يثور التساؤل الحائر: لماذا فقدت الصلاة قدرتها على بث الراحة والسلام بين جنبات نفوسنا المكدودة؟. وكيف يمكننا أن نستعيد الطاقة الكامنة فى العبادات المختلفة بحيث تؤدى دورها فى بعث الراحة والسكينة والسلام النفسى بداخلنا؟ قد يثور البعض محتجا بأن علينا أن نؤدى العبادات المختلفة طاعة لله بدون النظر للفائدة المتحققة منها، ولكننى أحسب أن العبادات ما شرعت إلا لتضبط إيقاع حياتنا ولتضمن التوازن السوى بين جنبات نفوسنا وتملأها بالراحة والسكينة والأمان، وذلك من خلال التواصل مع خالقنا وبارئنا والقوة المسيطرة على هذا الكون بما فيه ومن فيه (ألا بذكر الله تطمئن القلوب). فنحن مأمورون بأن نؤدى العبادات المختلفة على الوجه الأكمل، ونحن مأمورون بأن نتدبر ونتفكر حتى نعيد للعبادات المختلفة وظيفتها المفقودة. الضغوط العصبية.. تعريف.. أنواع وآثار وقد يكون من المفيد - قبل أن نغوص فى بحار العبادات المختلفة باحثين عن جوهرها ودررها - أن نتعرف على الضغوط العصبية.. معناها، أنواعها، وتأثيراتها، فإيقاع الحياة المتسارع يضعنا دوما تحت عجلة الضغوط المزمنة، وهذه الضغوط تؤثر تقريبا على كل مكونات الإنسان، ويضاعف من خطورة هذه الضغوط المزمنة أن تأثيراتها تسلل فى الخفاء وتفعل فعلها بصورة تدريجية وغير ملحوظة بحيث لا يدرك الإنسان حجم ما أصابه من خسائر إلا فى المراحل المتأخرة. تحدث الضغوط تأثيراتها على جسم الإنسان من خلال متلازمة الإستجابة العامة للضغوط (General stress response syndrome) فمن خلال إستجابة العراك والفرار (Fight and flight response) يعيد الجسم نفسه لمواجهة الخطر أو الهروب منه بإفراز هرمونات الأدرينالين والكورتيزول، والتى تزيد من طاقة الجسم، وهذه الإستجابة تعتبر ملائمة جدا للضغوط الوقتية قصيرة الأمد حيث تؤدى إلى حماية الجسم من الأخطار التى تحدق به، ولكن الخطورة تكمن فى إستمرار الضغوط مما يؤدى لتراكم هذه الهرمونات التى لا تجد لها أى منفذ محدثة إنفجارا داخليا للطاقة وإختلاطا بين طاقة العقل وطاقة الجسد مما يحدث تشوشا وإرتباكا شديد الخطورة، وتزداد الخطورة إذا شعر الإنسان بأنه لا يملك قرار المفاضلة بين المواجهة أو الهروب وبأنه مجبر على أى من الخيارين. ويمكن تقسيم مراحل استجابة الجسم عند التعرض للضغوط المختلفة إلى ثلاث مراحل وهى: 1. مرحلة الإنذار، وفيها يزداد معدل إفراز الهرمونات سالفة الذكر. 2. مرحلة المقاومة، وفيها يحدث نفاد للطاقة المتولدة فى مرحلة الإنذار. 3. مرحلة التهالك والإجهاد، التى يمكن إعتبارها نتاجا للضغوط المستمرة، مما يؤدى إلى إرتفاع ضغط الدم وأمراض القلب وغير ذلك من الأمراض والمشاكل التى تنتج عن التعرض المستمر للضغوط. كما يمكن تقسيم الضغوط المختلفة بحسب مصادرها إلى: ضغوط داخلية (وهى الضغوط الناتجة عن سمات الإنسان الشخصية) وضغوط خارجية (نتاج عوامل خارجية). وأيضا يمكن تقسيمها بحسب إستجابة الإنسان لها إلى: ضغوط بناءة (تدفع لمزيد من العمل والإنجاز) وضغوط هدامة ومعوقة وبحسب فترة التعرض يمكننا تقسيم الضغوط إلى: ضغوط وقتية متقطعة وضغوط مستمرة مزمنة. وللضغوط آثارها الجسدية والعقلية والنفسية، وقائمة التأثيرات طويلة ممتدة ويصعب حصرها. فالآثار