من منا لا يجد راحته في السير وسط مساحات خضراء، زروع كثيرة، والكثير من نسمات الهواء النقية، والمليئة بالأكسجين، مساحات تساهم في حصولنا على الاسترخاء والهدوء،. وطرد السموم من جسده. لكن ماذا سيكون رد فعلك اذا كانت هذه الأعشاب- والتي نمت لارتفاع يزيد على المتر بالمقارنة باخرى قريبة منها - وصلت إلى هذا الارتفاع بفعل بقايا الجثث البشرية المتحللة على مدار أسابيع؟ عام 2017، افتتحت مزرعة كان يُفترض أن يكون موقعها في هيلزبرا، لكن السكان المدينة المحليين اعترضوا، خوفا أن تجذب الجثث الحيوانات المفترسة وتنشر روائح كريهة، وهو ما سيؤثر سلبا على أسعار العقارات في المنطقة. لم تقتصر المخاوف على السكان فقط، فبعض العلماء أعربوا عن شكوكهم في جدوى "مزارع الجثث"، وما إذا كانت لها أي أهمية. وهي ليست المزرعة الوحيدة، فهناك ست مزارع أخرى في الولاياتالمتحدة. كما يجري التجهيز لافتتاح مزارع مشابهة في أستراليا وكندا والمملكة المتحدة بنهاية هذا العام. كما حصلت جامعة فلوريدا الجنوبية على موافقة أصحاب الجثث المستخدمة في المزرعة قبل وفاتهم، أو موافقة ذويهم. الحقل به 15 جثة بشرية، كلها بلا أكفان، بعضها محاط بأقفاص معدنية، وبعضها مغطى بأكياس بلاستيكية زرقاء، وآخرى في قبور مكشوفة، وبشكل عام، كل الجثث معرضة لعوامل الطبيعة، بحيث تحاط كل جثة برقعة من الحشائش الميتة، يفترض أن تنمو بسرعة بفضل المغذيات الجديدة. فالحقل بمثابة مختبر تشريح أنثروبولوجي مفتوح، وتديره جامعة كاليفورنيا الجنوبية في منطقة ريفية بالقرب من منطقة تامبا، بالقرب من سجن المقاطعة، المكان مخصص للعلم، رغم أن ما يحدث لهذه الجثث ينافي كل الشعائر المرتبطة بالموت، فالهدف الأساسي من مزارع الجثث هو فهم طريقة تحلل جسم الإنسان، وما يتغير في بيئته المحيطة. ويأمل العلماء أن يساعدهم الدراسات في هذا الحقل على جمع معلومات هامة، من شأنها المساعدة في حل الجرائم وتحسين اساليب الطب الشرعي في التعرف على الجثث. وحتى يتم معرفة جدوى هذا الحقل، لابد من فهم عملية التحلل، والتي تشمل مراحل تفصيلية لعملية تحلل جسم الإنسان، وتشمل: مراحل عملية التحلل 1- بعد الوفاة فوراً: إذ يتوقف نبض القلب، وتنخفض درجة حرارة الجسم، على إثر توقف سير الدم الذي يبدأ في التكتل في أجزاء بعينها. 2- الانتفاخ: تتآكل الأنسجة الداخلية بفعل البكتيريا، ويتغير لون الجلد بشكل ملحوظ. ويبدأ تراكم الغازات في الجسم، فينتفخ وتتهتك الأنسجة الداخلية. 3- التحلل النشط: وهي المرحلة التي يفنى فيها الجزء الأكبر من جسم الإنسان. تكون أغلب الأنسجة الداخلية قد تآكلت بفعل الديدان، أو تُسال وتنسكب في البيئة المحيطة. 4- التحلل المتقدم: تكون أغلب الأنسجة الداخلية قد تلاشت، وتتراجع أعداد البكتيريا والديدان والحشرات. وإذا كان الجثمان على التربة، تموت الأعشاب والنباتات المحيطة وتتغير نسبة الأكسدة في التربة. 