اعتاد البعض على تسجيل لحظات من حياتهم سواء بالكتابة أو بالصورة، وهذا الأمر لا ينحصر على مجموعة من الناس دون غيرهم، فهناك رؤساء دول عظمى سجلوا مواقف وذكريات من حياتهم وهم في السلطة وما قبلها، ولكنهم لا يطلقون سراح كتاباتهم هذه إلا عندما يحين الوقت المناسب لهم. الرئيس محمد أنور السادات كان واحدًا من هؤلاء الزعماء الذين كتبوا عن أنفسهم، فكان له كتابة بعنوان "في حياتي قصة". وإليكم نص ما كتب الزعيم الراحل في القاهرة عام 1954... منذ فجر حياتي وأنا طفل في القرية وللقصة أثر عميق في خيالي ووجداني.. ففي تلك الأيام الخوالي أيام أن كنت طفلا لا أري الحياة في القرية إلا نعيما مقيما.. كنت لا أنام إلا علي تلك القصة المشهورة تحكيها لي جدتي عن الشاطر حسن والشاطر محمد، وذلك الغليون المحمل بالجواهر من أجل أن يحظي احدهما ببنت السلطان ست الحسن والجمال.. وتنوع هذا القصص، فتطور إلي أحاديث البطولة في قصص أبو زيد الهلالي التي كان يرويها لنا شاعر الربابة، والتي كانت تلهب حماسنا طوال السنة، فلا نتحدث إلا عن أبو زيد ودياب حتي إننا كنا في لعبنا نتمثل بهم وندير المعارك ونحن أطفال بعد أن نقسم أنفسنا إلي فريق أبو زيد وفريق دياب. وتدرجت في مراحل الطفولة، وجاء الوقت الذي تركت فيه القرية لكي ابدأ أولي مراحل التعليم في القاهرة ولكنني كنت أعود مع الإجازة الصيفية إلي القرية لأقضي بها شهورا، كانت بلا شك غذاء لخيالي الذي ارتبط بتلك العيشة البدائية وما فيها من قصص وأساطير حالمة كانت لا تفتأ تبعث النشوة في خيالي الساذج.. ولم يكن يعزيني في القاهرة إلا يوم الخميس من كل أسبوع الذي كنت أعد له الخمسة مليمات لكي أشتري "مجلة الأولاد" فقد كان البطلان "دان ودورا" يرويان قصة شائقة على صفحات هذه المجلة تنتهي فصولها دائما نهاية مفاجئة مثيرة تحتم علي أن أتابع مصيرها الشيق المجهول.. ثم سرت في قافلة الزمن فأتممت تعليمي وانتظمت في سلك الجيش وشاءت المقادير أن لا أعيش هادئ البال فطردت من الجيش واعتقلت ثم هربت.. وكنت أكافح من أجل الخبز وأنا هارب ثم اتهمت.. وكان السجن. في الستة شهور الأولي في الزنزانة قاسيت إلي جانب ما قاسيت، حرمان القراءة والثقافة، فما إن صرحت لنا إدارة السجن بالقراءة والاطلاع حتي شعرت بنهم شديد لان اقرأ، فمنظر الكتاب في حد ذاته كان شيئا جديدا مبهجا.. ومرة أخري عدت بالتدريج إلي قراءة القصص ولكن قراءتي في هذه المرة لم تكن كسابقتها "دان ودورا" أو "أرسين لوبين" وإنما بدت بوحي من القيد الذي يحيط بي، أقول بدأت أعيش فعلا في القصة التي اقرأها وبدأت أحس بلون عميق من المتعة فقد كنت أنسى بين صفحات القصص ما يحيط بي بل انتقل بخيالي إلي الأجواء التي تصورها حوادث هذه القصص فأطرب للبطولة والشهامة، واستنكر المكر والخيانة، وكان قد مضي علي سنة ونصف في الزنزانة، وبدأت أسائل نفسي.. أنا لم أرد في هذا الكون شرا، فكيف يعصف بي الأشرار؟.. وعشرات من الأسئلة كنت أحس أنها تنفجر من عقلي وقلبي ووجداني في صراخ: إلي أين ؟. وكأنما