«كم ذا بمصر من المضحكات، ولكنه ضحك كالبكاء».. هكذا قال عم الشعراء أبو الطيب المتنبى عن "المحروسة" بلدنا منذ حوالى ألف عام. ولا أعلم ما الذى كان يمكن أن يقوله لو عاش فى عصرنا. هل تصدق أن قانون التظاهر صدر فى مصر عام 2013 بعد أكبر مظاهرة عرفها تاريخ البشرية فى 30 يونيو من العام نفسه، والتى أطاحت بأكبر عصابة حاكمة عرفها الإنسان!
هل تصدق أن قادة المظاهرات التى أدت إلى الإطاحة بنظام الإخوان المسلمين فى مصر 2013 قد سجنوا بعد سقوط نظام الإخوان بأسابيع بتهمة الانتماء إلى الإخوان!
هل تصدق أن شرطة البلد الذى اعترف بثورة يناير 2011 فى اثنين متعاقبين من دساتيره وفى مناهجه التعليمية ووسائل إعلامه ومحطات مترو الأنفاق التى تشق شوارعه لم تعترف بالثورة رغم مرور أكثر من ثلاث سنوات عليها، حيث يتعمد رجال شرطتها السخرية من الثورة وسبها وسب شبابها كلما اعتقلوا واحدا منهم.
هذه المفارقات المضحكة المبكية آن لها أن تزول، بعد أن فتحت مصر صفحة جديدة فى تاريخها وأصبح لها دستور يتكلم باسم الثورة ورئيس منتخب يحظى بشعبية جارفة وحب لا مثيل له يبدأ أول خطاب له كرئيس متحدثا عن ثورة يناير المجيدة.
فى اليوم نفسه صباحا خطب المستشار ماهر سامى رئيس المحكمة الدستورية فى حفل قسم اليمين متحدثا باسم ثورة يناير، وبعدها بقليل قام الرئيسان السابق والجديد بتوقيع وثيقة تسليم للسلطة بدأت: "بسم الشعب.. صاحب السيادة.. ومصدر السلطات.. ومفجر الثورة .. ثورة 25 يناير 2011.. وما حملته من آمال وطموحات وتطلعات، وثورة 30 يونيو 2013 المكملة، التى صوّبت المسار واستعادت الوطن». كيف يقبع، إذن، ثوار 25 يناير و30 يونيو خلف الأسوار؟ حتى لو كان بعضهم لديه آراء ووجهات مختلفة مع السلطة، وحتى لو تجاوز بعضهم ما يعتبره البعض الآخر حدود اللياقة والأدب؟
فى الأول والآخر، فإن أحدا من هؤلاء لم يحمل سلاحا ولم يطلق خرطوشا أو شمروخا أو حتى طوبة على ضابط أو جندى. كل تهمتهم أنهم اعترضوا على قانون التظاهر الذى يجرم وسيلتهم الرئيسية وربما الوحيدة فى التعبير.
1
لماذا نحتاج إلى مزيد من الأعداء؟
- منذ الثالث من يونيو 2013 وحتى الخامس عشر من مايو 2014 تقول الإحصائيات إن هناك ما يزيد على واحد وأربعين ألفا تم القبض عليهم فى قضايا «سياسية»، وكلمة سياسية هنا غير دقيقة لأن هذه القضايا تشمل عمليات الإرهاب والقتل والاعتداء والتخريب التى قام بها البعض ممن ينتمون إلى الإخوان وأنصارهم.
وسواء كان هذا الرقم صحيحا أو مبالغا فيه فإن الرقم الذى لا يمكن التشكيك فيه هو أن هناك أكثر من ألف معتقل من هؤلاء لا علاقة لهم بالإخوان وأن هناك عددا آخر من المعتقلين الإخوان وأنصارهم لم يرتكبوا أى عنف.
الفئة الثانية تحتاج إلى إعادة نظر فى ملفات كل منهم على حدة ومن لا تثبت عليه تهمة ارتكاب العنف يجب أن ينظر إليه بعين مختلفة، وأن يمنح فرصة أخرى فى الحياة الطبيعية بدلا من أن يتحول فعلا إلى إرهابى بين جدران السجن.
