إريتريا بقلم الجغرافيا، هى دولة إفريقية عاصمتها أسمرة.. اسمها مشتق من التسمية اليونانية للبحر الأحمر (سينوس إرِتريوم) وتعنى البحر الأحمر، وأطلق اليونانيون ذلك الاسم عليها فى القرن الثالث ق.م، تخليدا لاسم جزيرة فى اليونان تحمل نفس الاسم، وتقع فى الشاطئ الشرقى لبلاد الإغريق. أما إريتريا بقلم الأدباء، فهى ثقافة غامضة من الأدب المختلف الذى لا يستطيع القارئ أن يبتلعه بسهولة دون أن يسبب له عسر هضم، وهذا يعود وبكل أسف إلى أجيال لا تقرأ بالمعنى المفهوم للقراءة، التى تفتح أبوابا أمام الفكر المختلف والأدب الذى يجعلك تسافر على متنه لآخر العالم. من المعروف أن أدب القارة الإفريقية بشكل عام، وأدب البلدان التى يكتب فيها جزء من أدبها باللغة العربية مثل دول منطقة القرن الإفريقى بشكل خاص، قليل الانتشار فى بلداننا من المحيط إلى الخليج، ويعد هذا نقصا فادحا فى حياتنا الثقافية، وذنب لا يتحمله سوى حكوماتنا المتعاقبة. وإريتريا بقلم الروائى إريترى الأصل حجى جابر قال عنها الآتى: «هناك على الأغلب لا مبالاة عربية بإريتريا عموماً، ناهيك عن آدابها. النظام سعى ونجح فى عزل إريتريا عن محيطها العربى، وهمّش وأضعف اللغة العربية فيها، وفى المقابل لم يرَ العرب فى ذلك ما يستدعى الانتباه. أنا لا ألوم العرب هنا فهم غارقون فى مشاكلهم، لكنى أُوصّف الحال وأجيب عن سؤالك. فيما يخص الروايات هناك عدد لا بأس به لروائيين إريتريين مميزين تمكنوا من الحضور وغيرهم. وأستطيع الجزم أن الحالة الروائية الإريترية تشهد هذه الأيام حراكاً لم تعرفه من قبل، وهذا أمر مبشر للغاية». 1- رواية بمذاق إفريقى بالمصادفة وقع فى يدى رواية (مرسى فاطمة)، الصادرة عن دار نشر المركز الثقافى العربى للكاتب الإريترى حجى جابر، التى تقع فى 254 صفحة من القطع فوق المتوسط، توقعت أن تقدم الرواية أدبا مختلفا، وتأخذنى إلى مناطق ربما لا أستطيع أن أبحر إليها بمركبى منفردة. ترصد الرواية بقلم غير مألوف تفاصيل حياة مئات الشباب ممن خاضوا تجارب قاسية، مليئة بتفاصيل عالم غريب، محتشد بالخطف والقتل وسرقة الأعضاء البشرية، بعد أن تلقفتهم عصابات الاتجار بالبشر، ابتداء بإريتريا والسودان ومرورا بسيناء مصر وانتهاءً بإسرائيل. تتطرق بحرفية المعايش للأحداث تلك المشاهد السردية التى تغوص فى حياة تلك العصابات وما تحكمها من قوانين، وتغوص بجرأة وتفتح بمشرط الجراح نفوس أفراد تلك المجتمعات ومشكلاتهم، لتحلل بدقة ومهارة الصانع نظرتهم إلى الحياة والناس، ولتتعمق وراء أمراضهم النفسية ورغباتها المجنونة فى اقتراف الفظاعات، فيما اعتمد الراوى فى ذلك على الفنون الصحفية وتقنياتها، والوصف الدقيق للشخصيات والأجواء التى تقع فيها الأحداث، ليقدم بذلك حبكة درامية أسهمت فى عكس الواقع بكل تفاصيله المؤلمة. 2- فاطمة والأبطال تبدو الأشخاص منذ الوهلة الأولى أقرب إلى الرمزية، مثل «داني»، ممثلاً للإصلاحيين والعقيد «منجوس» ممثلاً للديكتاتورية، وبالطبع فاطمة التى لم تمثل فقط العنصر الأنثوى بالرواية، بل هى الوطن بكل ما يحمل من آلام وكبوات وصراعات وأحلام. ما أجمل أن تشبه الأوطان بالإناث، فكيف نشبه الوطن فى خشونته بالرجل، تحكى الرواية عن رحلة البحث عن سلمى التى اختفت فجأة، لتبدأ رحلة الشقاء فى المعسكرات ومقاطعات تجار البشر، ورعب تجاوز الحدود، وبؤس القرى المنسية. 