ترك الأنبا يؤانس سكرتير البابا شنودة الدنيا كلها وراء ظهره، وذهب ليقضى أسبوع الآلام فى دير الأنبا بولا بالبحر الأحمر، وهو الدير الذى دخله فى 15 سبتمبر 1986.. وبدأ رهبنته به فى العام 1987، وظل به ثمانى سنوات حتى رسمه البابا شنودة أسقفا عاما فى 6 يونيو 1993، ثم اختاره بعد ذلك سكرتيرا خاصاً له، وكان هو أول سكرتير له. يحاول الرجل الأكثر إثارة للجدل فى الكنيسة المصرية الآن أن يبتعد عن الأجواء المشحونة هنا فى القاهرة، وهى أجواء تطارده بالشائعات والتهديدات – وصل بعضها إلى القتل من جماعة الأمة القبطية الجديدة – ولا يملك هو حيالها إلا أن ينكرها، وإن كان فى الغالب يصمت طلبا للراحة وابتعادا عن القلق. لم يخف الأنبا يؤانس رغبته المؤكدة فى الترشح لمنصب البطرك، وقد حصل حتى الآن على ثلاث تزكيات من ثلاثة أساقفة من المجمع المقدس، وتظل هناك ثلاث تزكيات أخرى من المفروض أن يحصل عليها، حتى ينطبق عليه شرط لائحة 57، التى ستجرى الانتخابات البابوية بناء عليها، وهى اللائحة التى تشترط حصول المرشح على تزكية من ستة أساقفة حتى يكون من حقه الترشح. الأنبا يؤانس أثار بعضا من الاستياء لدى قيادات الكنيسة، فقد اتفق الجميع على ألا يتحدث أحد فى أمر خلافة البابا شنودة، أو يسعى للحديث مع أحد من أجل الحصول على تزكيات إلا بعد مرور أربعين يوما على وفاة البابا. كان يؤانس قد أعلن أنه سيتقدم إلى اللجنة المسئولة عن الانتخابات البابوية عقب قداس الأربعين الذى سيقام للبابا شنودة، وهو ما يعنى أنه سيكون حصل على التزكيات واستوفى كل أوراقه المطلوبة. لم يكن هذا هو الاستياء الوحيد الذى أثاره الأنبا يؤانس لدى الأقباط، فقد أخذوا عليه أنه عندما استقبل اللواء حمدى بدين قائد الشرطة العسكرية الذى جاء إلى الكنيسة لتقديم واجب العزاء فى البابا، استقبله بابتسامة عريضة.. لم تكن تتناسب أبدا مع جلال موقف الحزن على البابا.. الذى لم يكن تم دفنه بعد. الأمر لم يتوقف عند الاستياء، بل طاردت الأنبا يؤانس حالة من الغضب الشديد بعد أن اعتبر محبو البابا شنودة ما قاله فى عزاء البابا إساءة بالغة للرجل، رغم أنه عندما تحدث كان باكيا دامعا متأثرا. الأنبا يؤانس كان قد قال إن البابا شنودة فى العشر ساعات الأخيرة من حياته تعرض لآلام حادة جدا، وأنه أمسك بيديه لمدة دقيقتين على غير عادته، فقد ظل البابا طوال فترة مرضه محتفظا بهيبته وقوة شخصيته ورهبته، لكن يبدو أنه تخلى عن كل ذلك فى الدقيقتين اللتين أمسك فيهما بيد يؤانس. سكرتير البابا قال ما هو أكثر، يحكى يؤانس: خلال اليومين الآخيرين فى حياة البابا أثناء فترات غفوته كنا نسمعه يتحدث مع شقيقه روفائيل ومع والده، وعندما يستيقظ كان يقول لنا إنه رأى شقيقه وتحدث معه، ولم نكن نستطيع أن نقول له إننا سمعنا وشاهدنا، وأحيانا كان يقول وهو على الفراش: مين الناس الكتير اللى قاعدين حواليا دول.. ولم يكن بالغرفة سوى شخصين أو