الحب، كضربة الشمس أو الإجهاد الحرارى أو إنفلونزا المفاصل أو الجفاف أو حمو النيل، من الأمراض الصيفية. هذا ما سمعته من العالمين ببواطن الأمور. فأنا فى هذه المواضيع، على رأى المثل: زى القطة المغمضة. وعلى ما يتردد بين ذوى الاختصاص، فإنه بلا مواعيد محددة سلفاً. لا مواعيد له. وقد ينشط فى الفصول الأخرى. لا يوجد ما يمنع حدوثه على مدار السنة. هنا بالتحديد تكمن خطورته الحقيقية. هنا بالتحديد حيث إنه بلا مواسم، كالليمون والفل والعنب والتوت والرمان. هو، بالذات، لا مواسم له. لا تواريخ تتفق عليها أطالس الرياح أو كتب الفيضانات أو دواوين المطر. فجأة يشعر الإنسان بأنه مختلف، وأن اضطراباً ناعماً، بقدر ما هو عاصف، يسرى فى خلايا الجهاز العصبى، وأنه يرى ذاته بصورة جديدة. كما أن من الصعب جداً مداراة أعراضه. يظهر على ملامح الوجه. النظرة تشى بأن صاحبها يريد أن يحتضن الدنيا بعينيه، ولا تتمكن حركة اليدين أو الذراعين أو طريقة السير أو الجلوس أو الحديث من التمويه. العاشق، تفضحه الجبهة التى تصبح لافتة، كتلك المعلقة على مداخل المطارات فى المدن البعيدة التى تموج بالإعلانات الضوئية الزاعقة أو أفيشات المسارح أو الملاهى الليلية. لافتة بالنيون، مكتوب عليها بأحرف متشابكة: هنا، منطقة دوامات. وعلى ما سمعت، فإن تشخيصه أسهل بمراحل من أن يحتاج إلى طبيب. فالعارفون بتلك المسائل يجمعون على أنه أوضح من الزكام أو لوثة التطرف أو الملاريا أو الغباء أو الحصبة أو فقر الروح أو الدفتيريا أو دعارة الفكر أو الجدرى أو حمى الإبداع أو لين العظام أو مخاض العبارة. وعلى ما سمعت أيضاً، فإن المرضى يقاومون الشفاء، وأن غير المصابين يكثرون من التواجد فى أماكن العدوى. هذا ما يؤكده المجربون. لا أحد يدرى لماذا تقرر كل أنواع الأزهار توزيع العطر بلا مقابل. بل إن العارفين بتلك المسائل يؤكدون أن الكون بأكمله يكون واقعاً فى حالة حب. فلا الرياح تقسو على الشجر، ولا الرعود تعلن الحرب ضد هدأة الليل. وعلى كراسى البلاج، يسترخى ملايين البشر، كالمشدودين إلى ما خلف منحنى الرؤية، لينظروا إلى الأفق حيث يلتقى البحر بالسماء. وقد راحوا يسترجعون ذكريات بعيدة عن همسة أو كلمة أو حكاية قصيرة كسحابة صيف عاشوها منذ عشرين أو ثلاثين عاماً. هناك عند البراميل أو فيما وراء الجزر الصغيرة، تعانق شخصان يوماً فى غلالة الشفق. وعلى سطح قارب لشخصين، تداخل الجسدان ذات غروب إلى درجة التوحد فى مواجهة الموج الهادر. تظل تدوى فى الآذان، قادمة من أزمان خلت، نداءات باعة التين الشوكى أو الجيلاتى بالشيكولاتة والفسدق والسينالكو وغزل البنات والفريسكا والذرة المشوية. تصاوير زاهية تعبر الخيال، كشريط سينمائى. الكورنيش من المعمورة إلى العجمى. الشماسى وجرادل الأطفال الملونة وصخرة ميامى وقصور بنيناها فوق الرمال وبير مسعود والفشار فى ميدان الرمل. الوعود والعهود والتنهدات خلف الكبائن فى هجعة الظُهر الأحمر، فإذا بالزمن يفقد منطقيته، كأن عقارب الساعة قد أرهقها الدوران إلى غير ما نهاية، فأعلنت العصيان المدنى، لتستريح قليلاً عند لحظة معينة. تتلاشى، دون سابق إنذار، كل السنوات التى مرت ما بين قصتَى حب. كل تلك السنوات التى تبدو كالوقت الضائع ما بين ارتعاشتين تزلزلان بلا توقف شغاف القلب. ثم...؟! لا يبقى سوى جرح يرفض أن يندمل أو غصة لا تغادر الحلق أو دمعة تطل من العين، كما لو أنها تريد أن تسقط فى السر دون أن يراها أحد. وعلى ما سمعت من أهل الخبرة، فإن الجميع لحظتها يرتدون أطفالاً.