ميرور: إيزي وميتوما ولياو على رادار بايرن لتعويض فشل صفقة فيرتز    "لا يتعلق بالأهلي فقط".. مصدر من الرابطة يكشف ل في الجول صعوبة تأجيل مباراة بيراميدز    مجلس النواب يقر زيادة قيمة التأمين للترشح فى الانتخابات القادمة    محافظ بني سويف يلتقي وفد المجلس القومي لحقوق الإنسان    موعد امتحانات الصف الثالث الإعدادي الترم الثاني 2025 محافظة القاهرة.. وجدول المواد    مجلس النواب يوافق على تقسيم الجمهورية إلى 4 دوائر لنظام القائمة الانتخابية    «مياه أسيوط » تفتح باب التميز باختبارات المسار الوظيفي لتأهيل الكوادر    "الإنتاج الحربي" يعقد أكبر صفقة جرارات زراعية مع بيلاروسيا    «العمل الفلسطيني»: استهداف ممنهج لعائلات فلسطينية بهدف الترهيب والتهجير    كارثة إنسانية.. ارتفاع معدلات سوء التغذية في غزة    رئيس البرلمان العربى يهنئ قادة مجلس التعاون الخليجى بذكرى التأسيس    وزير الشؤون النيابية: الإشراف القضائي على الانتخابات مازال قائمًا ولم يلغى    القوات المسلحة تفتتح نادى وفندق "6 أكتوبر الحلمية" بعد إنتهاء أعمال التطوير الشامل    مصطفى يونس: محمد صلاح لم يحصل على الكرة الذهبية بسبب «العنصرية»    وصول «سفاح المعمورة» إلى محكمة جنايات الإسكندرية    تنخفض 9 درجات.. موعد تحسن حالة الطقس    تأييد حكم المؤبد لموظف قتل شخصا بسلاح ناري بالعبور    «التضامن» تؤسس معسكرا لتأهيل مدربين في تعزيز التواصل الأسري بين الآباء وأبنائهم    رسميًا.. السعودية تحدد موعد استطلاع هلال ذي الحجة لتحديد أول أيام عيد الأضحى 2025    «الطوب اللبن في مصر القديمة».. اكتشاف جديد يروي حكاية منسية في منقباد    بالدموع تحرك جثمان سلطان القراء إلى المسجد استعدادا لتشيع جثمانه بالدقهلية.. صور    عاشور يشهد إطلاق المرحلة التنفيذية لأضخم مشروع جينوم في الشرق الأوسط    الصحة العالمية تشيد بإطلاق مصر الدلائل الإرشادية للتدخلات الطبية البيطرية    محافظ أسيوط يتفقد مستشفى الرمد بحي شرق ويلتقي بعض المرضى    رئيس جامعة سوهاج يفتتح فعاليات المؤتمر الأول لأمراض الأوعية الدموية المخية    تمهيداً لانضمامه لمنظومة التأمين الصحي.. «جميعة» يتسلم شهادة الاعتماد الدولية لمركز «سعود» بالحسينية    خطوة بخطوة.. إزاي تختار الأضحية الصح؟| شاهد    عيد الأضحى 2025.. هل تصح الأضحية بخروف ليس له قرن أو شاه؟ «الإفتاء» تجيب    صلاح يترقب لحظة تاريخية في حفل تتويج ليفربول بالدوري الإنجليزي    «الداخلية»: ختام تدريب الكوادر الأفريقية بالتعاون مع الشرطة الإيطالية في مكافحة الهجرة غير الشرعية    فور ظهورها.. رابط نتيجة الشهادة الإعدادية الأزهرية بالاسم ورقم الجلوس 2025 الترم الثاني    عاجل- مجلس الوزراء يوضح موقفه من جدل "شهادة الحلال": تعزيز المنافسة وإتاحة الفرصة أمام القطاع الخاص    منافس الأهلي - ميسي يسجل هدفا رائعا في تعثر جديد ل إنتر ميامي بالدوري الأمريكي    محافظ الشرقية: 566 ألف طن قمح موردة حتى الآن    ضبط 11 قضية مواد مخدرة وتنفيذ 818 حكما قضائيا متنوعا    مصرع ربة منزل في سوهاج بعد تناولها صبغة شعر بالخطأ    وزير الخارجية يتوجه لمدريد للمشاركة فى اجتماع وزارى بشأن القضية الفلسطينية    قبل التفاوض على