بدء مؤتمر الهيئة الوطنية لإعلان الجدول الزمني لانتخابات النواب    طرح النهر يغرق ومصر تُجيد إدارة الفيضان.. خطة استباقية تُثبت كفاءة الدولة في موازنة الأمن المائي وسلامة المواطنين    المديرة التنفيذية لصندوق "قادرون باختلاف" تترأس اجتماعاً لاستعراض استراتيجية عمل الصندوق وإعداد مقترح الهيكل التنظيمي    رئيس اتحاد غرف التجارة: الابتكار العمود الفقري للاقتصاد الرقمي    رئيس الوزراء: تنظيم معرض تراثنا للعام السابع على التوالي يؤكد اهتمام القيادة السياسية بقطاع الحرف اليدوية    السيسي يوجه بتأمين الإمدادات البترولية لتشغيل محطات الكهرباء دون انقطاع    أسعار الدواجن في مرسى مطروح اليوم    السبت 4 أكتوبر 2025.. نشرة أسعار الحديد والأسمنت بالمصانع المحلية اليوم    وزير الزراعة يعلن تحقيق الصادرات الزراعية المصرية 7.5 مليون طن حتى الآن    بعد رد حماس على خطة ترامب.. ماذا يحدث داخل تل أبيب؟    ارتفاع حصيلة ضحايا العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة إلى أكثر من 67 ألف شهيد ونحو 170 ألف مصاب    المجر تتمسك بالنفط والغاز الروسيين بينما يسعى الاتحاد الأوروبي والناتو إلى خفض الإمدادات    وزير الرياضة يهنئ أبطال التايكوندو بتصدر التصنيف العالمي    اليوم.. حسام حسن يعلن قائمة منتخب مصر لمواجهتي جيبوتي وغينيا بيساو    بمشاركة 1000 شاب وفتاة.. الشباب والرياضة بالقليوبية تنظم مسيرة شبابية احتفالا بذكرى النصر    دفاع المتهم الثالث في قضية المخدرات الكبرى يطلب من المحكمة تمكينه من الاطلاع على ملف القضية    "الأرصاد": فرص أمطار اليوم على هذه المناطق    ضبط عناصر بؤر إجرامية لجلب المخدرات ومصرع 4 عناصر جنائية شديدة الخطورة عقب تبادل إطلاق النيران مع قوات الشرطة (صور)    قوافل طبية وغذائية لدعم الأسر المتضررة من ارتفاع منسوب مياه النيل بدلهمو بالمنوفية    إخماد حريق بمصنع ملابس في مدينة العاشر من رمضان    فردوس عبد الحميد في مهرجان الإسكندرية: ندمت على تقصيري مع أولادي رغم حبي للفن    التضامن: فريق التدخل السريع وفرقه المحلية تعاملوا مع 662 بلاغاً بمحافظات الجمهورية خلال شهر سبتمبر    "المسلخ رقم 5" رواية ترصد انتشار اضطراب ما بعد الصدمة الناتج عن الحروب    الشروق تنشر تفاصيل حالة مقبرة أمنحتب الثالث قبل وبعد مشروع الترميم    وزير الخارجية يلتقي سفراء الدول الإفريقية المعتمدين لدى اليونسكو    إيرادات فيلم "فيها إيه يعني" تتجاوز حاجز ال10 ملايين جنيه    مواقيت الصلاة اليوم السبت 4-10-2025 في محافظة الشرقية    «التأمين الصحي»: خطة تطوير شاملة لمستشفى النيل بالقليوبية ورفع كفاءة خدمات الطوارئ والرعاية    الرعاية الصحية ببورسعيد بعد إجراء جراحة دقيقة: التكنولوجيا الصحية لم تعد حكرا على أحد    وكيل صحة الشرقية يشارك في المؤتمر العلمي الرابع لأمراض الكلى بسوهاج    جامعة قناة السويس تطلق قافلة طبية شاملة بمدينة سانت كاترين    "الوكالة الوطنية للإعلام": سقوط طائرة إسرائيلية مسيّرة عن بُعد في منطقة "وادي فيسان" في "جرود الهرمل" شرقي لبنان    خطوات تنزيل تردد قناة طيور بيبي الجديد 2025 على جميع الأقمار الصناعية    "تابع الآن قيامة عثمان" تردد قناة الفجر الجزائرية الجديد على جميع الأقمار الصناعية بجودة hd    موجة انتقادات لاذعة تطارد محمد صلاح.. ماذا فعل النجم المصري؟    