■ 4 رؤساء حكومة يرفضون طلب النائب العام للتحقيق فى جرائم خصخصة 220 شركة ■ الفساد يخفض مستوى المعيشة «40%» ويرفع تكلفة الاستثمار «20%» ويبتلع من أموال التنمية 100 مليار جنيه كل سنة!
■ النائب العام الأسبق أرسل خطابا إلى رؤساء حكومات ما بعد يناير- شفيق وشرف والجنزورى وقنديل- لمساعدته فى محاكمة المسئولين عن الخصخصة لكن.. لا أحد منهم استجاب
■ لجنة استرداد الأموال المهربة ضمت محامين عن متهمين مثل محمد محسوب وأرادت الحصول على نسخة من المعلومات لابتزاز موكليهم ولكن عبد المجيد محمود رفض!
الفساد.. كلمة شائعة.. إما تنتهى بجريمة.. أو تظل نميمة.
وبعد طول جهد وبحث وسهر استقر العالم على تعريف الفساد.. «إساءة استعمال السلطة العامة لمن أؤتمن عليها لتحقيق مكاسب شخصية».
ومن السهل تتبع الفساد المالى.. مثل الرشوة والاختلاس والتزوير والتربح وغسل الأموال وإهدار المال العام.. فكل منها جريمة منصوص عليها فى قانون العقوبات.. ويمكن التحقيق فيها.. وتجميع الأدلة ضد مرتكبها.. لتقديمه إلى محكمة الجنايات لينال جزاءه.
لكن.. من الصعب إثبات الفساد السياسى.. فهو يرتبط بقرارات الحاكم التى أدت إلى انتشار الفقر وتخلف الخدمات وانهيار مستوى المعيشة.. قرارات قد تكون بسبب غباء الحاكم.. أو ضعف قدراته.. أو خطأ تصرفاته.. هنا.. يصعب محاسبته جنائيا.. ما لم يثبت تورطه فى فساد مالى.
لقد انتهت لحكم مبارك بسيطرة شريحة رفيعة من المليارديرات على أغلبية تعيش فى العشوائيات.. وسيطرة عائلته وشلته على الحكم.. والسعى إلى توريثه لنجله.. وضرب المعارضة.. وتدمير الكفاءات.. وانفجار البطالة.. وسيادة الفقر.. وإضعاف البلاد.. وإهدار قيمتها.. وكلها مظاهر للفساد السياسى.. سكت الشعب عليها ثلاثين سنة.. وليس فى القانون ما يجرمها.. لكننا.. عندما قدمناه للمحاكمة قصرت عريضة الاتهام على ثلاث فيللات حصل عليها من حسين سالم مقابل عقد تصدير الغاز إلى إسرائيل.. وهى تهمة سقطت بالتقادم.. بجانب اتهامه بقتل المتظاهرين.. وهى تهمة وجد فيها شهودا لصالحه.
حاكمنا مبارك سياسيا باتهامات ونصوص جنائية.. فلم نصل إلى ما نريد.. ولم ينل من العقاب ما نتصور أنه يستحقه.. بل.. وجد من ينصفه.. ويشيد به.. ويتهم الثورة التى أسقطت عرشه بالمؤامرة.
وحسب تعريف الأممالمتحدة فإن الفساد السياسى هو استغلال السلطة العامة لتحقيق مكاسب خاصة أو تغليب مصلحة صاحب القرار على مصلحة الآخرين.. والاقتباس هنا من رسالة الدكتوراه التى قدمها المستشار عبد المجيد محمود عن الفساد وحصل بها على الدرجة العلمية الرفيعة من جامعة عين شمس.
ولو أخذ الفساد السياسى صورة الرشوة المباشرة لكان من الممكن تتبعه ومحاكمته.. وإن صعب ذلك.. ولكن.. المشكلة فى الخلط بين تبرعات الشركات الكبرى للأحزاب.. هل هى خالصة لوجه الإصلاح أم أنها رشوة مستترة تؤدى إلى مصلحة؟.
ولو أردنا محاسبة حاكم على فساده السياسى دون أن نملك دليلا على فساده المالى فليكن ذلك أمام محاكمة خاصة وبسلطة الثورة لا بنصوص قوانين الدولة.. هذا ما حدث بعد ثورة يوليو.. فيما سمى بمحاكمات الثورة.. حيث حوكم رموز النظام الملكى السابق.. وسجن بعضهم.. وصودرت أمواله.. وحرم من حقوقه فى الترشح والانتخاب.
أما لو أردنا محاكمة الرئيس جنائيا فعلينا إثبات أن قراراته السياسية وراءها فساد مالى.. وهو أمر فى حاجة إلى صبر طويل الأمد.. يمنحنا الوقت لخلق أدلة بطريقة التنقيط.. أو التقسيط.
مثلا.. كلنا نتحدث عن فساد الخصخصة.. لكن.. لا أحد ساعد على إثبات أنها جرت بوسائل فاسدة.