التجديد .. عبد الله السعيد يطلب مستحقاته المتأخرة من الزمالك    إيرادات السبت.. "المشروع x" الأول و"نجوم الساحل" في المركز الثالث    الكشف عن مبنى أثري نادر من القرن السادس الميلادي وجداريات قبطية فريدة بأسيوط    ساهم فى إعادة «روزاليوسف» إلى بريقها الذهبى فى التسعينيات وداعًا التهامى مانح الفرص.. داعم الكفاءات الشابة    قناة SSC السعودية: إنزاجي وافق على تدريب الهلال    كاف يكشف عن التصميم الجديد لكأس الكونفدرالية    ميلاد هلال ذو الحجة وهذا موعد وقفة عرفات 2025 الثلاثاء المقبل    الاحتلال الإسرائيلي يقتحم عدة قرى وبلدات في محافظة رام الله والبيرة    رئيس وزراء باكستان يتوجه إلى تركيا أولى محطات جولته الآسيوية    ارتفاع أسعار البيض في الأسواق اليوم 25-5-2025 (موقع رسمي)    "آل مكتوم العالمية": طلاب الأزهر يواصلون تقديم إسهامات مؤثرة في قصة نجاح تحدي القراءة العربي    خلال زيارته لسوهاج.. وزير الصناعة يفتتح عددا من المشروعات ضمن برنامج تنمية الصعيد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه اليوم الأحد 25 مايو 2025 في 4 بنوك    استعدادًا لعيد الأضحى.. «زراعة البحر الأحمر» تعلن توفير خراف حية بسعر 220 جنيهًا للكيلو قائم    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاحد 25-5-2025 في محافظة قنا    اليوم.. نظر تظلم هيفاء وهبي على قرار منعها من الغناء في مصر    مسيرات استفزازية للمستعمرين في القدس المحتلة    نشرة أخبار ال«توك شو» من المصري اليوم.. مرتضى منصور يعلن توليه قضية الطفل أدهم.. عمرو أديب يستعرض مكالمة مزعجة على الهواء    هل يجوز شراء الأضحية بالتقسيط.. دار الإفتاء توضح    إلغوا مكالمات التسويق العقاري.. عمرو أديب لمسؤولي تنظيم الاتصالات:«انتو مش علشان تخدوا قرشين تنكدوا علينا» (فيديو)    استقرار مادي وفرص للسفر.. حظ برج القوس اليوم 25 مايو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تفسير الشعراوي للآية 101 من سورة آل عمران
نشر في الفجر يوم 13 - 12 - 2015

{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)} .
إنه استعظام وتعجيب من أن يأتي الكفر مرة أخرى من المؤمنين وهم في نعيم المعرفة بالله، فآيات الله تُتلى عليهم، ورسول الله حق ومعهم وفيهم.
ويقول الحق سبحانه للمؤمنين: {إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} إنّ لذلك قصة؛ فقد كان اليهود في المدينة يملكون السلطة الاقتصادية؛ لأنهم يجيدون التعامل في المال، وكل من يريد مالا يذهب إليهم ليقترض منهم بالربا. وكان لليهود أيضا التفوق والتميز العلمي؛ لأنهم يعلمون الكتاب، بينما كان غالبية أهل مكة والمدينة من الأميين الذين لا يعرفون كتابا سماويا. وكذلك كان هناك تميز آخر لليهود هو خبرتهم بالحرب؛ فلهم قلاع وحصون. هكذا كان لليهود ثلاثة أسباب للتميز: المال يحقق الزعامة الاقتصادية، والعلم.. بالكتاب وهو تفوق علمي، ثم خبرتهم بفنون الحرب، وكانوا فوق ذلك يحاولون إيجاد الخلاف بين الناس وتعميقه. مثل محاولتهم إثارة العداوات بين الأوس والخزرج. والمتاجرة بذلك حتى تظل الحروب قائمة، وبذلك يضمنون رواج تجارة الأسلحة التي يصنعونها ويمدون بها كل فريق من المتحاربين.