القبض على المتهمين بالاعتداء على شاب أثناء سيره بصحبة زوجته فى الحوامدية    ما حكم من لم يقدر على الوضوء لأجل الصلاة؟.. الإفتاء توضح    تفاصيل حفل استقبال طلاب الطب البيطري بجامعة قناة السويس    تاريخ الإغلاقات الحكومية فى أمريكا.. بدأت فى 1976 وآخرها كان الأطول    ورشة تدريبية في فنون المونتاج بجامعة قناة السويس لتعزيز المهارات    موعد مباراة بايرن ميونخ وفرانكفورت في الدوري الألماني.. والقنوات الناقلة    زكى القاضى: موافقة حماس تنقل الكرة لملعب ترامب.. والخطة لا تشمل الضفة الغربية    وصول سارة خليفة وعصابتها لمحكمة الجنايات وسط حراسة مشددة    هالة عادل: عمل الخير وصنع المعروف أخلاق نبيلة تبني المحبة بين البشر    90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. السبت 4 أكتوبر 2025    مصرع سيدتين وإصابة 7 في حادث تصادم مروّع بالفيوم    95 منظمة دولية وإقليمية تشارك في «أسبوع القاهرة الثامن للمياه»    تشكيل الزمالك المتوقع أمام غزل المحلة بالدوري    من غير مواد حافظة.. طريقة عمل الكاتشب في البيت لسندوتشات الأطفال    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 4-10-2025 في محافظة قنا    دار الإفتاء توضح: حكم الصلاة بالحركات فقط دون قراءة سور أو أدعية    وزير الخارجية يثمن الدعم الفرنسي للمرشح المصري لرئاسة اليونسكو خالد العناني    مواعيد مباريات اليوم السبت 4 أكتوبر 2025 والقنوات الناقلة    هل إجازة 6 أكتوبر 2025 الإثنين أم الخميس؟ قرار الحكومة يحسم الجدل    اللواء مجدى مرسي عزيز: دمرنا 20 دبابة.. وحصلنا على خرائط ووثائق هامة    فلسطين.. طائرات الاحتلال المسيّرة تطلق النار على شرق مدينة غزة    اسعار الذهب فى أسيوط اليوم السبت 4102025    تفاصيل موافقة حماس على خطة ترامب لإنهاء الحرب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



موقف السيدة «خديجة» من الوحي
نشر في الفجر يوم 23 - 03 - 2016


عودته صلى الله عليه وسلم إلى خديجة:
عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته وهو خائف للغاية، فكان أول ما فعله أن جلس إلى جوار خديجة بنت خويلد رضي الله عنها؛ بل إنه اقترب بها ليسكن فؤاده، كما تقول الرواية: "فَجَلَسْتُ إلَى فَخِذِهَا مُضِيفًا إلَيْهَا". أي ملتصقًا بها يطلب الأمان صلى الله عليه وسلم، وحكى لها كل شيء، مع خطورة الحدث الذي مرَّ به. حكى لها تفصيلات الرؤيا، وحكى لها كذلك ما رآه من جبريل وهو يقف في السماء، وحكى لها أنه قد صرح له أنه رسول الله، وعرَّف نفسه أنه جبريل.
ويلفت النظر هنا أمران؛ وأنا أعتقد أن هذين الأمرين هما من أهم أعمدة الأسرة الناجحة، ومن أهم موجبات السعادة الزوجية:
أما الأمر الأول فهو أن الزوجة خديجة رضي الله عنها تحقق أهم أعمال المرأة قاطبة، وهي أن تكون سكنًا لزوجها، وراحة لقلبه، وأمانًا لكيانه، وخاصة عند الأزمات الكبرى، وقد ذكر ربنا عز وجل هذا الأمر في كتابه الكريم عندما قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]. فجعل مهمَّة الزوجة الأولى أن تُسَكِّن زوجها {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا}، وكرر سبحانه المعنى نفسه في سورة الأعراف عندما قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189].
