أحمد بن طولون فقرر أن يبنى مدينة تشبه مدينة سامراء العراقية التى كان تربى بها، وكانت عبارة عن قصر كبير به أربعون بابا يحتمى فى جبل المقطم، ثم أحياء كل منها يسكن فيها أرباب الحرف المختلفة. وكان كل حى قطعة لذلك سميت المدينة بالقطائع. وأراد توفير المياه العذبة للمدينة الجديدة فأوكل هذا المشروع إلى مهندس قبطى شهير كان قد أعاد ترميم مقياس النيل بالروضة اسمه سعيد الفرغاني، وغالبا من فرغان بمحافظة الشرقية. فصنع له قناطر تحمل المياه إلى المجرى الذى يطلق عليه الآن سور مجرى العيون. وكان عملا هندسيا عظيما أتمه فى عام 873م وتكلف مائة وأربعين ألف دينار. وحدث لما ذهب ابن طولون لمعاينة العمل بعد انتهائه أن غاصت رجل الفرس الذى كان يركبه فى أرض رطبة فسقط الفرس ومن فوقه ابن طولون، وما أن وقف على قدميه حتى حكم على المهندس بالسجن. ويقول المقريزي: «إنه أمر بشق ما عليه من ثياب، وضربه خمسمائة سوط، وأمر به إلى السجن. وكان المسكين يتوقع الجائزة فاتفق له السوء» (المقريزى الجزء الرابع صفحة 338) وبعد ذلك فكر ابن طولون فى بناء جامع يكون أعظم ما بنى من مساجد فى مصر فجمع المهندسين الذين أشاروا عليه أنهم يحتاجون إلى ثلاثمائة عمود من الرخام وأن هذه الأعمدة موجودة فى الكنائس فحتى يبنى الجامع الكبير لابد أن تهدم تلك الكنائس، وسمع بذلك سعيد الفرغانى وهو بالسجن فأرسل إلى الوالى تصميم مسجد لا يحتاج إلى أعمدة إلا عمودى القبلة. ولما رأى بن طولون هذا التصميم أعجب به وأطلق سراحه وأعطاه مائة وعشرين ألف دينار لبناء الجامع. ويشهد جامع ابن طولون بعبقرية هذا المهندس إذ تُرى العقود المدببة فى الجامع قبل أن تعرف فى بنايات أوروبا بقرنين من الزمن. وبعد انتهاء التحفة المعمارية أعجب بها بن طولون وأمر بإعطاء المهندس سعيد عشرة آلاف دينار، ثم استقبله فى القصر وعرض عليه أن يترك ديانته ولكنه رفض بأدب. وقد ثار عليه أحد أبنائه وأعلن استقلاله بالحكم فقبض عليه ووضعه فى السجن حتى مات، ثم تولى من بعده ابنه خمارويه الذى بعده انتهت الدولة الطولونية. وهكذا أيامنا مع الحكام. كاهن كنيسة المغارة الشهيرة بأبى سرجة الأثرية لمزيد من مقالات القمص أنجيلوس جرجس