ولما جاء الإسلام وحّد الرسول صلى الله عليه وسلم بين الأوس والخزرج وبذلك ضاع منهم التفوق الاقتصادي. وجاء الإسلام بدين وكتاب مهيمن على الكتب، فضاعت من اليهود المنزلة العلمية. وكذلك ضاعت من اليهود المنزلة الحربية؛ فقد رأوا قلة من المؤمنين هزموا الكفار وأنزلوا بهم هزيمة نكراء في بدر، وهكذا ضاع كل سلطان لليهود في المدينة، لذلك أرادوا أن يعيدوا الأمر إلى ما كان عليه قبل أن يجيء الإسلام، فقالوا فلنؤجج ونشعل ما بين الأوس والخزرج من العداوات ونهيجها، وقال شخص اسمه (شأس بن قيس) وقد رأى نور الإيمان يعلو وجوه الأوس والخزرج ويشملهم الانسجام الإيماني. وتوجد بينهم المودة وابتسامات الصفاء، هيَّج ذلك شأس بن قيس وقال: (والله لابد أن نعيدها جذعة ونرجعهم إلى ما كانوا عليه من أحقاد وعداوات، فلا استقرار لنا ما دامو قد اجتمعوا).
فأرسل فتى من اليهود وجلس بين الأوس والخزرج، ثم تطرق الحديث منه إلى يوم يسمى يوم (بعاث)، وهو اسم يوم من أيام العرب قبل الإسلام، وكان بين الأوس والخزرج، وكان النصر فيه للأوس على الخزرج، وجلس الفتى اليهودي يذكر ويأتي بالشعر الذي قيل في هذا اليوم فهيّج حمية الأوس والخزرج وحدث النزاع، وحصل التفاخر واستيقظ التباغض، وقالوا: (السلاح.. السلاح) وهكذا نجحت المكيدة، ونمى الخبر إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام صلى الله عليه وسلم ومعه صحابته، حتى انتهَوْا إلى اجتماع الأوس والخزرج، فوجدوا الحال على أشد درجات الهياج، نزاع، وتباغض، وسلاح محمول، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أبِدَعْوى الجاهلية وأنا بين أظهركم!!
أي كان من الواجب أن تخجلوا من أنفسكم؛ لأن رسول الله بينكم، وأضاف رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أكرمكم الله بالإسلام، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، وألف بين قلوبكم، فماذا كانت مواقع كلمات الرسول في نفوس القوم؟ لقد دفعتهم كلماته صلى الله عليه وسلم إلى إلقاء السلاح، وبكوا وعانق بعضهم بعضا وانصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان يوم أقبح أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم.
وعندما نتأمل ما فعله هؤلاء القوم من اليهود لإشعال الفتنة بين الأوس والخزرج نجد أنهم قد أدركوا طبيعة النزاع القديم بين الأوس والخزرج فأرادوا أن يهيجوا تلك العداوات والأحقاد القديمة، وكذلك نجد أن تهييج المشاعر بين الأوس والخزرج جعل للانفلات بابا فكاد القتال يشتعل، وعندما تكلم فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هدأت المواجيد، وألقوا السلاح، وندموا على ما فعلوا.
وإذا أردنا أن نرى الأمر بعمق التصور لِمَا حدث فإننا نجد أن إدراك العداوة بين الأوس والخزرج من اليهود هو الذي دفع اليهود لتحريك هذا الإدراك الخاطئ وإحياء الثارات القديمة، ثم كان انفعال الأوس والخزرج بتلك الثارات القديمة قد فتح الباب لحمل السلاح للاقتتال.