ففي هاتين الآيتين ذكر الله عز وجل أن مهمَّة الزوجة الأولى هي تسكين الزوج؛ خاصة أن الأزواج يعملون في خارج البيوت، وتقابلهم الأزمات الكثيرة، ويعملون في الجهاد في سبيل الله، وكذلك في الدعوة إلى الله عز وجل، ويكتسبون المعاش، ويمرُّون بأمور صعبة كثيرة، فيحتاجون إلى تسكين الأفئدة حتى يستطيعوا بعد ذلك إكمال مشوارهم في الحياة بشكل طبيعي وهادئ، والموقف الذي بين أيدينا في السيرة الآن هو حالة مثالية لتوصيف هذا الأمر؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو في هذه الحالة المرتعبة لم يُفَكِّر في أن يذهب إلى أحد أصدقائه، كأبي بكر رضي الله عنه أو غيره من أصحابه في مكة، وهم كُثُر -لا شك- ولم يُفَكِّر في أن يذهب إلى حكيم من حكماء القوم يستفسر منه عن طبيعة هذا الأمر، ولم يذهب حتى إلى عمِّه أبي طالب الذي ربَّاه وآواه، أو عمِّه أبي لهب، أو غيرهما من أعمامه، إنما ذهب في الحقيقة لمن "يُسَكِّن" له خوفه، فهذا من أكبر أسباب تكوين الأسرة الناجحة؛ أن تكون المرأة سكنًا لزوجها في البيت.
وأما الأمر الثاني فهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -كزوج- يُخبر زوجته بهمومه ومشكلاته كلها، ولا يعزلها عن حياته، بل يحكي لها أدقَّ التفصيلات، ويأخذ رأيها، ويستعين بمشورتها، ويستجيب لتأييدها، ويُشاركها في كل همومه وأفكاره وطموحاته وآماله، وهذا مما يسهم -ولا شك- في سعادة البيت، وفي قوة الأسرة، وأنا أعتقد أنه لو تحقق هذان الأمران لسعدت البيوت كثيرًا.
رد فعل خديجة رضي الله عنها:
نعود إلى موقف رسولنا صلى الله عليه وسلم بعد أن حكى لزوجته كل شيء عن الرؤيا والملك، والتصريح أنه رسول الله، لننظر ماذا فعلت خديجة رضي الله عنها بعد أن سمعت هذه الكلمات العجيبة.
الحقُّ أن ردَّ فعل خديجة رضي الله عنها كان عجيبًا جدًّا، فقد قالت له بمنتهى الثبات: "أَبْشِرْ يَا ابْنَ عَمِّ وَاثْبُتْ فَوَالَّذِي نَفْسُ خَدِيجَةَ بِيَدِهِ! إنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونَ نَبِيَّ هَذِهِ الأُمَّةِ".
جميلٌ أن تُبَشِّره في موقف يحزن فيه، وجميلٌ أن تُثبِّته في موقف يضطرب فيه، لكن الأجمل والأعجب ما قالته: "إنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونَ نَبِيَّ هَذِهِ الأُمَّةِ"! والواقع أننا نُريد أن نقف مع هذه الكلمة وقفات؛ فهذا يدلُّ على أن خديجة رضي الله عنها كانت تعرف أن هناك رسولاً سيُبعث في هذه الأيام، وكانت -لا شك- تتمنَّى أن يكون هذا الرسول هو زوجها، وهذا واضح في كلمتها: "إنِّي لأَرْجُو". بل إنها على الأغلب كانت تشعر أن زوجها سيكون هذا الرسول؛ فالأمر عندها ليس مجرَّد أمنيات، ولكنه شيء مبني على أدلَّة ووقائع.