استجاب ربي لهذا الدعاء ففتح علي السجان باب الزنزانة ذات يوم لكي يسلمني "الغسيل" الذي أتي من منزلي، ثم سلمني معه كتابا هو القصة التي في حياتي.. وسأحاول في هذه السطور القليلة ! اروي ما علق بذهني وانطبع علي روحي من هذه القصة التي اعتبرها بحق نقطة الابتداء في حياتي، بعد ذلك التساؤل وذلك العناء. كاتب هذه القصة هو "سومسرت موم" واسمها: "حد الموسي".. لعل الكثيرين قد رأوها تمثل علي الشاشة ولكن أحدا لن يستطيع أن يحس بروعتها الحقيقية إلا حين يقرأها ليستوعب ذلك المعني العميق الذي تصوره هذه الملحمة.. روي موم.. "لاري" شاب أمريكي يتيم تدرج في مراحل التعليم، حتي كانت الحرب فسافر إلي كندا حيث أمكنه أن يلتحق في سلاح الطيران الكندي وما أن أتم تمرينه حتي أرسل مع زملائه إلي الميدان حيث حارب بشجاعة نادرة، ولكنه حين عاد إلى وطنه بعد ذلك عاد شخصا آخر.. لقد هال "ايزابيل" الجميلة خطيبته هذا التغيير المريب الذي انتابه بعد رجوعه من الحرب.. وايزابيل تحبه من كل نفسها، ولكن تحب أيضا أن تراه زوجا ككل الأزواج، وتحاول "إيزابيل" أن تعرف كنه هذا الأمر فقد عاد "لاري" وهو في سنه المبكرة إذ لم يبلغ العشرين بعد وهو منطو علي نفسه عزوف عن مرح الشباب ولهوهم .. وإيزابيل فتاة تقبل بكل نفسها علي الحياة فما بال "لاري" قد عاد من الحرب وهو لا يطيق هذه المجتمعات، عاد لا يرى في أي اجتماع أو أية مأدبة إلا جادا ساكنا، يكاد لا يتكلم وان تكلم فمنطقه مريب وغريب. كره "لاري" الاختلاط بالناس إلا شيئا واحدا أن لاري يمضي ساعات طويلة علي كرسي في مكتبة البلدة لا يحس بأحد. تقلق "أم إيزابيل" لحال هذا الخطيب، ويحاول الجميع أن يفهموا من "لاري" سر هذا التغيير فيجيب ببساطة قائلا انه هو شخصيا لا يستطيع تفسير ذلك، ويضيف انه يحس بأنه يريد شيئا لا يعرفه. تزداد حيرة "إيزابيل" وأمها وأصدقاؤه وخاصة حينما ظنوا أن العمل قد يشفي من حيرته فيرفض العمل. وحينما تكاشفه إيزابيل في صراحة ولطف عن هذه الحيرة ينتهي الأمر بان يهبها حريتها لأنه لن يستطيع أن يحقق لها شيئا قبل أن يعرف ما يريد.. يرحل "لاري" من أمريكا لعله يستطيع بالسفر أن يهتدي إلي ما يريد، وفي ألمانيا اشتغل عاملا في منجم للفحم فكان يمضي يومه كادحا، وحين يأوي في المساء لا ينام حتي يقرأ بجوع ونهم.. كان يسكن إلي جواره في نفس المنزل قسيسا جمعهما الجوار في جلسات تناقشا فيها طويلا، ولكن "لاري" لم يعثر لا في الكتب ولا في المناقشة علي ما يريد. يسافر لاري إلي اسبانيا ويفتن هذه المرة بنساء اسبانيا وشعورهن الناعمة السوداء، ولم تسفر مغامراته فيها إلا عن مصاحبة فتاة لم تلبث أن تركته.. يصمم "لاري" هذه المرة علي أن يذهب بعيدا فيركب سفينة من تلك السفن التي تطوف بركابها حول العالم ، ركب وهو لا يعلم حقيقة وجهته، ولكنه فوجئ والسفينة في الإسكندرية برجل اسمر تنم ملامحه عن جنسيته الهندية، فوجئ لاري والرجل يربت علي كتفه في رفق. وما إن استدار حتي سأله الهندي عن وجهته فأجاب "لاري" أنه لا يدري فرد عليه الهندي