وهكذا نجد أن الإدراك للشيء، يمر بثلاث مراتب: أولا: الإحساس بالشيء، ثانيا: انفعال النفس له، ثالثا؛ النزوع السلوكي، وعندما تحدث الرسول صلى الله عليه وسلم، أدرك الأوس والخزرج الأمر بطريقة عكسية فألقوا السلاح، وهدأت مواجيد البغضاء، وتركوا الإدراكات الخاطئة.
لقد ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشياء هي: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم وقد أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية. وألف بين قلوبكم). وقد استقبلوا ذلك بإلقاء السلاح أولا، ثم البكاء ثانيا، وهو أمر حركته المواجيد فيهم ثم تعانقوا أي صححوا الإدراكات ثالثا، وهكذا حدث النزوع بالعكس. ولما حدث ذلك أصاب اليهود الغيظ والخيبة والنكد. وقال المؤرخ لهذه القصة: فما كان يوم في الإسلام أسوأ أولا وأحسن آخراً إلاّ ذلك اليوم.
لقد بدأ اليوم بعبوس، وانتهى بإشراق الطمأنينة، وبعد ذلك وُجدت الخلية التي تكوّن المناعة في نفوس المؤمنين، بعد أن قال الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك القول: (أبِدَعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذا أكرمكم الله بالإسلام، وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم).
لقد صار هذا القول الكريم مستحضرا عند كل نزع لشيطان، أو كيد لعدو. لقد جعل الحق المناعة ضد فعل الكيد، ونزغ الشيطان عند المؤمنين من الأوس والخزرج، وهكذا نرى أن الله يسخر الكافر حتى في رفعة شأن الإيمان، فلو لم تحدث هذه المسألة ويأتي الرسول صلى الله عليه بمنطقه المؤثر وهو بين القوم ليقول ذلك القول لما أصبح لدى المسلمين هذه المناعة من الارتفاع عن البغضاء فيما بينهم، ولو كان أحد من أتباع الرسول قد قال مثل هذه الكلمة فقد كان من المحتمل أن يحدث هذا الأثر، لكن عندما قالها الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أوجدت المناعة لغيرها من الأحداث التي يأتي وقد لا يكون الرسول موجودا.
ولذلك فأنت أيها المؤمن إن نظرت إلى الكافرين. فإنك تجد عقولهم خائبة. لقد نشروا الإسلام- دون إرادتهم- بمواقفهم الحمقاء، فمثلا حين قالوا: سيأتي نبي نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم، فما الذي حدث؟
إن الأنصار ساعة أن سمعوا بالدين الجديد قال بعضهم لبعض: اسمعوا يا قوم، إنه الدين الذي بشرتكم به يهود، فقبل أن يسبقونا إليه هيا بنا نسبق نحن اليهود إليه.
لقد كان استعلاء اليهود وتفاخرهم على الأوس والخزرج دافعا للأوس والخزرج على الدخول في الإسلام، وهكذا يجعل الحق سبحانه وتعالى كفر الكافر مؤثرا في تثبيت إيمان المؤمن.
وحين يقول الحق سبحانه: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بالله فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} نفهم انه استعظام وتعجيب يأتي من الحق. فساعة تسمع: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} فذلك أمر عجيب، لأنه من المستبعد أن يكفر المؤمنون وكتاب الله يتلى عليهم، ورسول الله فيهم.
ويجيء من بعد ذلك الدعوة إلى الاعتصام بالله، ومعنى الاعتصام: التمسك، ولا يتأتي إلا في علو، فيقال: (اعتصمت بحبل الإيمان) لأن للإنسان ثقلا ذاتيا، هذا الثقل الذاتي إن لم يرفعه سواه، فإنه يقع بالإنسان. وهذا لا ينشأ إلا إذا كان الإنسان معلقا في الجو ويمسك بحبل ولا يوجد من يدفعه إلى أسفل، بل الإنسان بثقله الخاص يهبط إلى الأرض. فمن يعتصم بالله ويمسك بحبل الإيمان فإنه يمنع نفسه من الهُوِيِّ والسقوط.