الذي يدعونا لهذا التوقُّع من خديجة رضي الله عنها أن هناك خلفيات لهذا الأمر؛ منها ما رواه ابن إسحاق في المبتدأ، ونقله عنه ابن سعد وغيره، عندما قال: "كان لنساء قريش عيد يجتمعن فيه في المسجد، فاجتمعن يومًا فيه، فجاءهن يهودي فقال: يا معشر نساء قريش إنه يوشك أن يكون فيكن نبي، فأيكن استطاعت أن تكون فِراشًا له فلتفعل. فحصبه النساء وقبَّحنه وأغلظن له، وأغضت (سكتت) خديجة على قوله، ولم تعرض فيما عرض فيه النساء، ووقر ذلك في نفسها، فلما أخبرها ميسرة بما رآه من الآيات، وما رأته هي، قالت: إن كان ما قاله اليهودي حقًّا ما ذلك إلا هذا".
فهذه الرواية تذكر فيها خديجة رضي الله عنه أنه قد جاءهم يهودي في شبابها، وأنبأهم أنه سيبعث في هذا المكان نبي، وأن التي ستتزوَّج هذا النبي سيكون لها شرف هذا الزواج وعظمته، والحق أن الرواية -وإن كانت ضعيفة السند- فإنه لا يُستبعد أن تكون صحيحة؛ لأننا نعلم من روايات صحيحة أن اليهود كانوا يعرفون أن مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم سيكون في مكة. فعن كعب قال: نَجِدُهُ مَكْتُوبًا في التوراة: "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لاَ فَظًّا وَلاَ غَلِيظًا، وَلاَ صَخَّابًا (الصخب الصياح والجلبة وشدة الصوت واختلاطه) بِالأَسْوَاقِ، وَلاَ يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَأُمَّتُهُ الْحَمَّادُونَ يُكَبِّرُونَ اللهَ عز وجل عَلَى كُلِّ نَجْدٍ، وَيَحْمَدُونَهُ فِي كُلِّ مَنْزِلَةٍ، يَتَأَزَّرُونَ عَلَى أَنْصَافِهِمْ، وَيَتَوَضَّئُونَ عَلَى أَطْرَافِهِمْ، مُنَادِيهِمْ يُنَادِي فِي جَوِّ السَّمَاءِ، صَفُّهُمْ فِي الْقِتَالِ، وَصَفُّهُمْ فِي الصَّلاَةِ سَوَاءٌ، لَهُمْ بِاللَّيْلِ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ، وَمُهَاجَرُهُ بِطَيْبَةَ، وَمُلْكُهُ بِالشَّامِ".
فسواء كانت قصة اليهودي صحيحة أو غير صحيحة، فمعنى ذلك أن اليهود كانوا يعرفون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيظهر في مكة المكرمة، وبالتالي قد يكون أحد اليهود قد أخبر بالفعل نساء مكة بهذا الأمر، وكانت خديجة رضي الله عنها متوقِّعَة هذا الظهور.
وقد أشارت الرواية –أيضًا- إلى شيء آخر؛ هو ما تعلَّق بأمر ميسرة غلام خديجة رضي الله عنها، مع العلم أن قصته كذلك ليست ثابتة في الصحيح، ولكنها اشتهرت في كتب السيرة ولعلَّ لها خلفية ما، وخاصة أن هناك علاماتٍ كثيرةً كانت مع رسولنا صلى الله عليه وسلم في فترة شبابه تُشير إلى أنه ليس إنسانًا عاديًّا كبقية الناس. ويمكن أن نُضيف إلى ذلك احتمال سماع خديجة رضي الله عنها من ابن عمِّها ورقة شيئًا يدلُّ على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم من المحتمل أن يكون بعد ذلك رسول الله، ويُؤيد ذلك رواية أحمد، التي مرَّت بنا قبل ذلك، وقال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لخديجة رضي الله عنها: "إِنِّي أَرَى ضَوْءًا، وَأَسْمَعُ صَوْتًا، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ بِي جَنَنٌ". قَالَتْ: لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ بِكَ يَا ابْنَ عَبْدِ اللهِ. ثُمَّ أَتَتْ ورقة بن نوفل، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: إِنْ يَكُ صَادِقًا، فَإِنَّ هَذَا نَامُوسٌ مِثْلُ نَامُوسِ مُوسَى، فَإِنْ بُعِثَ وَأَنَا حَيُّ، فَسَأُعَزِّرُهُ، وَأَنْصُرُهُ، وَأُومِنُ بِهِ.
