كنا داخل سيارتها آخر الليل عند سفح الهرم ، عندما قالت لي ما ترجمته : أنا خلاص ! ما بقيتش قادرة على العيشة دي ! خلاص ! حقيقي ما بقيتش قادرة ! شيء ما ، عذب بقدر ما هو ملبد بالأسى ، كان يترقرق في عينيها نصف المغمضتين ، كأنهما نافورتان مجهدتان في أواخر المساء ، تغالبان النعاس خوفاً حتى من الحلم . كانت ترتعش . الخدان والشفتان واليدان والساقان والقدمان . كلها ترتعش . ليس فقط من الفزع أو البرد أو الغضب . إنما أيضاً من تهتك حاد في أنسجة الروح ، عندما أضافت : المرأة التي تستغيث بي في صمت ، كلما نظرت إلى من على صفحة المرآة ، ليست بالتأكيد هي أنا ! ابتسامة الموناليزا ، كما اعتدت أنت دائماً أن تصفها ، صارت أقرب ما تكون إلى تقيبة الجدة البائسة في لوحة الرعاة لبيتر بروجل . تعالى معي إلى بلاد أخرى ليست غريبة عنك ، بلاد تعرف من واقع تجاربك أن أحداً لن يضطهدك فيها لرأي أبدايته أو بؤرة فساد عريتها أو موقف دافعت عنه ، ولا يوجد أدنى احتمال في أن تمر على أرضها بمحاولة اغتيال بشعة ، كتلك التي تعرضت لها منذ 14 عاماً . تعالى معيإلى بلاد لا تتطرق إلى ذهن أحد من كبارها فكرة إدراج اسمك في ظل سائر الأنظمة على قوائم الاغتيال ، أو تصفيتك جسدياً بإشعال النار في المنزل بأكمله ، أو من خلال حقنك بالهواء في الوريد ، أو يبعث بمن يسكب في عينيك ، بكل ما يترتب على ذلك من أوجاع مزمنة لن تبرأ منها ما حييت !. ولم أجد في صوتها المشروخ تلك الحديقة الشهر زادية التي طالما غفوت على حفيف أشجارها المستجمة بقطر الندى : أتظن أنني لا أسمعك بالليل ، حين تغلق على نفسك باب حجرة المكتب ، لتئن بمفردك من الآلم ؟ ألأنني أسكت تخيلت أنني لم آخذ بالي منذ الوهلة الأولى ، من أنك لا تبالغ في التظاهر بالمرح ، إلا لتخفي ما بك من حرائق ؟ تعالى معى نستظل بسماء أخرى لا تسرق تحت قبتها أعمارنا عصابات الإرهابيين أو قطاع الطريق أو قتلة الأطفال أو المرضى بالتعذيبو فوبيا أو مصاصي الدماء أو النخاسين الجدد ، ولا تمطر طول النهار نكداً و مجازر وكوابيس ومحارق وسحابات سوداء !قلت : ليت ها كان في إمكاني ! ليتني أستطيع ! كيف أرحل بعيداً ، وأنا كلي هنا موزع على ذرات التراب ونشوق العواجيز في القرى ، وعلى الغبار الذي يتساقط من الشفق في الأمسيات الموحشة ، ليتناثر فوق أسطح البيوت المجللة كلها بالحداد ؟ إلى أين أذهب ، والوطن بالنسبة لي فندقاً ، إذا لم تعجبنا الخدمة فيه ، بحثنا عن غيره ؟ الوطن بالنسبة لي هو المكان الذي نعاني فيه بمحض إرادتنا ! كيف أرحل بعيداً ، وأنا مخلوط بعجينة الحناء ورماد الفرن وخميرة الخبيز والكحل في عيون الصبايا . وتشابك الحروف في عبارات التهاني والعزاء ؟ وكيف وأنا ، بعد كل هذه السنين ، ما زال أتحين الفرصة لأقف على الرصيف أيام الإجازات ، كما اعتدت في طفولتي البعيدة ، أمام النافذة التي طالما انتظرت ، ليلاً أو نهاراً ، صيفاً أو شتاءً ، وأن تظل من خلف شيشها بنت الجيران ؟ لمن أترك الطرقات التي تجسدت بمرور الوقت ، داخلي من الرأس حتى القدمين ، على هيئة أوردهة وشرايين تموج بالصخب ؟ لمن أترك شارع الجبلاية ، وكوبري الجامعة ، وحواري سيدنا الحسين والقلعة والمغربلين ودير الملاك ، وبائعات الفل في ميدان التحرير ، وقوارب العشاق على صفحة النيل ساعة المغربية ؟ من ذا الذي سأئتمنه على الكورنيش من المعمورة إلى العجمي ، وعلى الشماسي وجرادل الأطفال الملونة وصخرة ميامي وقصور بنيناها فوق الرمال وبير مسعود ؟ من ذا الذي سأئتمنه على الوعود والتنهدات ، وعلى تلامس الأيدي والشفاه خلف الكبائن في هجعة الظهر الأحمر ، وعلى الذرة المشوية والفريسكا والسينالكو وغزل البنات ومقاطع متداخلة من أغنيات لعبد الحليم ؟ من سيروي بماء الحنين الأخضر كلاماً . سطبته في آذان صديقاتي ، بكل ما في الدنيا من صدق ، عن المستقبل الأقل قبحاً أو الحياة الأقل ظلماً في وطن أقل تعاسة ؟ إلى أين أذهب ، وأنا أريد عندما يحين الأجل أن أرقد إلى جوار أبي ، وأن يؤنس في وحشة القبر كل منا الآخر ، باستحضار ساعات طويلة ، قضيناها معاً في الشرفة ، بالقاهرة أو الإسكندرية ، أوبصحبة الفلاحين الحزانى في ظل السواقي الحزينة ، نتحدث بصوت خافت ، كأنما نحن لا نريد أن نفزع بأخبارنا في هذا الزمن الأغبر أرواح أحبائنا النائمين تحت التراب . نتحدث همساً عن عذابات الفقراء ودونية الكهنة وشراهة رجال الأعمال ودموية المتطرفين ومذابح الطغاة وحلم التغيير ، وعن الليل الذي لا نهاية له ، وعن الشقاء الإنساني ؟ أقسم لك أنني مهما حاولت لن أستطيع ! ليس هذا في مقدوري أصلاً ، ولا عمري تصورت أن حدوثة وارد . أقسم لك بهذه الأمواج الضوئية في عينيك التي يحسدك عليها قوس قزح أنا لا أتخيل مجرد فكرة الرحيل إلا بهدف الدراسة كما فعلت . لا أتخيل مجرد فكرة الرحيل إلى الأبد ، تاركاً أرصفة الشوارع المهشمة ، أو المناطق العشوائية أو سكان القبور . تاركاً التفرقة العنصرية السافرة التي يمارسها نازيو الجيستابو الجدي ضد الملايين العشرة من متحدي الإعاقة أو آلاف الجياع الذين ينامون شبه عراة تحت الكباري في عز الشتاء . سافري أنت بالسلامة ، ولا تخافي على . لا يوجد ما يدعو إلى الخوف على مثلي . ألست أنت من اتهمني دائماً بتحجر المشاعر ؟ مالذي يقلقك إذن ؟ اطمئني على الآخر . وتأكدي من أنني لن أبتئس لفراقك ، ولا سأفتقد لمسة يدك على جبهتي ، وأنت تسألين : ماذا بك ؟ هل أنت مريض ؟ إلى متى ستظل تحمل الكرة الأرضية فوق رأسك المثقل بالهموم ؟ اطمئني على الآخر . وتأكدي من أنني لن أقطع البيت جيئة وذهاباً المرة تلو الأخرى ، كالمدمن الذي تأخر عليه موعد الجرعة ، باحثاً على المخدة أو بين أسنان المشط أو حتى في هواء الحجرات عن عطر ضفائرك ، ولا سيقتلني الشوق إليك ، ولا سأبكي قليلاً على انفراد ، كلما فتحت باب الشقة لأجدها بدونك ، ولا أي حاجة خالص .