وهنا نشعر أن الاعتصام بالله هو أن نتبع ما تُلِيَ علينا من الآيات، وما سنه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذن فباب الاعتصام هو كتاب الله وسنة رسوله، وكذلك كان وجود الرسول بين أظهرهم هو الأمر الضروري، لأنهم كانوا منغمسين في حمأة الجاهلية، فلابد أن توجد إشراقة الرسول بينهم حتى تضيء لهم، فيروا أن الله قد أخرجهم من الظلمات إلى النور. ولم يقبض الحق رسوله إلا بعد أن أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي».
هكذا نرى أن وجود آيات الله، وسنة رسول الله هي العاصم الذي يهدي إلى صراط مستقيم. والهدى كما نعرف هو ما يوصل إلى الغاية المرجوة، فهب أن غايتك أن تذهب إلى مكان معين فالذي يوصلك إلى ذلك المكان هو هدى، وكل ما يدل إنسانا على الموصل للغاية اسمه هدى.
والحق سبحانه وتعالى خلق الخلق جميعا، وجعل بعض الخلق مقهورا، وبعض الخلق مخيرا.
والمقهور من خلق الله هو كافة المخلوقات في الكون ما عدا الإنسان إلا في بعض أموره فإنه مقهور فيها أيضا ولذلك قلنا: إن كل ما عدا الإنسان من خلق الله يؤدي مهمته كما طُلبت منه، فما امتنعت الشمس أن تشرق على الناس يوما، ولا امتنعت الريح أن تهب، ولا امتنعت السماء عن أن تمطر، ولم تقل الأرض للإنسان إنك تعصي الله فلا أنبت لك، ولا جاء إنسان ليركب الدابة المسخرة فقالت: لا؛ إنك عاصٍ، ولذلك سأحرن فلا أمكنك من ركوب ظهري.
هكذا نرى أن كل شيء ما عدا الإنسان مسخر مقهور للغاية المرجوة منه، وهو خدمة ذلك الإنسان. والإنسان وحده هو الذي له اختيار.. ولذلك يجب أن نتنبه دائما إلى أن الله قد جعل للخلق تسخيرا وتسييرا، وجعل الإجماع في كل الأجناس، ولكن الانقسام جاء عند الإنسان فقال الحق سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} [الحج: 18].
إن الجمادات الساجدة المسخرة هي: (الشمس والقمر والنجوم)، والنبات الساجد المسخر هو (الشجر) وكذلك (الدواب) فهي ضمن الكائنات التي عليها حكم الحق بالإجماع، بأنها كلها تسجد خاضعة مسخرة. أما الأنسان فقد قال الحق عنه: {وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب}.
إذن فالانقسام جاء عند من؟ لقد جاء الانقسام عند الإنسان. لماذا؟ لأن الله خلق الإنسان مختارا. ألم يكن من الممكن أن يخلق الإنسان مسخرا كبقية الكائنات؟ أليس التسخير دليلاً على قدرة المسخر، وأن شيئا من خلقه لن يخرج من قدرته هذا صحيح، لكن الحق سبحانه كما أراد أن يثبت القدرة والقهر بالتسخير، أراد أن يثبت المحبوبية بالاختيار. فمن كان مختارا أن يؤمن أو يعصي، ثم اختار أن يؤمن، فهذا الاختيار إنما يثبت به الإنسان المحبوبية لله.
هكذا صنف الله الخلق بين قسم قهري يثبت القدرة، وقسم اختياري يثبت المحبوبية، ولهذا أراد الله للإنسان أن يكون مختارا أن يفعل أو لا يفعل. فلماذا- إذن- لا يفعل الإنسان كل أفعاله وهي منسجمة مع الإيمان؟ لأن للشهوة بريقا سطحيا، وهذا البريق السطحي يجذب الإنسان كما تجذب النارُ الفَرَاش.