فهذه الرواية تصف موقفًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء شبابه قبل موضوع الرؤيا الصادقة، وقبل موضوع الوحي؛ فهي تحكي موقفًا مبكِّرًا سمعت فيه خديجة رضي الله عنها أنه من المحتمل أن يكون الذي يراه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسمعه هو علامات مثل علامات ظهور جبريل للأنبياء.
هذه كلها خلفيات كانت في ذهنها، وأنا أعتقد أنها فعلاً كانت تتوقَّع ظهور النبي؛ لأنها تتعامل مع الموقف بسلاسة عجيبة، ولم تقل له مثلاً: وماذا يعني: "رسول الله؟". ولم تقل له: وهل يُرسل الله رسولاً من البشر للناس؟ ولم تقل له: ومن هو جبريل؟ ولم تضع احتمالاً أن يكون الأمر مجرَّد أوهام، ولم تفزع قطُّ، مع أن كل هذه علامات عجيبة، نعم خديجة رضي الله عنها امرأة كاملة، وسيدة عظيمة، لكن هذه القضايا التي يتكلَّم فيها الرسول صلى الله عليه وسلم قضايا علمية، تحتاج إلى دليل، أو إلى توقُّع، حتى يمكن أن تُفْهَم على الشكل السليم.
إن كونها لم تسأل كل هذه الأسئلة، ولم تستفسر استفسارًا يُوَضِّح لها الفهم الصحيح للقصة، كل هذا يدلُّ على أن عندها خلفية ما عن هذا الأمر، وتوقُّع له؛ ومن ثَمَّ انطلقت بمنتهى الوضوح تقول: "إنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونَ نَبِيَّ هَذِهِ الأُمَّةِ".
والدليل الأكبر لكونها كانت تتوقَّع أن يظهر نبي في هذا الزمن، هو ذهابها بعد ذلك إلى ورقة بالتحديد، فغالبًا ورقة هو الذي كان يتحدَّث عن هذا النبي، وقساوسة الشام النصارى كانوا يعرفون أن النبي سيظهر في هذا الوقت، وظهر ذلك في كلام القسيس الذي تكلم معه سلمان الفارسي رضي الله عنه قبل ذلك، فهذا يعني أنه كان مشتهرًا بين رجال الدين النصارى -وكان ورقة منهم- أن هناك نبيًّا سيظهر في هذا التوقيت.
ثم إنها رضي الله عنها سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فترة طفولته وشبابه بعض الأحداث، التي لا تحدث مع البشر العاديين؛ كشقِّ الصدر، وكسلام الحجر عليه، وكندائه من قبل السماء غير مرَّة، مما يُعطي الانطباع أنه ليس كعامة أهل مكة، بل ليس كعامة الناس أجمعين.
وأيضًا رأت رضي الله عنها من أخلاقه ما لا يتحلَّى به إنسان آخر أبدًا، ولقد وصفت الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه يصل الرحم ويحمل الكل .. إلى آخر وصفها، الذي يدلُّ على أن هذه الصفات مجتمعة لم تكن موجودة في أحد الرجال في أهل مكة.
إن سرعة إيمان خديجة بما سمعته يُؤَكِّد أنها كانت تتوقَّع الأمر؛ لأنها لم تسأل عن تفصيلات قطُّ، مع أنها لم ترَ حتى هذه اللحظة معجزاتٍ بعدُ تجعلها تطمئنُّ، يُظَلِّل كل ذلك أنها تتعامل مع الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، الذي لم يكذب في حياته قط؛ ومن ثَمَّ كان كلامه لا يحتاج إلى أي دليل آخر لإثباته.
