أفتت اللجنة الشرعية التابعة لمرصد الأزهر الشريف مؤخرا بحرمانية هدم دور العبادة أو إغلاقها أو منع أصحابها من دخولها وممارسة طقوس عبادتهم فيها.. فما بال اللجنة إن علمت أن المصريين منعوا أنفسهم - بكامل إرادتهم - من الصلاة فى أحد أهم مساجد مصر «المحروسة» وهو مسجد أحمد بن طولون بسبب هذه الفتوى «؟!!» ولكن ما علاقة الفتوى بعدم صلاة المصريين فى مسجد ابن طولون؟! سؤال مهم إجابته فى السطور التالية.. بداية.. مسجد ابن طولون، هو مسجد أقامه السلطان أحمد بن طولون عام 263 ه.. وأنفق على بنائه 120 ألف دينار.. واهتم «بن طولون» بالأمور الهندسية فى بناء المسجد.. فمئذنة المسجد هى أقدم مئذنة موجودة فى مصر.. والمسجد يعد الوحيد فى مصر الذى غلب عليه طراز بناء المساجد فى سامراء - أصلها سر من رأى - بالعراق حيث المئذنة الملوية المدرجة.. وطولون «الأب» هو أحد المماليك الأتراك الذين أهداهم عامل بخارى إلى الخليفة المأمون.. وخدم فى البلاط العباسى حتى بلغ مصاف الأمراء.. ونشأ ابنه أحمد نشأة الأمراء.. فلما تولى «باكباك» إمارة مصر من قبل الخليفة العباسى أناب عنه أحمد فى ولايتها فقدم إليها سنة 254 هجرية 868 ميلادية ثم تولى الحكم بعد وفاة باكباك.. وكانت ولاية بن طولون على مصر أول الأمر مقصورة على الفسطاط فقط.. ثم وسع فى نفوذه حتى شمل سلطانه مصر كلها وبسط سيطرته على الشام وبرقة «ليبيا» مؤسسا الدولة الطولونية التى حكمت مصر من سنة 254 إلى 292 هجرية.. وتوفى سنة 270 هجرية.. وتأتى أهمية أحمد بن طولون من أنه نقل مصر من ولاية تابعة إلى الخلافة العباسية إلى دولة ذات استقلال ذاتى.. ويعد جامع أحمد بن طولون ثالث الجوامع بمصر الإسلامية بعد جامع عمرو بن العاص.. وجامع العسكر الذى زال بزوال مدينة العسكر التى كانت تشغل حى زين العابدين «المدبح حاليا». ويتميز هذا الجامع بزخارفه الإسلامية البديعة التى تجعله أحد النماذج النادرة لفن العمارة الإسلامية.. وفى عهد الأيوبيين أصبح الجامع «جامعة» تدرس فيه المذاهب الفقهية الأربعة وكذلك الحديث والطب إلى جانب تعليم الأيتام. وقد شيد ابن طولون مسجده على مساحة كبيرة تبلغ ستة أفدنة ونصفا فوق جبل يشكر - بوسط مدينته الجديدة القطائع - وبناه بعد أن شكا الناس من ضيق جامع مدينة العسكر.. فبدأ البناء عام 263 ه واكتمل بناؤه بعد عامين. • «حلم» ابن طولون! بداية أيضا لابد أن نذكر أن المهندس الذى بنى المسجد هو «المهندس القبطي» سعيد بن كاتب الفرغانى.. ومن الحكايات التى يرويها السيوطى فى كتابه «حسن المحاضرة فى أخبار مصر القاهرة» أنه: «لما تم بناء الجامع رأى ابن طولون فى منامه كأن الله تجلى للقصور التى حول الجامع ولم يتجل للجامع فسأل المفسرين فقالوا: يخرب ما حوله ويبقى الجامع قائما وحده «!!» قال: ومن أين لكم هذا؟ قالوا: من قوله تعالي: «فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا».. وقول الرسول «صلى الله عليه وسلم»: «إذا تجلى الله لشيء خضع له» فكان كما قالوا!!.. وتحقق حلم بن طولون.. وعاش الجامع بينما فَنى كل ما حوله.. والغريب أن هناك قصة أخرى عن الأحلام ارتبطت بالجامع ذاته مروية عند السيوطى أيضا إذ قال: فصلى الناس فيه وسألوه أن يوسع قبلته.. فذكر أن المهندسين اختلفوا فى تحرير قبلته.. فرأى فى المنام النبى «صلى الله عليه وسلم» وهو يقول: يا أحمد.. ابن قبلة هذا الجامع على هذا الموضع وخط له فى الأرض صورة ما يعمل.. فلما