3- سلمى تلك الفتاة التى يصفها حجى كالآتى: «سلمى تلك التى "تميل إلى الطول، وسمرتها صافية، وشعرها أسود كثيف، وعلى تخوم شفتها العليا شامة خفيفة، ولها لثغة ساحرة فى الراء. الوطن كذبة بيضاء، يروج لها البعض دون شعور ويتلقفها آخرون دون شعور بالخديعة». تبدأ الأحداث بحسرة فجيعة الخسارة لبطل لا نعلم له اسمًا، يفقد حبيبته وزوجته سرًا، اختفت فجأة وهى حامل بطفله، لا يدرى من أين يبحث، هو ضائع من داخله وهو بين خيارين صعبين؛ فإما أن يستمر بحرقة الفراق وإما أن يلحقها لمعسكر تجنيد إجبارى اسمه (ساوا)، وهو يتميز بصناعة الرجال وحمى الوطن، حيث يتم فيه تدريب الشباب من أجل الوطن وليس له مدة نهاية محددة، وما أن ينهى المجند فترة تجنيده حتى يتحول إلى عامل سُخرة يشيد المبانى ويرصف الطرقات مقابل وجبة عدس. ويختار الشاب اللا مذكور الخيار الأصعب، ويذهب إلى المعسكر، وهناك يختارون له رقما ثم تبدأ أولى رحلاته، مجرد رقم هامشى كان أو لم يكن، نعرفه مجرد رمز يدل على كينونته، الأسماء تعيش فى الذاكرة فترة أطول من الرقم، لها نصيبها من الشخص ولها أثرها ووقعها فى نغمتها، لذلك لا فائدة من الاسم فى وطن يهمشنا ويتنكر لنا.. وهذا هو ملخص ما أراد أن يقوله الكاتب، ولكنى أعتقد أن الرواية لم تكن سلسة بالشكل الذى يستطيع به أن يصل بفكرته إلى القارئ. فى داخل المعسكر يلتقى بشخصية الشاب اليسارى السياسى الثورى الرافض، يستيقظ مرة أخرى الشاب فى ساوا على حقيقة فقدانه لحبيبته سلمى، ليجدد عملية بحثه ولا يفقد الأمل فيقرر الهرب إلى السودان ظنا منه أنه يلاحق سلمى إلى السودان، مرة أخرى يتعثر بحقيقة الوطن عند البعض، يقع بين يد عصابات (الشفتا)، على الحدود يلتقى بأفراد لا يلبث أن يعرف أنهم أسرى العصابات التى تستنزف قواهم وأموالهم، والتى حولت حياتهم إلى جحيم أكثر إيلاما وصعوبة، ويصبح أمام الشاب خيار الفرار إلى إيطاليا. فهل ينجو إلى الحياة الرغدة السهلة أم يبقيه نداء الوطن وحنينه إلى الأرض، التى ما زالت دماء أبنائها تنزف فوقها كل يوم، هذا هو باختصار شديد رواية صحفى إريترى حاول بكل صدق أن يصل صوته للعالم الذى أدار ظهره لمشاكل وطنه. الحقيقة أن المعنى من وراء الرواية كبير، ولكن لغة الرواية وتفاصيلها الكثيرة أحدثت حالة من الإرباك للقارئ، جعلته ربما يهرب من بين صفحاتها إلى عالم أكثر تفاؤلا وأقل دموية، لعل الأدب الإيريترى مختلف، ولعل تلك الرواية قد تسللت من بين أصابع الكاتب إلى تلك المنطقة التى تجعل القراء ينفضون من حوله وهى منطقة.. الملل. 4- كلمة المؤلف أحب أن أختتم العرض بصرخة وجهها الروائى للعالم العربى والغربى عبر أحاديثه الصحفية، التى يحاول فيها كما يحاول فى رواياته أن يصل صوته إلى الناس علهم يفيقون: «إريتريا فى عزلة كبيرة، وهذا ما أراده النظام ونجح فيه. فللقمع اليد الطولى هناك، ولا مكان فى إريتريا لأى وسيلة إعلام أجنبية أو محلية مستقلة.وشبكة الإنترنت ضعيفة جدًا بحيث لا يمكن إرسال صورة أو مقطع فيديو، وهناك ضريبة «رفاهية» على من يستخدم أطباق الساتلايت، ولا تعمل خدمة الجوال الدولى فى إريتريا، كما لا يمكن إرسال أو استقبال الرسائل النصية بين إريتريا وبقية دول العالم، وتخضع الاتصالات الهاتفية لمراقبة شديدة، ولا يستطيع أى شخص استخراج شريحة هاتف ما لم يكن بحوزته صكّ ملكية عقار ومع كل هذا فقد جرت محاولة انقلابية فى يناير قبل عامين باءت بالفشل، وليس معلومًا ما ستسفر عنه الأيام المقبلة».