الليثيوم القصة الكاملة| تراجعت أسعار المعدن وبدأت التخفيضات على السيارات الكهربائية    استشهاد 8 فلسطينيين وإصابة آخرين في مخيم النصيرات بغزة    وزير الدفاع الأمريكي يشكك في قدرة الغرب على تزويد كييف بمنظومات باتريوت    أرقام قياسية بالجملة للأهلي بعد الوصول لنهائي إفريقيا الخامس تواليًا    «ونعم الأخلاق والتربية».. تعليق مثير من خالد الغندور على احتفال محمد عبد المنعم بهدفه في مازيمبي    رسالة شديدة اللهجة من خالد الغندو ل شيكابالا.. ماذا حدث فى غانا؟    طارق يحيى يهاجم مسئولي الزمالك: كله بيشتغل للشو و المنظرة    اليوم.. جلسة محاكمة مرتضى منصور بتهمة سب وقذف عمرو أديب    تحذير دولي من خطورة الإصابة بالملاريا.. بلغت أعلى مستوياتها    للحماية من حرارة الصيف.. 5 نصائح مهمة من وزارة الصحة    محمد جبران رئيسا للمجلس المركزي للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب    نتيجة انتخابات نادي القضاة بالمنيا.. عبد الجابر رئيسًا    د. محمد كمال الجيزاوى يكتب: الطلاب الوافدون وأبناؤنا فى الخارج    «المركزية الأمريكية»: الحوثيون أطلقوا 3 صواريخ باليستية على سفينتين في البحر الأحمر    «حماس» تتلقى ردا رسميا إسرائيليا حول مقترح الحركة لوقف النار بغزة    د. هشام عبدالحكم يكتب: جامعة وصحة ومحليات    لدورة جديدة.. فوز الدكتور أحمد فاضل نقيبًا لأطباء الأسنان بكفر الشيخ    حقيقة انفصال أحمد السقا ومها الصغير.. بوست على الفيسبوك أثار الجدل    رسميًا.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 27 إبريل بعد الانخفاض الآخير بالبنوك    2.4 مليار دولار.. صندوق النقد الدولي: شرائح قرض مصر في هذه المواعيد    كولر : جماهير الأهلي تفوق الوصف.. محمد الشناوي سينضم للتدريبات الإثنين    "في الدوري".. موعد مباراة الأهلي المقبلة بعد الفوز على مازيمبي    3 وظائف شاغرة.. القومي للمرأة يعلن عن فرص عمل جديدة    والد ضحية شبرا يروي تفاصيل مرعبة عن الج ريمة البشعة    رسالة هامة من الداخلية لأصحاب السيارات المتروكة في الشوارع    بعد حادث طفل شبرا الخيمة.. ما الفرق بين الدارك ويب والديب ويب؟    أستاذ علاقات دولية: الجهد المصري خلق مساحة مشتركة بين حماس وإسرائيل.. فيديو    عمل نفتخر به.. حسن الرداد يكشف تفاصيل مسلسل «محارب»    دينا فؤاد: الفنان نور الشريف تابعني كمذيعة على "الحرة" وقال "وشها حلو"    حضور جماهيري كامل العدد فى أولي أيام مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير .. صور    شعبة البن تفجر مفاجأة مدوية عن أسعاره المثيرة للجدل    الدكتور أحمد نبيل نقيبا لأطباء الأسنان ببني سويف    تنفع غدا أو عشا .. طريقة عمل كفتة البطاطس    مقتل 4 عمّال يمنيين بقصف على حقل للغاز في كردستان العراق    حريق يلتهم شقة بالإسكندرية وإصابة سكانها بحالة اختناق (صور)    الأمن العام يضبط المتهم بقتل مزارع في أسيوط    العراق.. تفاصيل مقتل تيك توكر شهيرة بالرصاص أمام منزلها    عاصفة ترابية وأمطار رعدية.. بيان مهم بشأن الطقس اليوم السبت: «توخوا الحذر»    "أسوشيتدبرس": أبرز الجامعات الأمريكية المشاركة في الاحتجاجات ضد حرب غزة    الرجوب يطالب مصر بالدعوة لإجراء حوار فلسطيني بين حماس وفتح    الترجي يحجز المقعد الأخير من أفريقيا.. الفرق المتأهلة إلى كأس العالم للأندية 2025    حمزة عبد الكريم أفضل لاعب في بطولة شمال أفريقيا الودية    في سهرة كاملة العدد.. الأوبرا تحتفل بعيد تحرير سيناء (صور)    علي الطيب: مسلسل مليحة أحدث حالة من القلق في إسرائيل    رغم قرارات حكومة الانقلاب.. أسعار السلع تواصل ارتفاعها في الأسواق    السيسي محتفلا ب"عودة سيناء ناقصة لينا" : تحمي أمننا القومي برفض تهجير الفلسطينيين!!    سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن ببداية التعاملات السبت 27 إبريل 2024    استئصال ورم سرطاني لمصابين من غزة بمستشفى سيدي غازي بكفر الشيخ    قلاش عن ورقة الدكتور غنيم: خلاصة فكره وحرية الرأي والتعبير هي درة العقد    تعرف علي موعد صرف راتب حساب المواطن لشهر مايو 1445    حظك اليوم برج العقرب السبت 27-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    تهاني شم النسيم 2024: إبداع في التعبير عن المحبة والفرح    أعراض وعلامات ارتجاج المخ، ومتى يجب زيارة الطبيب؟    "ذكرها صراحة أكثر من 30 مرة".. المفتي يتحدث عن تشريف مصر في القرآن (فيديو)    «أرض الفيروز» تستقبل قافلة دعوية مشتركة من «الأزهر والأوقاف والإفتاء»    تعرف على فضل أدعية السفر في حياة المسلم    تعرف على فوائد أدعية الرزق في حياة المسلم    خير يوم طلعت عليه الشمس.. 5 آداب وأحكام شرعية عن يوم الجمعة يجب أن تعرفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قيام الليل وعدة البلاء
نشر في الفجر يوم 11 - 11 - 2015

{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 39-41].
{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 169-171].
عباد الله، في زمن الشدائد والمحن، ووقت القلة والضيق، وإعواز المعين والرفيق، نحن بحاجة إلى ما يمسح هذه الأحزان، فنرقب تأييد رب رحيم رحمن، نسأله أن يكون راض غير غضبان.
عاش نبينا وأصحابه الغربة في نشأة الدعوة وبدايتها، جيوش الكفر تحيط به، وجحافل الباطل تترقب به، وإذا بهذا القرآن يسوق له طريق النصر، ويوضح له معالم الطريق، ليبدأ منه، وينتهي إليه، ويستنير به.
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 1-6].
يقول سيد قطب رحمه الله: "{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}.. إنها دعوة السماء، وأمر الكبير المتعال قم.. قم للأمر العظيم الذي ينتظرك، والعبء الثقيل المهيأ لك. قم للجهد والنصب والكد والتعب. قم فقد مضى وقت النوم والراحة.. قم فتهيأ لهذا الأمر واستعد..
وإنها لكلمة عظيمة رهيبة تنتزعه من دفء الفراش، في البيت الهادئ والحضن الدافئ. لتدفع به في الخضم، بين الزعازع والأنواء، وبين الشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء.
من لم يبت والحب حشو فؤاده *** لم يدر كيف تفتت الأكباد
إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحاً، ولكنه يعيش صغيراً ويموت صغيراً. أما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير.. فماله والنوم؟ وماله والراحة؟ وماله والفراش الدافئ، والعيش الهادئ؟ والمتاع المريح؟!
ولقد عرف رسول الله حقيقة الأمر وقدره، فقال لخديجة رضي الله عنها وهي تدعوه أن يطمئن وينام: مضى عهد النوم يا خديجة! أجل مضى عهد النوم، وما عاد منذ اليوم إلا السهر والتعب والجهاد الطويل الشاق!
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}
إنه الإعداد للمهمة الكبرى بوسائل الإعداد الإلهية المضمونة.. قيام الليل.. أكثره أكثر من نصف الليل ودون ثلثيه، وأقله ثلث الليل" ا.ه.
فضل قيام الليل
إن ركعات السحر تسكب في القلب أنساً وراحة وشفافية، قد لا يجدها العبد في صلاة النهار وذكره، والله الذي خلق هذا القلب يعلم مداخله وأوتاره، ويعلم ما يتسرب إليه، وما يوقع عليه، وأي الأوقات يكون أكثر تفتحاً واستعداداً وتهيئاً، وأي الأسباب أكثر تعلقاً، وأشد تأثيراً فيه.
