"دموع، صُراخ، وانهيارات" ثلاث كلمات عبرت عن أجواء جنازة العندليب الراحل عبدالحليم حافظ، في مارس عام 1977م، حيث شهدت جنازته وجود حشود عظيمة من الجماهير، التي خرجت إلى الشوارع تعبيرا عن حزنهم الشديد لفراق فنانهم الأول، صاحب الشعبية الأكبر في مصر والعالم العربي، وحضر جنازته 2 مليون ونصف شخصا، وهو المشهد الذي لم يشهده التاريخ، سوى في جنازة الرئيس السابق جمال عبدالناصر عام 1970م. "أميمة عبدالوهاب"، فتاة تبلغ من العمر 21 عاما، قررت التخلص من حياتها، والانتحار حزنا على العندليب الأسمر، فذهبت إلى منزله وألقت بنفسها من شرفة شقته بالدور السابع، لتقع جثة هامدة أسفل المنزل، وقبل رحيلها، كتبت "أميمة" رسالة بخط يدها، جاء بها: "سامحني يا رب على ما فعلت بنفسي، لم أقو على تحمل هذه الصدمة بوفاة أعز وأغلى ما في الحياة عبدالحليم حافظ، فقد كان النور الذي أضاء حياتي، واليوم الخميس كرهت الحياة منذ اللحظة التي قرأت في الصحف خبر وفاته". يحل غدا الخميس، الذكرى ال40 لوفاة "عبدالحليم محمد إسماعيل شبانة"، المعروف ب"عبدالحليم حافظ"، ابن قرية "الحلوات" بمحافظة الشرقية، الذي تجرع مرارة اليُتم منذ نعومة أظافره، وحفر اسمه بحروف من ذهب في عالم الفن، وأصبح معشوق الجماهير، الذين لقبوه ب"العندليب الأسمر"، وما زالت قريته تخلد ذكراه حتى الأن، بوجود السرايا الخاصة به والتي تحتوي على الكثير من متعلقاته الشخصية. وُلد العندليب الأسمر فى 21 يونيو عام 1929م، وهو الشقيق الأصغر بين 3 أخوة، هم إسماعيل، علية، ومحمد، الذين احتضنوه وضحوا من أجله ليصبح فنانا معروفا ثم نجما لامعا في سماء الفن، وكانت "علية" بمثابة الأم بالنسبة له، طوال حياته وحتى وفاته عام 1977م، وأراد القدر أن يختتم العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ، مشواره الفني بأغنيته الشهيرة "قارئة الفنجان"، من كلمات الشاعر نزار قباني، وألحان محمد الموجي، التي غناها لأول مرة في أبريل 1976م، لتأتى كملخص لسنوات حياته القصيرة التي خلدت وجوده في قلوب جمهوره لسنوات طويلة. تألق الفنان الراحل عبدالحليم حافظ، في الفترة من عام 1951م وحتى وفاته في السبعينيات، بتقديم عدد كبير من الأغنيات التي جمعت بين الأغاني العاطفية والوطنية، وكذلك الأفلام التي تركت بصمة قوية في تاريخ السينما المصرية، ويعتبر العندليب من أكثر فناني مصر تمردًا على المرض، الذي لازمه منذ شبابه، حيث أُصيب بتليف في الكبد، وكان هذا المرض سببًا في وفاته، بعد صراع طويل مع المرض، وخضوعه إلى 61 عملية جراحية خارج مصر. عاش العندليب الأسمر حياة قصيرة مليئة بالمفارقات العجيبة، فالحزن والفرح كانا متلازمين في حياته، ففي أوج نجاحه وشهرته التي تمناها منذ طفولته، جاءت معرفته بمرضه فى عام 1956م للمرة الأولى، وذلك عندما أصيب بأول نزيف في المعدة وكان وقتها مدعواً على الإفطار بشهر رمضان لدى صديقه مصطفى العريف، ورافقه هذا النزيف الذي نتج عن إصابته بمرض البلهارسيا في طفولته، طوال حياته وحتى مماته داخل مستشفى كينجز كولدج في لندن. تعاون حليم، مع عدد كبير من شعراء وملحنين جيله، كما قدم عددا من الأغنيات التي قام بتلحينها موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، ومنها: أهواك، نبتدي منين الحكاية، وفاتت جنبنا، وكوّن حليم، مع الثنائي محمد الموجي، وكمال الطويل، فريقا فنيا أخرج أهم الأعمال الفنية في تلك الفترة، كما تعاون حليم مع الشاعر عبدالرحمن الأبنودي، الذي غنّى العندليب من كلماته أجمل أغنياته التي تميزت بالتجدد في هذه الفترة، وأبرزها: أنا كل ما أقول التوبة، عدى النهار، وأحضان الحبايب. قدم حليم، عدد غير قليل من أهم الأغنيات الوطنية التي كانت تعبيرًا عن حبه لمصر، كما خص الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بعدد منها، وكان يعتبر نفسه من أبناء ثورة 23 يوليو عام 1952م، ومن أبرز أغنياته الوطنية: "العهد الجديد" وهو أول نشيد وطني غناه عبد الحليم حافظ في حياته، وغناها بعد قيام ثورة 23 يوليو، صورة، عدى النهار، أحلف بسماها، وعاش اللي قال. كما تمتع العندليب الأسمر بحب وثناء عدد كبير من فناني وشعراء وملحنين جيله، ومنهم الموسيقار رياض السنباطي، الذي قال عن حليم: "خامة صوت الفنان الراحل عبدالحليم حافظ حلوة وجذابة، باستثناء رجفة غريبة في صوته، لا أعرف سرها، وسبب نجاحه أنه لم يقلد أحدًا قبله، عبدالحليم له طابع خاص به وحده". وقالت كوكب الشرق أم كلثوم، عن العندليب: "عبدالحليم حافظ صوته جميل جدًا، وهو قادر على أن يطربك ويشجيك، ولا أعتقد أن عندنا صوتًا في جمال صوته"، وقال الموسيقار محمد عبدالوهاب: "صاحب أزكى عقل، وأحلى صوت رجولي -حنون عاطفي- لن يعوّض، سيظل النغم الحلو الذي يشدو في أذن الملايين مدى الحياة". كما أثنى عليه أصدقائه فى الكفاح، الموسيقار محمد الموجي قائلا: "أخي الذي لا أستطيع أن أرثيه، أي كلمات لا يمكن أن تغني عن فقداني له، كان شديد الحساسية، وهو شريك عمري وزميل فني"، وقال بليغ حمدي: "عشنا معا أحلى الأيام، الأخ الحبيب في الوفاء والعطاء الجميل، وزميل الكفاح"، وقال كمال الطويل: "من أكثر الأصوات التي نقلت أحاسيسي ومشاعري وخواطري اللحنية والموسيقية إلى ملايين السامعين". استطاع "حليم" أن يجمع بين موهبتي الغناء والتمثيل، بتقديم عدد من الأفلام الهامة فى السينما المصرية، والتي حققت أعلى الإيرادات وتفوقت على أفلام الكثير من نجوم جيله، فجيد العندليب مايقرب من 16 شخصية مختلفة خلال تلك الأفلام، ومن أبرز أفلامه: أيام وليالي عام 1955م، أيامنا الحلوة فى نفس العام، دليلة عام 1956م، الوسادة الخالية عام 1957م، البنات والسيف عام 1960م، الخطايا عام 1962م، معبودة الجماهير عام 2967م، أبى فوق الشجرة عام 1969م.