كان الفجر مضى مسرعا إلى ذلك الموضع.. فوجد صورة القبلة فى الأرض مصورة.. فبنى المحراب عليها.. وعظم شأن المسجد. وذكر أيضا.. أن ابن طولون قال: أريد أن أبنى بناء إن احترقت مصر بقى.. وإن غرقت بقى.. فقيل: تبنى بالجير والرماد والآجر الأحمر ولا تجعل فيه أساطين - أعمدة خشب - خام.. فإنه لا صبر لها فى النار فبنى هذا البناء.. فلما كمل بناؤه أمر بأن يعمل فى دائرة منطقه - وسطه - عنبر معجون ليفوح ريحه على المصلى.. وصنع به «سقاية» - عين لشرب الماء - فبلغه أن قومًا لا يستحلون شرب مائها.. وكان مبلغ النفقة على هذه العين فى بنائها ومستغلها أربعين ألف دينار.. وأشعر الناس بالصلاة فى الجامع.. فلم يجتمع فيه أحد ظنا منهم أنه بناه من مال حرام «!!» فخطب فيهم.. وحلف أنه ما بنى هذا المسجد بشيء من ماله.. وإنما بناه بكنز وجده!! وحكى بن طولون أنه كان مرة راكبا فرسه فى إحدى المناطق.. فغاصت ساقا الفرس فى الأرض كاشفة عن كنز كبير من الذهب.. وبهذا الكنز بنى مدرسته وجامعه وقصره وبيمارستانه - مستشفاه - و لكن يبدو أن المصريين لم يصدقوه.. وقال لهم أيضا: إن أعمدة المسجد لم تكن من مسجد آخر أو كنيسة.. فأبوا أن يصلوا فى جامع لا يعرفون من أى مال أقيم.. أو من أين جاء بأعمدته ومواد بنائه.. وبذلك طبق المصريون نص فتوى لجنة الأزهر ولكن قبلها بألف عام!! • الأمير لاجين وإعمار المسجد الأمير لاجين كان أحد المماليك الذين قاموا بقتل الملك الأشرف خليل بن قلاوون.. ومن ثم أخذ مماليك الأشرف فى طى البلاد بحثا عنه ليثأروا.. فما كان من «لاجين» إلا أن اختبأ فى منارة مسجد بن طولون الذى كان قد هجرته الناس.. وتدور الأيام ويتولى «لاجين» عرش مصر.. ويسمى بالناصر.. فيوفى بنذره ويعيد إعمار الجامع - الذى احتمى به - بعد خرابه بأكثر من 400 عام.. بعدما كان يستخدم مربطا لإبل المارة من الحجاج «!!» فنذر له المال والأوقاف و«بلّطه» وبنى ميضأة وجعل فيه كتاب لتعليم الأطفال وزرع حوله البساتين.. وأزال الخراب من حوله متكلفا مالا جما.. فقط إيفاء لعهده مع نفسه أمام الله.. فهكذا قيد الله الأمير لاجين ليكون هو سر بقاء المسجد وإعماره فى هذه الفترة. • الغيطانى والمسجد أما الكاتب الصحفى الكبير والروائى جمال الغيطانى فيقول: تتجلى فى مسجد «بن طولون» فكرة علاقة الفراغ بالكتلة فى إشارة رائعة وفريدة لعلاقة الروح بالجسد.. وكيف كانت مئذنته تمثل حنينا من بن طولون إلى العراق لذلك كان استنساخه لمئذنة جامع سامراء.. وعن سر عدم إقامة المصريين للصلاة فى مسجد «بن طولون» يقول: ذكر القرمانى فى تاريخه «أخبار الدول وآثار الأول» أن السيدة نفيسة - رضى الله عنها- قادت ثورة الناس على بن طولون لمّا استغاثوا بها من ظلمه.. فقالت لهم: متى يركب؟ قالوا: فى غدٍ.. فكتبت رقعة ووقفت بها فى طريقه وقالت: يا أحمد بن طولون.. فلما رآها عرفها فترجل عن فرسه.. وأخذ منها الرقعة وقرأ فيها: «ملكتم فأسرتم، وقدرتم فقهرتم، وخولتم ففسقتم، وردت إليكم الأرزاق فقطعتم، والأكباد جوعتموها، والأجساد عريتموها، فمحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم، اعملوا ما شئتم فإنَّا إلى الله متظلمون، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون». يقول القرماني: فعدل من بعدها ابن طولون لوقته.. ورفع المظالم عن الناس.. فلم يقبل المصريون من وقتها الصلاة فى مسجد دعت السيدة نفيسة - رضى الله عنها - على من قام ببنائه!! •