ما حجتنا يا عباد الله في هذه الأيام بعد هذه التوجيهات الإلهية الرحيمة الرفيقة، التي تملأ القلب طمأنينة، بعد أن ملئ خوفاً ورعباً.
يا رجال الليل جِدوا *** رب صوت لا يرد
ما يقوم الليل إلا *** من له عزم وجد
ما أحوج الإنسان لخلوة بربه، ومولاه يناجيه، ويدعوه، ويتلذذ بالتعبد بين يديه، والتقرب إلى أكنافه، والانطراح إلى جنابه، يستمد منه العون، يستلهم منه التوفيق، ويسترشد به ملامح الطريق.
إنه قيام الليل يا عباد الله، فعَن بلال رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى لله عليه وسلم قال: "عَلَيكُم بِقِيَامِ اللَّيلِ فَإِنَّهُ دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبلَكُم، وَإِنَّ قِيَامَ اللَّيلِ قُربَةٌ إِلَى اللَّهِ وَمَنهَاةٌ عَن الإِثمِ، وَتَكفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ وَمَطرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَن الجَسَدِ" .
ها هو نبي الله صلوات ربي عليه يقول: "أتاني جبريل فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس". رواه الحاكم عن سهل بن سعد .
أمة القرآن، أبواب الجهاد يطرقها عباد الليل، والشجاعة تسقى بدموع الليل، وما عرف الإسلام رجاله إلا كذلك.
يحيون ليلهم بطاعة ربهم *** بتلاوة وتضرع وسؤال
وعيونهم تجرى بفيض دموعهم *** مثل انهمال الوابل الهطال
في الليل رهبان وعند جهادهم *** لعدوهم من أشجع الأبطال
وإذا بدا علم الرهان رأيتهم *** يتسابقون بصالح الأعمال
بوجوههم أثر السجود لربهم *** وبها أشعة نوره المتلالي
{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16- 17].
موقف عباد بن بشر
ولهذا فإن مجاهدي الأمة ورجالاتها الأفذاذ من الصحابة والتابعين إلى يومنا هذا لم يتركوا قيام الليل حتى في حال الغزو، هذا عباد بن بشر الصحابي الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالمغفرة انتدبه الرسول صلى الله عليه وسلم مع رجل من المهاجرين لحراستهم في ليل إحدى الغزوات، فاضطجع المهاجري وقام هو يصلي، فأتى رجل من المشركين، فلما رآه قائماً يصلي عرف أنه حارس القوم، فرماه بسهم، فوضعه فيه، فنزعه عبَّاد، فرماه المشرك بسهم ثان، فنزعه، وهكذا حتى رماه بثلاثة أسهم، ثم ركع وسجد، ثم انتبه صاحبه، فلما عرف المشرك أنهم قد انتبهوا له، هرب، فلما رأى المهاجري ما بعبَّاد من الجراحة، قال: "سبحان الله، ألا نبهتني أول ما رمى؟"، قال: "كنت في قراءة سورة الكهف، فلم أحب أن أقطعها".
هذه هي الأمة التي ينصرها الله وهذه هي الأمة التي تدين لها الأمم.
هل من صلاح الدين يعيد السيف في يدنا أو تبتروها فقد شلت أيادينا؟
شيخ الروم يصف المسلمين
قال أهل السير: كان أصحاب رسول الله لا يثبت لهم العدو فواق ناقة عند اللقاء، فقال هرقل عظيم الروم وهو في أنطاكية لما قدمت جيوشه تجر أذيال الهزيمة: ويلكم أخبروني عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم، أليسوا بشراً مثلكم؟ قالوا: بلى، قال: فأنتم أكثر أم هم؟ قالوا: بل نحن أكثر منهم أضعافاً في كل موطن، قال: فما بالكم تنهزمون؟ فقال شيخ من عظمائهم: من أجل أنهم يقومون الليل ويصومون النهار ويوفون بالعهد ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويتناصفون بينهم، ومن أجل أنا نشرب الخمر ونزني ونركب الحرام وننقض العهد ونغصب ونظلم ونأمر بالسخط وننهى عما يرضى الله ونفسد في الأرض .
