كنا داخل سيارتها آخر الليل عند سفح الهرم، عندما قالت لى ما ترجمته عن الإسبانية: أنا خلاص! ما بقيتش قادرة على العيشة دي! خلاص! حقيقى ما بقيتش قادرة! شىء ما، عذب بقدر ما هو ملبد بالأسى، كان يترقرق فى عينيها نصف المغمضتين، كأنهما نافورتان مجهدتان فى أواخر المساء تغالبان النعاس خوفاً حتى من الحلم، كانت ترتعش، الخدان والشفتان واليدان والساقان والقدمان، كلها ترتعش، ليس فقط من الفزع أو البرد أو الغضب، إنما أيضا من تهتك حاد فى أنسجة الروح، عندما أضافت: المرأة التى تستغيث بى فى صمت، كلما نظرت الىّ من على صفحة المرآة، ليست بالتأكيد هى أنا! ابتسامة الموناليزا، كما اعتدت انت دائماً أن تصفها، صارت أقرب ما تكون الى تقطيبة الجدة البائسة فى لوحة الرعاة لبيتر بروجل، تعالى معى إلى بلاد أخرى ليست غريبة عنك، بلاد تعرض من واقع تجاربك أن أحداً لن يضطهدك فيها لرأى أبديته فى بؤرة فساد عريتها أو موقف دافعت عنه، ولا يوجد أدنى احتمال فى أن تمر على أرضها بمحاولة اغتيال بشعة، كتلك التى تعرضت لها منذ سبعة أعوام، تعالى معى إلى بلاد لا تتطرق إلى ذهن أحد من كبارها فكرة أن يصفيك جسدياً بإشعال النار فى المنزل بأكمله، أو من خلال حقنك بالهواء فى الوريد، أو يبعث بمن يسكب البنزين فى عينيك، بكل ما يترتب على ذلك من أوجاع مزمنة لن تبرأ منها ما حييت! ولم أجد فى صوتها المشروخ تلك الحديقة الشهرزادية التى طالما غفوت على حفيف أشجارها المستحمة بقطر الندى، أتظن أننى لا أسمعك بالليل، حين تغلق على نفسك باب حجرة المكتب، لتئن بمفردك من الألم؟ ألأننى أسكت تخيلت أننى لم آخذ بالى منذ الوهلة الأولى، من أنك لا تبالغ فى التظاهر بالمرح، إلا لتخفى ما بك من حرائق؟ تعالى معى نستظل بسماء أخرى لا تسرق تحت قبتها أعمارنا عصابات المزورين أو قتلة الأطفال أو خبراء التعذيب أو مصاصى الدماء أو النخاسين الجدد، ولا تمطر طوال النهار نكداً ومجازر وكوابيس ومحارق ومغارق وسحابات سوداء!
قلت: ليت هذا فى إمكاني! ليتنى أستطيع، كيف أرحل بعيداً، وأنا كلى هنا، موزع على ذرات التراب ونشوق العواجيز فى القرى، وعلى الغبار الذى يتساقط من الشفق فى الأمسيات الموحشة ليتناثر فوق أسطح البيوت المجللة كلها بالحداد؟ إلى أين أذهب، والوطن بالنسبة لى ليس فندقاً، إذا لم تعجبنا الخدمة فيه، بحثنا عن غيره؟ الوطن بالنسبة لى هو المكان الذى نعانى فيه بمحض إرادتنا! كيف أرحل بعيداً، وأنا مخلوط بعجينة الحناء ورماد الفرن وخميرة الخبيز والكحل فى عيون الصبايا وتشابك الحروف فى عبارات التهانى والعزاء؟ كيف وأنا بعد كل هذه السنين، ماأزال أتحين الفرصة لأقف على الرصيف أيام الاجازات، كما اعتدت فى طفولتى البعيدة، أمام النافذة التى طالما انتظرت، ليلاً أو نهاراً، صيفاً أو شتاء أن تطل من خلف شيشها بنت الجيران، لمن أترك الطرقات التى تجسدت بمرور الوقت، داخلى من الرأس حتى القدمين، على هيئة أوردة وشرايين تموج بالصخب، لمن أترك شارع الجبلاية، وكوبرى الجامعة وحوارى سيدنا الحسين والقلعة والمغربلين ودير الملاك، وبائعات الفل فى ميدان التحرير، وقوارب العشاق على صفحة النيل ساعة المغربية؟ من ذا الذى سأئتمنه على الكورنيش من المعمورة إلى العجمى، وعلى الشماسى وجرادل الأطفال الملونة وصخرة ميامى وقصور بنيانها فوق الرمال وبير مسعود؟ من ذا الذى سأئتمنه على الوعود والعهود والتنهدات، وعلى تلامس الأيدى والشفاة خلف الكبائن فى هجعة الظهر الأحمر، وعلى الذرة المشوية والفريسكا والسينالكو وغزل البنات وعبدالحليم يغنى من الترانزيستور: مع جراحى باحن إليك، باحن إليك، من سيروى بماء الحنين الأخضر كلاماً سكبته فى آذان صديقاتى، بكل ما فى الدنيا من صدق عن المستقبل الأقل قبحاً، أو الحياة الأقل ظلماً فى وطن أقل تعاسة؟ إلى أين أذهب وأنا أريد عندما يحين الأجل أن أرقد الى جوار أبى، وأن يؤنس فى وحشة القبر كل منا الآخر، استحضار ساعات طويلة قضيناها معاً فى الشرفة بالقاهرة أو الاسكندرية، أوبصحبة الفلاحين الحزانى فى ظل السواقى الحزينة، نتحدث بصوت خافت، كأنما نحن لا نريد أن نفرغ بأخبارنا فى هذا الزمن الأغبر أرواح أحبائنا النائمين تحت التراب، نتحدث همساً عن عذابات الفقراء ودونية الكهنة وشراهة رجال الأعمال ودموية العسكر ومذابح الطغاة وحلم التغيير، وعن الليل الذى لا نهاية له، وعن الشقاء الإنسانى، أقسم لك أننى - مهما حاولت- لن أستطيع! ليس هذا فى مقدورى أصلاً، ولا عمرى تصورت أن حدوثه وارد، أقسم لك بهاتين الغمازتين اللتين يحسدك عليهما قوس قز، أنا لا أتخيل مجرد فكرة الرحيل إلا بهدف الدراسة كما فعلت، لا أتخيل مجرد فكرة الرحيل إلى الأبد، تاركاً أرصفة الشوارع المهمشة أو المناطق العشوائية أو سكان القبور، تاركاً التفرقة العنصرية السافرة التى يمارسها نازيو الجيستابو الجديد فى «أزهى عصور الديمقراطية وحقوق الإنسان» ضد الملايين الثمانية من متحدى الإعاقة أو آلاف الجياع الذين ينامون شبه عراة تحت الكبارى فى عز الشتاء.
سافرى أنت بالسلامة، ولا تخافى على، لا يوجد ما يدعو الى الخوف على مثلى، ألست أنت من اتهمنى دائماً بتحجر المشاعر، ما الذى يقلقك إذن؟ اطمئنى على الآخر، وتأكدى من أننى لن أبتئس لفراقك، ولا سأفتقد لمسة يدك على جبهتى، وأنت تسألين: ماذا بك؟ هل أنت مريض؟ إلى متى ستظل تحمل الكرة الأرضية فوق رأسك المثقل بالهموم؟ اطمئنى على الآخر، وتأكدى من أننى لن أقطع البيت جيئة وذهاباً، المرة تلو الأخرى، كالمدمن الذى تأخر عليه موعد الجرعة، باحثاً على المخدة أو بين أسنان المشط أو حتى فى هواء الحجرات عن عطر ضفائرك، ولا سيقتلنى الشوق إليك، ولا سأبكى قليلاً على انفراد، كلما فتحت باب الشقة لأجدها بدونك، ولا أى حاجة خالص