قائلا: عليك أن تتخلف في الهند.. في الشرق تعاليم جدير بالغرب أن يأخذ منها.. ما أن وصلت السفينة إلي بومباي حتي شعر لاري بحافز قوي يدفعه إلي التخلف في الهند.. والتقي برفيق السفر الذي اتضح انه من البراهمة فيدعوه للسفر معه إلي "بنارس" وهناك بدأت أول تجربة أخذت علي فتانا لبه حينما كان يخرج إلي نهر "الجانج" في الفجر ليري جموع الهنود وهم يتطهرون في النهر المقدس في إيمان وصدق يتجليان في إخلاص عميق. في المعبد الكبير وقف "لاري" يجيل النظر في كل شئ، وما شعر إلا ويد رقيقة تلمسه، فلما نظر رأي بجانبه احد المتعبدين الهنود الذي توجه إليه بالحديث قائلا: اذهب إلى "شيري جانيشا" فستجد عنده ما تريد! خرج "لاري" من المعبد يسعي ولشد ما كانت دهشته حينما وصل إلي محله "شيري جانيشا"، وحين ادخلوه عليه أخذته رهبة، وكانت المفاجأة الكبري حينما بادر "جانيشا" فتانا قائلا: "كنت في انتظارك". وأفاق فتانا من دهشته قائلا : "لقد أتيت إليك لأنني ابحث عن حقيقة منذ ثلاث سنوات.. ويمضي "لاري" شهورا عند جانيشا قرأ فيها بنهم وتعلم التأمل.. فبدأ يسبح فيما حواليه، وحين كان يجلس إلي جانيشا مع بقية المريدين والتلاميذ كان خياله يستمتع بغذاء حار يلهب تأملاته. كان جانيشا يبشر بضرورة ممارسة السيطرة علي النفس، وعلي العاطفة وعلي الحواس وأنهم يستطيعون أن ينعموا بالتحرر إذا ما سادهم الهدوء، وقوة النفس وإنكار الذات، عن طريق صفاء الذهن والرغبة في الحرية.. وكان يردد دائما: "إن القوة يجب أن تستقر في أرواحكم لتعيشوا في سلام دائم مع أنفسكم" .. "إننا نجهل كثيرا قدر وجودنا فنحن أعظم بكثير مما نحس، وهذه الحقيقة وحدها كفيلة بان تقودنا إلي الحرية".. ثم يعود ويؤكد في لهجته الهادئة الواثقة: "ليس معني التجرد أن ينعزل المرء عن العالم، وإنما التجرد الحقيقي هو في قهر النفس والسيطرة عليها. ويعود فتانا يتأمل ويقرأ ثم يسمع إلي جانيشا وهو يقول " إن العمل الذي يؤدي من غير مصلحة ذاتية لهو خير متعة للذهن، وأن الأمانة التي تلقي علي كاهل الإنسان فوق هذه الأرض هي خير فرصة يستطيع بها أن يقهر فرديته في سبيل السمو بالمجموع " وإلى هنا امتلأت نفس فتانا فأحس بالجمال وأحس بالصفاء وأحس بالسلام وبدأت المعرفة.. فقد عرف أن كل شئ في هذه الحياة إلي زوال، وانه من الخطأ أن يتمسك بدوام الحال، ومن الخطأ الفاحش أيضا إن نضيع فرصة الاستمتاع بما قسم لنا فيها من الجمال. وبدأت طاقة مروعة تتفجر في نفس فتانا.. أنه لن يقنع إلا بأن يعيش.. وان يعيش حتي يستطع أن يحقق رسالته في هذا الوجود.. أنه يحس أن نفسه قد ارتفعت فوق الزمان والمكان والأشياء.. وأن الحياة ما هي إلا حلبة يتصارع فيها الفرح والألم والفضيلة والرذيلة، والحكمة والجهل والخير والشر.. وأن الحقيقة العليا في هذه الحياة هي أن يستطيع الإنسان أن يحقق التوازن بين ما يشتهيه الجسد وما يصون الروح. وعاد فتانا إلي وطنه ليعيش هادئ البال .. مشرق الوجدان.. بعد أن انتصر علي نفسه وعلي الدنيا بالمعرفة والصفاء، والجمال والسلام.