هؤلاء هم أصحاب رسول الله
وقال الواصف في وصفهم: "وهل كان أصحاب رسول الله إلا شباباً ..، شباب مكتهلون في شبابهم، ثقال عن الشر أعينهم، بطيئة عن الباطل أرجلهم، قد نظر إليهم في جوف الليل، منثنيةً أصلابهم بمثاني القرآن، إذا مر أحدهم بآية فيها ذكر الجنة، بكى شوقاً إليها، وإذا مر بآية فيها ذكر النار شهق شهقة كأن زفير جهنم في أذنيه، قد وصلوا كلالهم بكلالهم، كلال ليلهم بكلال نهارهم، قد أكلت الأرض جباههم وأيديهم وركبهم، مصفرة ألوانهم، ناحلة أجسامهم من طول القيام وكثرة الصيام، مستقلين لذلك في جنب الله، وهم موفون بعهد الله، منجزون لوعد الله، إذا رأوا سهام العدو فوقت ورماحه قد أشرعت، وسيوفه قد انتضيت، وأبرقت الكتيبة وأرعدت بصواعق الموت، استهانوا بوعيد الكتيبة، لوعيد الله، مضى الشاب منهم قدماً حتى تختلف رجلاه عن عنق فرسه، قد اختضبت محاسن وجهه بالدماء، وعفر جبينه في الثرى، وأسرعت إليه سباع الأرض، فكم من عين في منقار طائر طالما بكى صاحبها من خشية الله، وكم من كف قد بانت بمعصمها، طالما اعتمد عليها صاحبها في سجوده في جوف الليل لله، وكم من خد رقيق وجبين عتيق قد فلق بعمد الحديد، رحمة الله على تلك الأبدان، وأدخل أرواحها الجنان .
هذا نور الدين محمود زنكي
قال ابن كثير رحمه الله في ترجمة السلطان الزاهد المجاهد نور الدين محمود زنكي: "إن جماعة من العباد ممن يعتمد على قولهم دخلوا بلاد القدس للزيارة أيام أخذ القدس الفرنج، فسمعوهم يقولون: أن القسيم ابن القسيم -يعنون نور الدين- له مع الله سر، فإنه لم يظفر وينصر علينا بكثرة جنده وجيشه، وإنما يظفر علينا وينصر بالدعاء وصلاة الليل، فإنه يصلي بالليل ويرفع يده إلى الله ويدعوه، فإنه يستجيب له ويعطيه سؤله فيظفر علينا، قال: فهذا كلام الكفار في حقه" .
جمع الشجاعة والخشوع لربه *** يا حبذا المحراب في المحراب
قيام الليل .. معسكر التدريب
أيها المؤمنون ها هي معسكرات التدريب قد فتحت أبوابها لكم يا من تريدون الجهاد، من كان صادقاً في حبه للجهاد والشهادة فليري الله من نفسه خيراً، وليصقل النفس، ويربطها بالسماء ويخلصها من أغلال الأرض، فإن قاوم حنين الفراش، وسلطان النوم، فهو قادر بإذن الله على مقاومة حنين الدنيا، وسلطان ملذاتها، وهو قادر على بذل النفس رخيصة في سبيل الله.
أما من ضعف عن ساعات يقفها بين يدي الله في ظل بارد، وماء وارف، فهل بالله يقدر على وقوف ساعات في ساح الوغى، تحت قصف الطائرات، وزمجرة المدرعات، متقلب بين لهيب الشمس، وحرارة القيظ.
والليل يعرفهم عُباد هجعته *** والحرب تعرفهم في الروع فرسانا
رسول الله وقيام الليل
اسمع إلى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقوم ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صَلَّيتُ مَعَ النَّبِيِّ ذَاتَ لَيلَةٍ، فَافتَتَحَ البَقَرَةَ فَقُلتُ: يَركَعُ عِندَ المِائَةِ، ثُمَّ مَضَى فَقُلتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكعَةٍ، فَمَضَى، فَقُلتُ: يَركَعُ بِهَا، ثُمَّ افتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افتَتَحَ آلَ عِمرَانَ فَقَرَأَهَا يَقرَأُ مُتَرَسِّلًا، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسبِيحٌ سَبَّحَ وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوٌّذٍ تَعَوَّذَ ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُولُ: "سُبحَانَ رَبِّيَ العَظِيمِ"، فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحوًا مِن قِيَامِهِ ثُمَّ قَالَ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَن حَمِدَهُ" ثُمَّ قَامَ طَوِيلًا قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ: "سُبحَانَ رَبِّيَ الأَعلَى"، فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِن قِيَامِهِ". رواه مسلم.