5- البقايا الجافة: يكون ما تبقى من الجسم أشبه بالهيكل العظمي. وأولى علامات هذه المرحلة تظهر على الوجه واليدين والقدمين. وقد ينتهي الأمر بتحول الجثة إلى ما يشبه المومياء في البيئة الرطبة. وقد تعود النبات للنمو بفعل العناصر العضوية المغذية التي سُربت للتربة المحيطة. تحلل الأجسام له تأثير فوري على البيئة المحيطة به لكن هذه المراحل ليست ثابتة، وتتغير بشدة حسب ظروف البيئة المحيطة، وهذا بالضبط هو هدف البحث الذي يقوم بها علماء الطب الشرعي في هذه المزارع. ولدراسة العوامل المرتبطة بالأوضاع المختلفة، توضع بعض الجثث في أقفاص حديدية، وتترك أخرى مكشوفة، بحيث يراقب العلماء ما يحدث للأجسام أثناء التحلل، إذ تأكل الديدان الأنسجة الداخلية، وتخلف الجلد والعظم، لكن الجثث غير المحمية تجذب الطيور الجارحة، مثل النسور والحيوانات البرية مثل الذئاب والقوارض الصغيرة. كما تظهر الحيوانات الأكبر، التي بإمكانها إفتراس الجثث وإحداث ثقوب في الجلد، وتقطيع العضلات وأعضاء الجسم، وحتى قلب الجثث للاستمرار في أكل الجانب الآخر منها، بحيث يتم متابعة الجثث بشكل يومي، ويسجلون ملاحظات دقيقة عن التغيرات التي تطرأ خلال مراحل التحلل. ويزور علماء الطب الشرعي المزرعة يوميا طوال عملية التحلل، ويوثقون التطورات التي تطرأ على كل جثة، ويلتقطون الصور، ويصورون مقاطع فيديو، ويراقبون التغيرات ويدونون مشاهدات مفصلة، كما يتم متابعة مكان ووضع الجثة، ما إذا كانت قريبة من المياه، فوق الأرض أو تحتها، داخل قفص أو بدون قفص. وينضم للفريق علماء جيولوجيا وجيولوجيا فيزيائية، لتحليل ما يحدث للتربة والمياه والهواء والاعشاب والنباتات المحيطة، وتأثير المواد التي تفرزها الجثث على البيئة المحيطة بها. وبعد تحول الجثث إلى هياكل عظمية، تُنقل إلى ما يُعرف في الطب الشرعي ب "المعمل الجاف". وهناك تُنظّف العظام وتُخزن، لتكون جاهزة لاستخدام الطلبة والباحثين. كما يواجه العمل مع الجثث عدد من التحديات، فهذا النوع من الأبحاث صادما، لما ينطوي عليه من تعاملات مع الجثث، والموت، وتسجيل التفاصيل الدقيقة لما يحدث أثناء التحلل. استقبلت هذه المزرعة 50 جثة من متبرعين منذ افتتاحها في أكتوبر 2017. كما أوصى 180 آخرين بالتبرع بجثامينهم عند وفاتهم، وأغلب المتبرعين من كبار السن، ويرفض الباحثين المتبرعين المصابين بأمراض معدية، خشية تعرض العاملين في الدراسة للعدوى. على جانب اخر يوفض بعض العلماء هذا النوع من الدراسات وينفون أن تكون لها أي قيمة علمية قد تقدم مزارع الجثث بيانات علمية هامة، لكن ثمة تحديات لمدى الفائدة التي تعود منها. ويطلق الناس على هذا المكان اسم "مزرعة الجثث"، لكن العلماء يفضلون تسميته ب "مقبرة التشريح"، لأن الهدف منه هو دراسة ما يحدث للكائنات الحية بعد موتها، ترى ايهما الاسم المناسب؟