لقد امتدت الخصخصة منذ منتصف تسعينيات القرن الماضى إلى 220 شركة عامة.. تنوعت قوائمها المالية بين الربح والخسارة.. وبعد البلاغات التى قدمت بعد ثورة يناير أرسل النائب العام وقتها المستشار عبد المجيد محمود خطاباً إلى كل رؤساء الوزراء (من أحمد شفيق إلى هشام قنديل مروراً بعصام شرف وكمال الجنزورى) يطالبهم بالإجابة عن أسئلة ما ربما تساعد على تكوين اتهام لمن قام بالخصخصة.. أسئلة من عينة.. ما مبرر الخصخصة.. ما المعايير التى اتبعت لبيع الشركات.. هل كان الثمن مناسبا للأصول.. هل نفذت العقود التى وقعت؟.
كانت الإجابة عن هذه الأسئلة فرصة لخلق بذرة اتهام يمكن أن تنمو وتأتى ثمارها.. لكن.. لا أحد ممن وصلهم الخطاب اهتم به.. وكأنهم لا يريدون فتح الملفات المسكوت عنها دون أن ينسوا الثرثرة والشوشرة الإعلامية عليها.. وأصبحت الجريمة جريمتين.. جريمة الخصخصة.. وجريمة السكوت على من ارتكبها.
وفشل هؤلاء المسئولون الكبار أيضا فى استرداد ولو سنتاً واحداً من الأموال المهربة والمجمدة فى الخارج.. لم يمشوا فى الطريق الصحيح.. ومرة أخرى اكتفوا بالثرثرة والشوشرة.
إن هناك طريقين لاسترداد هذه الأموال.. التفاوض المباشر مع الدول التى تحتفظ بها.. أو رفع قضية عليها.. وهو ما فعلنا.. فكان أن أصبحت تلك الدول خصماً.. وأصرت على تطبيق قوانينها.. ومنها أن تحصل الحكومة المصرية على حكم بات ضد كل شخص هرب أمواله.. وأن تثبت أن المال المجمد هو نفسه المال الحرام الذى تضمنه الحكم.. والمعروف أن الحكم البات فى مصر بسبب درجات التقاضى المتعددة قد يستغرق سبع سنوات.. تكون الحكومات الأجنبية خلالها قد أفرجت عما جمدت من أموال بدعوى طول المدة.
وربما كان التفاوض المباشر أفضل.. فقد سبق أن أعادت سويسرا 20 مليون فرنك وضعها عبد الوهاب الحباك فى بنوكها.. وجاء السفير السويسرى فى القاهرة ليطلب نصيب بلاده من المال العائد.. وقبض 750 ألف فرنك.. وهو مبدأ مستقر فى العلاقات الدولية.. حصول الدول المجمدة للأموال على نصيب منها.. والتفاوض على النسبة وليس على المبدأ.
ومن سخرية السلطة فى مصر.. أن اللجنة التى شكلت لاسترداد الأموال وقت حكم الإخوان ضمت محامين عن رجال أعمال هربوا أموالهم للخارج.. مثل محمد محسوب.. فرفض النائب العام عبد المجيد محمود الانضمام إليها.. وقال لوزير العدل أحمد مكى: «أنت جايب مندوبين عن متهمين فى اللجنة.. لو قدمنا لهم الملفات سيستخدمونها لصالح موكليهم».. حاميها حراميها.
والحقيقة.. أن الإخوان أرادوا معرفة الثروات الدقيقة لرجال الأعمال فى الداخل والخارج ليضغطوا عليهم لمساومتهم.. وهو ما حدث بالفعل.
لقد عالجنا الفساد بفساد.. دون أن نستوعب أن الفساد سرطان شرس.. يدمر خلايا الاقتصاد.. ويزيد من شحوب المجتمع.. ويفرض الأنيميا على وطن بأكمله.. ويفقده أحلامه.
حسب رسالة دكتوراه عبد المجيد محمود فإن حجم جريمة الرشوة فى العالم ألف مليار دولار سنويا.. وساهم الفساد فى تهريب 400 مليار دولار من إفريقيا خلال العقد الأخير من القرن الماضى.. ويكلف الفساد الاقتصاد الإفريقى 148 مليار دولار سنويا.. مما يسبب ارتفاعا فى الأسعار بنسبة (20 %).
وحده هرب الرئيس الزائيرى موبوتو سياسى سيكو خمسة مليارات دولار.. وهرب الرئيس النيجرى 2. 2 مليار دولار.. وتمكن شقيق الرئيس المكسيكى كارلوس ساليناس من جمع 120 مليون دولار من جراء الفساد.. إن الحكام وعائلاتهم ليسوا غالبا فوق مستوى الفساد.. وإن كانوا أكثر براعة فى إخفاء المسروقات.