وها هو صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تتشقق قدماه وتتفطر، فترحم عائشة رضي الله عنها هذا الجهد منه، وتقول له: لِمَ تَصنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَد غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: "أَفَلَا أُحِبٌّ أَن أَكُونَ عَبدًا شَكُورًا"، وَلَمَّا كَثُرَ لَحمُهُ صَلَّى جَالِسًا، فَإِذَا أَرَادَ أَن يَركَعَ قَامَ فَقَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ.
وهل يقرأ القرآن هذا كما نقرأه نحن، أو ينتظر الفراغ من القراءة حتى يجلس، لا، اسمع إلى عبد الله بن الشخير يقول: "رَأَيتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَفِي صَدرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الرَّحَى مِن البُكَاءِ".
عليكم بقيام الليل
عباد الله، الحديث عن قيام الليل طويل، لا تجمعه كلمات في خطبة، ولا مقالات في كتاب، ولو جمعته، فإنه أفعال وأحوال، وليس مجرد عبارات وأقوال.
أيها الإخوة، نحن نعلم أنه أمر جليل، وحمل ثقيل لا يقدر عليه إلا من منَّ عليه الرب الرحيم، ولكن يا أيها الأخ، أريد أن أيسر عليك المطلب، وأذلل لك المركب، بخطوات تساق على عجل، وما لا يدرك كله، لا يترك جُله.
تذكر يا رعاك الله، نزول الرب جل وعلا في جوف الليل الآخر كل ليلة على السماء الدنيا، حِينَ يَبقَى ثلث الليل الآخر، حيث يقول: "مَن يَدعُونِي فَأَستَجِيبَ لَهُ، وَمَن يَسأَلُنِي فَأُعطِيَهُ، وَمَن يَستَغفِرُنِي فَأَغفِرَ لَهُ"، وتذكر أن ربك في علاه، تنزل لك، فهل تعرض عنه، وقد أتاك. {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9].
ثم اعلم يا أخي أنك ستعرف زمان نصر هذه الأمة، إذا رأيت أبنائها ركعاً سجداً في محاريب الليل، وبعد ذلك ليكن بدؤك في رحلة قيام الليل هينا، فعليك يا أخي أن تعالج نفسك بالاستيقاظ في جوف الليل لدقائق معدودة تذكر الله، وتستغفره، وتطلب منه دعوات معدودة، حتى إذا أحسست بالأنس بهذه الدقائق انتقل إلى مرحلة أخرى.
إذا وجدت في نفسك نشاطاً، فتوضأ وضوءاً خفيفاً، وصل وتراً، واحدة أو ثلاث، حتى إذا أصبح ذلك الأمر سجية لك، وأضحى فؤادك يتضجر لفقده، وتنتظر حلاوته، فاعلم أن الله وضعك على عتبات الطريق، فعندئذ اعمد إلى ورد من القرآن تقرؤه ولو في المصحف، في سكنات الليل، ونسمات السحر، ثم ناج ربك ومولاك بدعوات، وابتهالات، وانظر بعد كيف سيكون قلبك.
عباد الله، إن الأمة تعيش مخاضاً، والأرض تمور بأهلها، ونحن مقدمون على ملاحم لا يعلم نتائجها إلا رب الأرض والسماء، وإن لم نكن بقدرها، فسنغضب الرب، ونستحق لعنة الخلق، وسيطوينا التاريخ، فما أحوجنا لقيام الليل في هذه المحن.
إنه حق على كل مسلم في هذه الأيام الحرجة، أن يجعل له ورداً يومياً من الدعاء، يستنصر به رب الأرض والسماء على الصليبيين واليهود والمنافقين ومن والاهم، وأن يسأل الله النصر لإخوانه، في جوف الليل، لعل الله عز وجل يعذره بهذا الفعل القليل، ولعل الله أن يستجيب لهذه الآهات الصادقة، والحسرات المتألمة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.