إنّ الله عزّ وجلّ كرّم الإنسان بأن جعله خليفة له في الأرض. ولتحقيق هذه الخلافة والعمارة الصّحيحة تكون بأداء الأمانة، والتّكفّل بالقيام بها؛ مسؤولية وعهدًا أخذهما الإنسان على نفسه، بعد أن عرضها الله عزّ وجلّ عليه: ( إنّا عرضنا الأمانة على السّموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفق منها وحملها الإنسان إنّه كان ظلومًا جًهولاً ) ( الأحزاب/ 72). إن قام بها أحسن قيامٍ كان مُحسنًا، وإن ضيّعها خان العهد، ونقض الميثاق، وكان ظلومًا جًهولا. فما هي الأمانة؟؟ الأمانة أم الفضائل ومنبع الطمأنينة، وهي من أبرز علامات الإيمان ودلائل التّقوى، بل إنّ الإيمان نفسه أمانة في عنق العبد، فلا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له. الأمانة صدق في القول وإخلاص في العمل وقال الرّسول صلى الله عليه وسلم:" أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك"، قال الشّاعر: إذا ائتمنت على الأمانة فارعها إن الكريم على الأمانة راعي وقال آخر: أدّ الأمانة، والخيانة فاجتنب واعدل، ولا تظلم يطيب المكسب إنّ الإسلام حين يأمر المسلمين بالتحلّي بصفة الأمانة، يدرك أنّ الأمين هو الذّي يلتزم طاعة ربّه، والخائن هو الذي ينحرف ويعصي الله؛ لأنّه يتخلى عن العهد وينقض الميثاق اللّذين يربطانه بالله الواحد القهّار. قد وعد الله تبارك وتعالى الملتزمين بالأمانة، أمانةِ الطّاعة خيراً وجّناتِ عدن:" الذّين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق... جنّاتُ عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذريا تهم والملائكة يدخلون عليهم من كلّ باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدّار)(الرّعد/20 – 23) فالله تبارك وتعالى عدّد صفات المؤمن الموفّي بالعهد، المحافظ على الميثاق، بعد أن ذكر الأمانة والعهد. فيفهم من هذا أنّ الفرد لن يكون مؤمنًا حقّ الإيمان، ولن ينال الأجر الكبير، ولن يدخل جنات عدن، ويكرم معه أهله...حتّى يكون أمينًا، ملتزمًا بشرع الله التزامًا شاملا، من دون نقصان من جهة أخرى قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم " إذا ضُيّعت الأمانة فانتظر السّاعة " عظم الأمانة وأهميتها في حياة النّاس، وتبرز ضرورتها في بناء العلاقات بين أفراد المجتمع على أسس ثابتة، وقواعد راسخة. فقد ربط الله كلّ الفضائل والمكارم والأخلاق الفاضلة بالأمانة، ربط بينها وبين النّصح، والصّدق والقوّة والمكانة الرّفيعة وغيرها؛ ممّا يبيّن حقيقة الإسلام، وأنّه أمانة لا غير. إن ّ الأمانة تتحقق أو تتجسّد في علاقة العبد بربّه ؛ بأداء ما عليه نحوه: من طاعته وشكر نعمه، والقيام بالواجبات الدّينية، والكفّ عمّا نهى عنه. وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، والأخذ بما أتى، والانتهاء عمّا نهى عنه. وتظهر في علاقة الإنسان بنفسه، حين يخلص إليها، ويصدقها النّصيحة والخير، ولا يعرّضها للسّوء والضّرر لنفسه ولغيره ولا يلقي بها إلى التّهلكة. وتبدو في علاقاته بغيره، وذلك بأداء الواجبات التي عليه نحوهم. وقد بيّن الحديث الآتي هذه العلاقات، أو هذه الأمانة :" اتّق الله حيثما كنت، واتبع الحسنة السيّئة تمحها، وخالق النّاس بخلق حسن." وبما أن الإسلام شامل لكل مناحي الحياة، فإن الأمانة تمتد إلى كل شيء في هَذا الوجود. فقيام الوالدين بواجباتهم الدّينية والدّنيوية نحو أبنائهم أمانة. وبرّ الأبناء آباءَهم أمانة. وأداء الأزواج الحقوق التي بينهم أمانة. تأدية حقوق الأقارب و الجيران و الشركاء والعشراء و الرفقاء أمانة. وحفظ حقوق الجلساء والأصدقاء وعدم إفشاء أسرارهم أمانة. لأنّه كما قيل : إن المجالس بالأمانة إلا ثلاث مجالس : مجالس سفك دم حرام، أو مسّ فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حقّه. فكم من خيانات تحدث، وأمانات تخدع؛ فتنشأ العداوات، وتخرب البيوت، وتقطع الأرحام، وتنتهك الحرمات، وتتعطّل المصالح؛ بسبب ما يحصل في المجالس من عدم الوفاء و الالتزام بخلق الوفاء، فتكثر الغيبة والنّميمة و القذف و الكذب وإفشاء الأسرار... ومن دلالات الأمانة منع المسلم جوارحه و حواسه من ارتكاب الحرام؛ لأنّها نعم أنعم الله بها عليه، وودائع استخلفه الله عليها، فاستعمالها في غير ما أمر المنعم خيانة له. إذن فالأمانة تشمل كلّ ميادين الحياة، وتتطلّبها كلّ مرافقها: الأسرة، الإدارة، الاقتصاد، التّربية، التّعليم، العلاقات الخاصّة والعامّة... فكما قيل " فالأمانة دعامة بناء الأمم، ومن أسس بناء المجتمعات، ودلالة الأمن والعدل"، "والأمين موضع ثقة النّاس واحترامهم، والخائن محطّ سخطهم وحقدهم."(يا أيّها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرّسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون)(الأنفال/ 27) أخي المؤمن، لا شكّ أنّ فهمت ووعيت جيّدًا أنّ الأمانة لا نعني سوى الإسلام، فإذا قصّرت في جانب منها، كنت مقصّرًا في جزء من رسالة الإسلام، فاحذر من إحباط عملك بسوء فهمك للأمانة، وكيفية أدائها.