اثنين من المقربين. كلام يؤانس فى العرف العام يعتبر عيبا وتجريحا فى البابا شنودة، ويمكن أن يصل إلى درجة الفضح لرجل أصبح فى ذمة الله، فما يحدث للإنسان فى ساعاته الأخيرة من قبيل العورة التى لا يجب أن يطلع عليها أحد، لكن يؤانس كشف عورات البابا الأخيرة ربما دون أن يشعر بأى حرج أو تأنيب ضمير، ومن يدرى فقد يكون فعل كل ما فعله بحسن نية. الأزمة الكبرى التى يواجهها الأنبا يؤانس الآن أن الشعب القبطى أو على الأقل من سيكون لهم حق انتخاب المرشحين لمنصب البطرك يدركون أنه أحد المشتاقين الكبار للمنصب، وأنه يعمل من أجل اقتناصه، ليس لأن هذا حلمه فقط، ولكن لأنه يحمله نبوءته أيضا. فى العام 2009 اشتعلت النار فى وجه الأنبا بيشوى، عندما تم الكشف عما قيل إنها مذكرات دونها بخطه، وهى المذكرات التى قيل إن بها أربع جمل محددة، الأولى أن والدته حلمت بأن ابنها سوف يصبح بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، والثانية أن راهبًا يدعى فانوس بأحد أديرة البحر الأحمر تنبأ له بأنه البابا القادم، والثالثة أن أحد الآباء الكهنة بدير القديس سمعان الخراز بالمقطم تنبأ له بأنه سيتولى الكرسى البابوى، والرابعة أن فتاة بإحدى كنائس الولاياتالمتحدةالأمريكية تنبأت له بخلافة البابا شنودة.فى المذكرات المنسوبة للأنبا يؤانس أنه أكد أن هذه النبوءة سوف تتحقق فى 22 أغسطس 2009، لكنها خابت تماما، ووقتها تردد أن الأنبا أرميا سكرتير البابا شنودة أيضا كان وراء كشف هذه المذكرات، وأن سكرتيرة الأنبا أرميا هى التى قادت إلى كسر غرفة الأنبا يؤانس وإخراج المذكرات منها، ولم يكن غريبا بعد ذلك أن نعرف أن سكرتيرة الأنبا أرميا هذه هى ماريان ملاك التى تم تعيينها فى مجلس الشعب الأخير ضمن الأعضاء العشرة المعينين. استطاع الأنبا يؤانس أن يخرج من الأزمة التى لاحقته بسهولة، فقد كانت حظوته عند البابا شنودة بلا حدود، وقد كان مخزيا لخصوم يؤانس أنه وبعد هذه الأزمة كان يقف إلى جوار البابا شنودة وهو فى زيارته نصف الشهرية إلى الإسكندرية، وإذا به يمسك بيد سكرتيره الخاص، ويقول: الأنبا يؤانس ده حبيبى.. وكأنه أراد بذلك أن يغلق كل الأبواب أمام كل من يريدون الدس بينهما. لا يخشى الأنبا يؤانس أحدا ممن يمكن أن ينافسوه على منصب البابا إلا الأنبا بيشوى سكرتير المجمع المقدس والرجل الحديدى فى الكنيسة، والذى كان مقربا من البابا إلى الدرجة التى كان يعتبره البعض أنه مخزن أسرار البطرك. الأنبا يؤانس ليست لديه مشكلة على الإطلاق فى أن يحصل على التزكيات الثلاث الباقية، فيمكنه أن يحصل على أكثر من 50 تزكية، فالأساقفة الكبار أصدقاؤه ومقربون منه بشدة، وليس خافيا على أحد أنه حصل على تزكية من الأنبا مرقص أسقف شبرا الخيمة والأنبا كيرلس أسقف قنا. الأساقفة الكبار لا يراهن عليهم الأنبا بيشوى كثيرا، فهم على نفس الدرجة من الأهمية والدور فى الكنيسة، ورغم تواصله معهم إلا أنهم