ذهاب خديجة رضي الله عنها إلى ورقة بمفردها:
ذهبت خديجة رضي الله عنها إلى ورقة بن نوفل، فأخبرته خديجة رضي الله عنها بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ورقة بن نوفل دون تردد: "قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ، وَالَّذِي نَفْسُ وَرَقَةَ بِيَدِهِ! لَئِنْ كُنْتِ صَدَّقْتِينِي يَا خَدِيجَةُ لَقَدْ جَاءَهُ النَّامُوسُ الأَكْبَرُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى، وَإِنَّهُ لَنَبِيُّ هَذِهِ الأُمَّةِ فَقَوْلِي لَهُ فَلْيَثْبُتْ". كان ردُّ فعل ورقة حاسمًا وواضحًا، ولم يتردَّد في إبداء رأيه في أن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو رسول هذه الأُمَّة.
ولنا ملاحظات على ردِّ فعل ورقة بن نوفل:
أولاً: لم يقل ورقة: لئن كان محمدٌ صلى الله عليه وسلم قد صدق. إنما قال: لئن كنتِ صدقتيني يا خديجة. لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم عنده فوق الشبهات، مع أن الذي يرويه محمد صلى الله عليه وسلم ابتداءً أعجب من الذي تنقله خديجة؛ لكنه لم يشك في الكلام العجيب لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ إنما شكَّ في أن يكون النقل عنه غير دقيق، وهذا يُذَكِّرنا بالموقف المشهور للصديق رضي الله عنه في الإسراء عندما قال: "لئن كان قال ذلك لقد صدق".
ثانيًا: يذكر ورقة أن محمدًا صلى الله عليه وسلم سيكون نبي هذه الأمَّة، والأمَّة في تعريف ورقة قد يكون المقصود بها العرب؛ لما قد يكون موجودًا في التوراة والإنجيل من دلالات وعلامات للنبي المنتظر، وفي أنه يخرج في هذه الأُمَّة العربية، وقد يكون المقصود بالأمَّة العالم أجمع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى العالمين، والعالم جميعًا أمَّته؛ إما أمَّة إجابة، وهي التي استجابت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي المسلمين، وإما أمَّة دعوة، وهم الذين لم يستجيبوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتوجَّه إليهم دومًا بالدعوة والرسالة؛ فهو الرسول الخاتم، ومن المؤكَّد أن ورقة يعلم من كتبه أن هذا هو الرسول الأخير في تاريخ الدنيا.
ثالثًا: عَرَّفَ ورقةُ بن نوفل الرجلَ الذي جاء محمدًا صلى الله عليه وسلم في الغار في رؤياه أنه الناموس الأكبر، والناموس هو صاحب السرِّ؛ فالله عز وجل يُطلع جبريل عليه السلام على سرٍّ لا يُطلع غيره عليه؛ وهو سرُّ الوحي: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 26، 27]. فعَرَّف بذلك جبريل عليه السلام على أنه المَلك الرسول، الذي يأتي من قِبَلِ ربِّ العالمين للأنبياء؛ لكنه أشار أنه الناموس الذي كان يأتي موسى عليه السلام، ولم يقل: الذي كان يأتي عيسى عليه السلام، مع أنه نصراني؛ وذلك من المحتمل لأن الشريعة الرئيسية للنصارى هي شريعة اليهود في الواقع مع بعض التعديلات التي جاء بها عيسى عليه السلام؛ وذلك مصداقًا لقوله عز وجل على لسان عيسى ابن مريم: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ} [آل عمران: 50]. فموسى عليه السلام هو صاحب الشريعة الرئيسية التي يرتبط بها جمهور النصارى بشكل عام، مع بعض الأمور التي جاء بها عيسى عليه السلام في الشريعة الجديدة، وهكذا صارت التوراة هي العهد القديم بالنسبة إلى النصارى؛ بينما الإنجيل هو العهد الجديد لهم، وكلا الكتابين مقدَّس عندهم، ومن المحتمل أن يكون ورقة قد ذكر موسى عليه السلام لأنه أول أنبياء بني إسرائيل بشكل عام، وعيسى كذلك من أنبياء بني إسرائيل، وكل مَنْ جاء من بعد موسى عليه السلام فهو على دينه، وأخيرًا من المحتمل أن يكون ورقة قد قال ذلك لأن اليهود والنصارى جميعًا يؤمنون بموسى عليه السلام؛ بينما لا يؤمن اليهود بعيسى عليه السلام؛ فيكون قول ورقة بن نوفل جامعًا لليهود والنصارى؛ أي لأهل الكتاب، في أنهم جميعًا يؤمنون بجبريل الذي أتى موسى عليه السلام.