الجسدية تنتج عن تأثر كافة أجهزة الجسم وينتج عنها امراض القلب وقرح المعدة والقولون العصبى، بالإضافة لزيادة نسبة حدوث داء السكرى ومضاعفاته، كما تتأثر الخصوبة، ويتأثر جهاز المناعة محدثا ضعفا عاما فى مناعة الجسم وزيادة فى معدل حدوث السرطانات المختلفة. والتأثيرات النفسية تشمل فيما تشمل الوسواس والفوبيا والإكتئاب وإضطرابات النوم المختلفة، بينما تقع إضرابات الذاكرة تحت الإختلال فى الوظائف العقلية. كيف نتعامل مع الضغوط؟ يوميات إنسان معاصر: قد لا نستطيع فى هذه العجالة أن نوضح كل الآثار السلبية لبقاء الإنسان فترات طويلة تحت ضغوط مستمرة، ولكننا على الأقل نستطيع دق ناقوس الخطر محذرين من آثار هذه الضغوط على صحة الإنسان الجسدية والنفسية والعقلية، ومطالبين بالبحث الدءوب عن حل لهذه المشكلة التى تتفاقم كل يوم. وبما أنه قد يكون من المستحيل تغيير نمط وإيقاع الحياة المتسارع للغالبية العظمى ممن يعيشون فى مجتمعاتنا الآن، ومع التسليم بفشل الطب الرسمى بعقاقيره وكيماوياته فى التعامل مع هذه المعضلة، فقد إتجه العلم للبحث عن سبل جديدة للوقاية والتخفيف من الآثار المدمرة للضغوط المزمنة مثل تدريبات الإسترخاء والتأمل والتخيل واليوجا وفلسفتها، وخضعت هذه الطرق المختلفة للبحث العلمى المنضبط لتحديد مدى فاعليتها وطريقة عملها. والأبحاث المختلفة أكدت مدى فعالية هذه الوسائل فى التقليل من هذه الضغوط وفى علاج آثارها المختلفة، وبالتالى أصبحت هذه الوسائل المختلفة تدرج فى البرامج التى تستخدم للوقاية من الضغوط أو فى علاج آثارها السلبية على جسم الإنسان، والنظرة المتأملة تكشف عن تواجد هذه الوسائل بوفرة فى عباداتنا المختلفة إذا أحسنا الفهم والأداء.. فهل يمكن أن يكون الحل فى أن يجد كل منا لنفسه واحة يصنعها لنفسه ويفر إليها من هجير صحراء الحياة؟ ويثور التساؤل: ما هى هذه الواحات التى يمكننا أن نقترحها نتيجة فهمنا لوسائل علاج الضغوط المستخدمة فى الغرب؟ وما هى الآليات التى تفعل بها فعلها السحرى فى تخفيف الضغوط؟ - واحة الإيمان: من الملاحظ أن تأثيرات نفس الضغوط تختلف بإختلاف الأشخاص الذين يتعرضون لهذه الضغوط، ومن هنا يمكننا أن نستنتج أن تأثيرات الضغوط لا تعتمد على حجمها ونوعيتها بقدر ما تعتمد على إستقبال الإنسان لحجم التهديد، أى أن الإستجابة للضغوط لا يصنعها المثير ولكن تصنعها الطريقة التى تم بها إستقبال هذه الضغوط، فتفاعلنا مع الضغوط ينشط بناء على إستجابتنا العصبية وبناء على إدراكنا لحجم التهديد مقارنة بنظرتنا نحن للعالم من حولنا ومقارنة بإدركنا لحجم تحكمنا نحن فى الظروف المحيطة بنا، ولقد أثبتت الدراسات إنخفاض مستوى الضغوط ومستوى الإستجابة لها عند من يشعرون بقدر أكبر من القدرة على التحكم فى الظروف المحيطة بهم. إذا كان العلماء والدارسون يعتبرون أن فلسفة اليوجا ونظرتها للعالم تعتبر من أهم المحاور التى تعطى لليوجا قيمتها وفاعليتها فى التعامل مع الضغوط بما تتيحه من إعادة إكتشاف الإنسان لذاته ومعناه الإنسانى وبما تمنحه له من شعور بالقوة العميقة والتحكم، فهل نعيد نحن إكتشاف فلسفة الإسلام التى تعطى للإنسان قيمته وقدرته المستمدة من كونه نفخة من روح الله؟! - واحة