عندما يوقد الإنسان ناراً ما في الخلاء فضوؤها يجذب الفَرَاش، ويحترق الفَراش بنيران الضوء؛ فقد جذبه النور وأغراه، ولكنه لم يعرف أن مصرعه في تلك النار.
والحكمة العربية تقول: (رب نفس عشقت مصرعها) كذلك في الشهوات، تتزين الشهوة للإنسان، فتجذبه إليها فيكون فيها مصرع الإنسان.
لكن ما الحماية للإنسان من ذلك؟
إن الحماية هي في منهج الله (افعل). و(لا تفعل) فمن يرد أن ينقذ نفسه من كيد الشيطان وكيد النفس فعليه أن يخضع لمنهج الله في (افعل) و(لا تفعل). وقد قلت قديما: إنه من الحمق أن يصنع صانع صنعةً ما، ثم ينسى أن يضع لها قانون الصيانة. والإنسان في حدود صناعته لا ينسى ذلك، فما بالنا بالحق سبحانه بطلاقة قدرته؟
إن الخالق سبحانه وتعالى قد صنع الإنسان، ووضع الحق سبحانه وتعالى قانون صيانة صنعته في الإنسان فقال جل وعلا: افعل كذا ولا تفعل كذا، فمن أراد أن يعتصم بالحبل المتين فلا يأتي له نزغ شيطان أو كيد عدو ولا هوى نفس. فليعتصم بمنهج الله؛ لأن الله هو الذي خلقه وهو الذي وضع منهجه كقانون لصيانة صنعته، وهو قانون الموجز في (افعل ولا تفعل).
ويقول الحق: {وَمَن يَعْتَصِم بالله فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وكلمة الاعتصام أروع ما تكون عندما يكون الإنسان في الهواء معلقا في الفراغ، وهو في أثناء وجوده في الفراغ فإن ثقله الذاتي هو الذين يوقعه ويسقطه، لكن عندما يتمسك الإنسان بمنهج الله فإنه ينقذ نفسه من السقوط والهوى (بضم الهاء وكسر الواو) ومهمة الشيطان أن يزيّن المعصية بالبريق، فتندفع شهوات النفس هائجة إلى المعصية ولذلك يأتي الشيطان يوم القيامة ويأخذ الحجة علينا. يقول الحق: {وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ ما أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22].
والسلطان كما نعرف نوعان: النوع الأول هو أن يقهر الشيطانُ الإنسانَ، والشيطان لا قدرة له على ذلك. والنوع الثاني هو أن يقنع الشيطان الإنسان بأن يفعل ذلك الخطأ.
ما الفرق بين الإقناع والقهر في هذا المجال؟
إن القهر هو أن يجبر الشيطان الإنسان على أن يفعل شيئا لا يريده الإنسان. أما الإقناع فهو أن يزين الشيطان الأمر للإنسان فيفعله الإنسان بالاختيار ويعلن الشيطان يوم القيامة: لم يكن لي سلطان أقهرك به أيها الإنسان حتى تعصي الله، لقد زينت لك المعصية أيها الإنسان فاستجبت لي.
إن الشيطان يوم القيامة يقول: {ما أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} ما معنى (مصرخكم)؟ إنها مشتقة من (أصرخ)، أي سمع صراخك فأغاثك وأنجدك، فمصرخ: مغيث ومنجد، والشيطان يعلن أنه لن يستطيع نجدة الإنسان، ولا الإنسان بمستطيع أن ينجد الشيطان.
إذن، فثقل النفس البشرية هو ما يوقع الإنسان في الهاوية دون أن يلقيه أحد فيها، ولا إنقاذ للإنسان من الهاوية إلا بالاعتصام بحبل الله. كأن منهج الله هو الحبل الممدود إلينا، فمن يعتصم به ينجو من الهاوية.
وما دمنا نعتصم بحبل الله وهو القرآن المنزل من خالقنا والسنة النبوية المطهرة، وسبحانه يعلم كيد النفس لصاحبها- فلابد أن يهدينا الله إلى الصراط المستقيم. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ...}.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.