سيكونون أكثر ميلاً إلى الأنبا يؤانس الذى هو عمرا وخبرة ودورا بعيد عن مساحتهم وتطلعاتهم، ثم إنه جيل مختلف يمكن أن يسلم له الجيل القديم فى الكنيسة، وهذا أهون من أن يسلموا لأحد من جيلهم. لكن الأزمة الأكبر التى يمكن أن تعصف بالكنيسة هى محاولة رجال الأعمال الكبار السيطرة على انتخابات البابا وقيادتها إلى الوجهة التى يريدونها، وهنا يظهر تحديدا اسم رجل الأعمال ثروت باسيلى. باسيلى عقد عدة اجتماعات الأسابيع الماضية مع بعض القيادات الكنسية للتنسيق فيما بينهم لدعم الأنبا يؤانس، والأمر ليس وليد اليوم بالمناسبة، فهناك صراع خفى بين الأنبا يؤانس والأنبا بيشوى الرقم الصعب فيه هو ثروت باسيلى. أذكر أنه عندما صرح زغلول النجار بأن الكنيسة قتلت وفاء قسطنطين، واقترحت أن تظهرها الكنيسة على واحدة من قنواتها الكثيرة، وعرفت أنه كان هناك اقتراح بأن تظهر على قناة «سى تى فى» التى يملكها ثروت باسيلى، وقتها كان الأنبا بيشوى هو الذى يتولى ملف وفاء أو أنه تعهد من تلقاء نفسه بأن يظهرها، وكان البابا وقتها غائبا فى إحدى رحلات علاجه فى أمريكا. لكن الأنبا بيشوى رفض تماما أن تظهر وفاء على قناة السى تى فى وقال إنه لا يريد أن تظهر على قناة ثروت باسيلى صديق الأنبا يؤانس حتى لا بنسب الفضل كله إلى الأنبا يؤانس. الأنبا بيشوى اكتفى بأن أبدى استعداده أنه سيرشح نفسه، ثم التزم الصمت بعد ذلك احتراما لما اتفق عليه الأقباط عرفيا من أنه لا حديث عن خلافة البابا إلا بعد الأربعين، ولا يحاول الأنبا بيشوى أن يستفز أحدا.. بل إنه عازف تماما عن الكلام، حتى لا يؤخذ عليه ما يمكن أن يؤثر على صورته فى الانتخابات البابوية. لكن صمته هذا لم يمنع من أن تخرج بعض التهديدات له، وكذلك بعض الحملات المعارضة والمعترضة على ترشيحه لنفسه من الأساس، لكن المقربين من الرجل الحديدى أكدوا لى أنه لن يلتفت إلى أى تهديدات وأنه ماض فى طريقه. التهديدات التى تعترض طريق الأنبا بيشوى لا تقاس بما يتعرض له الأنبا يؤانس الذى يتعرض لأكبر حملة تشويه فى تاريخ الكنيسة، وصلت إلى حد اتهام الدكتورة نبيلة ميخائيل له بأنه قتل البابا شنودة مع سبق الإصرار والترصد، من خلال إعطائه جرعات علاج كبيرة وغير مناسبة لحالته، ولأن الاتهام عبثى إلى حد كبير فقد تجاهلته الكنيسة ولم تفكر حتى فى الرد عليه. لكن الشائعة الأكبر التى تواجه الأنبا يؤانس الآن هى أنه يخضع للتحقيق بسبب مخالفات مالية كان قد وقع فيها منذ سنوات، ولأن البابا لم يكن يصدق فيه شىء فقد امتنع الرجل عن التحقيق طويلا، لكن الآن لا أحد يحميه وهو ما جعله يخضع للتحقيق، وإن كان يتم بشكل سرى. مصادر من داخل الكنيسة أشارت إلى أن ما يقال عن التحقيق مع الأنبا يؤانس أمر مختلق، فلا شىء يتم فى الكنيسة الآن.. الأمور كلها متوقفة تكاد تصل إلى حد التجمد حتى قداس أربعين البابا، وبعدها لا أحد يعرف كيف سيبدأ الصراع فى الكنيسة ولا متى سينتهى؟