رابعًا: في تعليقنا على ردِّ فعل ورقة بن نوفل هو أنه لم يتردَّد ولا لحظة في إبداء رأيه، وفي هذا دلالة على أمور؛ منها أنه كان في الأغلب يتوقَّع ظهور النبي الآن، ويتوقَّع ظهوره في هذه البلدة تحديدًا، ولا شكَّ أن عنده من العلم ما يُعطيه هذا التأكُّد؛ خاصة أنه ردَّ على خديجة بمنتهى الثبات، ولم يشك في كون النبي يُبعث في هذا البلد، ومنها كذلك أنه كان يُلاحِظ على رسول الله صلى الله عليه وسلم علامات معينة، وبالتالي لم يظهر عجبه أن جاءت النبوة إليه، ولم تجئ إلى غيره، ولعلَّ ما سألت عنه خديجة رضي الله عنها قبل ذلك بشهور أو سنوات عندما سألته عن الضوء والصوت الذي يراه ويسمعه محمد صلى الله عليه وسلم، فعلَّق على ذلك أنه من المحتمل أن يكون نبي هذه الأمَّة، ولما جاءت العلامات المؤكِّدة من لقائه بالناموس الأكبر -وإن كانت في رؤيا- فإن ورقة بن نوفل أظهر إيمانه الجازم بأن هذا هو رسول هذه الأمَّة، ومنها كذلك أنه كان متجرِّدًا مخلصًا لا يطمع في شيء لنفسه؛ ولذلك أعلنها صريحة، بل سيُعلن بعد ذلك أنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إيمانه، وسوف يدعمه بكل ما أوتي من قوة إن أبقى الله عز وجل فيه حياة.
كان هذا هو موقف ورقة بن نوفل رحمه الله؛ وهو من المواقف المشرفة في تاريخ السيرة النبوية.
عودة خديجة إلى زوجها صلى الله عليه وسلم:
عادت خديجة رضي الله عنها إلى زوجها صلى الله عليه وسلم، وأخبرته بما قاله ورقة بن نوفل، ولا شكَّ أن هذا الكلام قد وقع منه موقعًا كبيرًا؛ فالآن محمد صلى الله عليه وسلم يتوقَّع بنسبة كبيرة جدًّا أن يكون هو نبي هذه الأُمَّة، ليس هذا على وجه اليقين عنده، ولكن كثرت الدلائل؛ منها:
أولاً: الأمور الغريبة التي حدثت في حياته قبل ذلك؛ مثل شق الصدر، وسلام الحجر، والرؤيا الصادقة، ومنها الكلمات التي قالها الرجل في المنام، وهي ليست من كلمات البشر، ومنها الرجل الذي وقف في السماء في كل الاتجاهات، وهو وقوف عجيب لا يمكن لأحد من البشر أن يفعله، ومنها تصريحه بالرسالة له عندما قال له: أنت محمد رسول الله وأنا جبريل. وأخيرًا منها كلام ورقة بن نوفل، والتأكيد الذي ذكر به الأمر، وعدم التردُّد فيه، وذِكْر أن ذلك في كتب التوراة والإنجيل.
عندما وصل هذا الانطباع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قرَّر أن يُكْمِل جواره أو اعتكافه في غار حراء؛ ومن ثَمَّ عاد إلى هناك، وعودة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حراء تُعطي الانطباع أنه صار مُصدِّقًا للأمر، ولم يَعُدْ خائفًا منه؛ لأن الرعب لو كان يغلب عليه ما عاد إلى حراء ثانية؛ ولكنه عاد على أمل أن يلقى جبريل عليه السلام على الحقيقة كما جاء في رؤياه؛ لأنه تعوَّد في الشهور الستة الأخيرة أن تتحقَّق رؤياه، وتأتي كفلق الصبح كما ذكرت عائشة رضي الله عنها في روايتها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.