الإسترخاء والتأمل والتفكر: حين يركز الإنسان تفكيره على فكرة أو شىء ما من أجل إكتساب القدرة على المزيد من التحكم فى القدرات العقلية، فإن التأمل بهذه الصورة يوفر للإنسان طاقته الجسدية والعقلية، ولقد درس هربرت بنسون فى سبعينات القرن الماضى الإستجابة الفسيولوجية للتأمل ووجد أنه تحدث إستجابة عكسية لإستجابة العراك والفرار أو ما يعرف ب (Relaxation response) وفيه يحدث إنخفاض فى معدلات ضربات القلب والتنفس وإحتراق الأكسجين وتوتر العضلات، وتأثير التأمل فى تخفيض هذه العمليات الحيوية يفوق تأثير النوم، حيث تعطى (4-5) ساعات من النوم إنخفاضا بمقدار(8%) فى معدل حرق الأكسجين بينما يعطى التأمل إنخفاضا بمقدار (10-17%) فى غضون دقائق قليلة. ولقد أثبت د. دين أورنيس فى ثمانينات القرن الماضى فائدة هذه التدريبات فى علاج مرضى القلب، حيث حدث عند من يمارسون التأمل منهم إنخفاض ملحوظ فى دهون الدم الضارة (LDL والكولسترول) كما حدث تراجع فى التغيرات الحادثة فى الشرايين التاجية، وحدث إنخفاض فى معدل ضغط الدم والمقاومة الطرفية الكلية (Total peripheral resistance). كما أثبتت الدراسات إنخفاضا ملحوظا فى مستوى مؤكسدات الدهون (Oxygen free radicals) عند من يواظبون على التأمل وهذا يعنى إنخفاضا فى نسبة التلفيات الحادثة فى الأنسجة نتيجة لعمليات الأكسدة الضارة والتى تحدث عبر سنوات العمر. وفى دراسة أجراها بنسون أثبتت أن التأمل يكون أكثر فاعلية فى من يمارسونه كإستجابة لمعتقداتهم الدينية. - واحة الذكر: يمكن أن يتم التأمل بالتركيز والتفكر فى شىء من مخلوقات الله (وردة أو شجرة مثلا)، والطريقة الأخرى للتأمل تتم بالتركيز على كلمة واحدة أو عدة كلمات (الله، أو لا إله إلا الله، أو غيرها من الكلمات) وترديدها فى صمت بعمق وتدبر وتركيز مع طرد صور الأفكار السيئة من العقل، وهذه الوسيلة تحدث نفس التأثيرات الفسيولوجية التى يحدثها النوع الأول، كما أنها تضيف بعدا آخر حيث يشعر المتأمل أو الذاكر أنه فى معية الله والمدبر. - واحة التخيل: تعتبر من أقوى وسائل تقليل الضغوط، وتزداد الفائدة منه لو إقترن إستخدامه بتمرينات الإسترخاء، وعلى الإنسان - أثناء ممارسة هذه التدريبات - أن يتخيل تواجده فى مكان يبعث فى نفسه الراحة والسكينة. - واحة الصلاة: هذه هى الواحة الجامعة.. ففيها كل ما سبق، فيها التأمل، وفيها الذكر، وفيها يمكن أن يتخيل الإنسان تواجده بجنة عرضها السماوات والأرض، وفى الصلاة يشعر الإنسان بتمام التحكم فى الكون والبيئة من حوله. وفيلسوف الهند غاندى إعتبر الصلاة مفتاح الصباح ومزلاج المساء، فهى علامة الأمل للإنسان، وهى تعنى أن هناك قوة أعظم وأكثر حكمة هى التى ترشدنا فى حياتنا، فلا سلام بدون منحة أو عطية من الله، ولا توجد منحة من الله بدون صلاة. والدراسات العلمية المختلفة أثبتت أن الصلوات تؤدى دورها بالفعل، حيث لوحظ أن نسبة حدوث المضاعفات. والوفيات فى المرضى الذين يتعرضون لعمليات القلب المفتوح تقل بنسبة (12%) فى المرضى المتدينين، كما لوحظ فيهم أيضا إنخفاض معدلات حدوث الإكتئاب المرضى المصاحب لدخول المستشفى. وللصلاة نفس التأثير - الذى يحدثه التأمل - على المصابين بأمراض القلب .