وتشير تقارير البنك الدولى إلى أن تكلفة الاستثمار فى الدول الفاسدة يزيد (20 %) على الدول الشفافة.. وأن الدول التى تحترم القانون وتحارب الفساد يزيد دخلها القومى بنسبة (40%).. وهناك تريليون (ألف مليار) دولار تفقد كل عام من الأموال المرصودة لتنمية المجتمعات من وراء الفساد.. ومنها 100 مليار جنيه فى مصر وحدها.. وربما يفسر ذلك ما تعانيه من متاعب متنوعة.
إن المؤكد أن العامل السياسى كان وثيق الصلة بالفساد المالى فى بلادنا.. والسبب.. غياب قيم الشفافية والنزاهة والمساءلة وسيادة القانون.. لقد كان على رئيس هيئة الرقابة الإدارية أن يبلغ الرئيس بقضايا الفساد التى وضع يده عليها.. وكان الرئيس يحدد من يذهب إلى الجنايات ومن يعفى منها.. وهو ما سمعته أيضا من اللواء محسن اليمانى المسئول الأكبر فى مباحث الأموال العامة.. وعندما يفرق الرئيس بين متهم ومتهم بسبب المنصب أو المكانة أو العلاقة الشخصية فإن الفساد يصبح سمة من سماته.
وباستخدام جملة «المصلحة المالية» يفلت فاسدون لا حصر لهم من العقاب.. كشفت ذات مرة عن قيام رجل أعمال شهير برفع رأس مال شركته بشهادات بنكية مزورة.. لكن.. جهات التحقيق حفظت القضية بدعوى المصلحة العامة.. وفى القضية التى حكم فيها على وزير الصناعة والتجارة الأسبق رشيد محمد رشيد أنه تربح مئات الملايين من الجنيهات بشراء وبيع أسهم شركة هيرميس بعد أن عرف بمعلومات جوهرية سرية ساعدته على جريمته.. لكن.. لم تقدم جهات التحقيق مسئولى الشركة الذين قدموا له هذه المعلومات بدعوى المصلحة العامة.
إن السمكة تفسد من رأسها.. ولو كان رئيس الدولة بالدف ضاربا فشيمة رجال الأعمال الرقص على حلبة تتساقط عليها المليارات الحرام نقوطا.
وربما لهذا السبب توقفت عند ما قاله الرئيس عبد الفتاح السيسى فى الكلمة التى ألقاها بمناسبة مرور نصف قرن على الرقابة الإدارية.. «إنه منذ أن كان ضابطا وحتى أصبح وزيرا للدفاع لم يقبل التوسط لضابط أو جندى».. فالتمييز يخلق نوعا من الظلم.. والظلم يفتح باب الفساد.
كما أنه لم يرفع السماعة على مسئول فى جهاز رقابى ليعطيه تعليمات ما.. فهو يؤمن باستقلال هذه الأجهزة.. ولا يطلب منها انتظار رأيه فى قضية جنائية تخص مسئول ما فى الحكم.. على أن ذلك لا ينفى أن المتهم برىء حتى تثبت إدانته.. ولذلك.. يجب الحظر فى تشويه السمعة قبل الإدانة.
وكشف.. أنه راجع بنفسه كل مناقصات وزارة الدفاع ليضمن عدم تسريب مال زائد يدفع بغير حق.. فلو وفر فى كل مناقصة مليون جنيه وضرب المليون فى عدد المناقصات التى تصل إلى ألفى مناقصة لوفر مليارى جنيه.. وتعهد بأن يراجع مناقصات الدولة وهو رئيس.. ربما ليوفر هذه المرة خمسة مليارات أو خمسين مليارا.
لم يتكلم الرئيس من ورقة.. وأبعد الخطاب سابق التجهيز الذى وضع له.. وراح يعبر عن خواطره بحرية وثقة وبساطة.
لم ينكر وجود الفساد فى مختلف أنحاء العالم.. لكنه.. يدرك أن ضعف مستوى المعيشة وانهيار مستوى التعليم ونقص الخدمات يزيد من مستوى الفساد فى شرايين الدولة.. وكل ما نسعى إليه أن ينخفض مستوى الفساد ليصبح عند مستواه الطبيعى.
لكن.. المشكلة أن كل جهاز رقابى أو أمنى يعمل بمفرده دون تنسيق مع باقى الأجهزة مما يوفر المنافسة بينها.. كما يوفر الوقت فى فحص الترشيحات للمناصب التنفيذية.. خاصة أن الاختيار السليم للقيادات بما تملك من خبرة وشفافية يقلل من فرص فسادها.. وفساد من تحتها.
ويعترف الرئيس بأن من الصعب عليه وضع يده على الأكفاء فى جميع المناصب.. وأبدى استعداده لتحمل نقد الإعلام الذى يحثه على الانتهاء من الطاقم الرئاسى.
إن الفساد مرض مصر المزمن.. ولن تتخلص من أوجاعها إلا إذا شفيت منه.. وتعافت.. والعلاج سهل.. ديمقراطية تفرض الشفافية.. ومحاسبة تنتهى بمحاكمة.. وعقاب الكبير قبل الصغير.. ساعتها سيمشى المسئولون مهما بلغ نفوذهم على العجين دون أن يلخبطوه.