الفئة الأولى قبض على معظمهم بعد صدور قانون التظاهر فى نوفمبر الماضى، وأغلبهم ينتمى لتيارات لا علاقة لها بالإخوان مثل "6 إبريل الجبهة الديمقراطية" و"حركة كفاية" و"حركة الحسينى أبو ضيف" و"حركة جابر جيكا"، ومنهم فرسان اعتقلوا فى عهد مبارك ثم فى عهد مرسى ومن العار أن يظلوا محبوسين فى عهد الثورتين على مبارك ومرسى، ومنهم أحمد دومة وحسن مصطفى وعلاء عبد الفتاح، وبعضهم فتيات بريئات مثل المحامية الشابة ماهينور المصرى كل تهمتها أنها نزلت فى مظاهرة ضد قانون التظاهر.. وهو قانون مشبوه يرى كثير من رجال القانون أنه غير دستورى، ويطلعون على الفضائيات ليقولوا رأيهم فى القانون، فهل نقبض عليهم أيضا؟
بعض المقبوض عليهم ينتمى لحركة «الحسينى أبو ضيف» الذى قتل على بعد أمتار من بوابات الاتحادية دفاعا عن الحرية، فهل نعاقبهم على تمسكهم بمبادئ الشهيد الذى قام الرئيس بدعوة أخيه لحضور حفل مراسم تنصيبه؟!
الأخطر من ذلك: هل نسمح للثعالب من كارهى وأعداء ثورة يناير، ومن الذين اندسوا فى 30 يونيو ظنا منهم أن القضاء على الإخوان يعنى القضاء على ثورة يناير.. هؤلاء الواهمون بأن الزمن يمكن أن يعود إلى الوراء، هل نسمح لهم بالشماتة وباستغلال اعتقال هؤلاء الشباب لدق الأسافين بين الدولة والثورة؟
الأخطر من ذلك: هل تدرك الدولة أن المرحلة الجديدة تحتاج إلى لم الشمل وتوحيد الصفوف ضد أعدائها الرئيسيين، الإخوان ومن يحركهم خارج مصر، وأنها لا تحتاج لأعداء جدد يحاول الإخوان ومن يحركهم أن يستميلوهم لصفوفهم لتشكيل «جبهة إنقاذ» أخرى مثل التى أطاحت بهم.
هل تدرك الدولة أنها تحتاج إلى جهود هؤلاء الشباب الوطنى الشجاع، حتى لو اختلفنا فى تقدير وتقييم بعض آرائهم وسلوكياتهم المندفعة أحيانا، من أجل بناء وطن متماسك وحياة سياسية صحية نقية الهواء تخلو من الاتهامات المتبادلة بالخيانة والعمالة وغيرها؟
هل تدرك الدولة أنها تحتاج إلى شباب الثورة لتكوين أحزاب مدنية جديدة تواجه السلفيين وفلول الإخوانجية فى الانتخابات البرلمانية القادمة، حتى لا تتكرر كارثة المقاطعة وإبطال الأصوات التى حدثت فى الانتخابات السابقة؟
هل نتعلم من الدرس الذى لم يفهمه الإخوان، ونعلم أن قيادة البلاد تحتاج إلى كسب الحلفاء والأصدقاء عوضا عن صناعة الأعداء؟
هل نتجاهل ذلك كله وتأخذنا العزة بالإثم وندفن رأسنا فى الرمال كما فعل مبارك والإخوان؟
2
سيادة المستشار عدلى منصور: رجاء التنحى!
سيقول قائل، ينتمى غالبا إلى فئة الثعالب سالفة الذكر: هناك قانون يجب أن يحترم، وقضاء لا ينبغى التدخل فى أحكامه، وخارجون على القانون معظمهم عملاء وخونة.. إلى آخره.
ونقول ردا على هؤلاء: القانون على العين والراس، ولكن القوانين صنعت لخدمة الإنسان ولم يخلق الانسان لخدمة القانون. والقوانين التى تتعارض مع المصالح العليا للوطن ومع حقوق الإنسان ينبغى أن نعمل على تغييرها أو تعديلها.
ثم إن قانون التظاهر مثير للجدل والخلاف منذ صدوره، وكثير من أهل القانون يعارضونه، وهو يتعارض مع مواد الدستور الجديد الذى يكفل حق التظاهر والتعبير السلمى عن الرأى بكل أشكاله.
.. ثم إن هناك شيئًا اسمه العفو السياسى فى كل البلاد، ومن حق رئيس الجمهورية أن يعفو عن هؤلاء المعتقلين والمتهمين، بالطبع بعد مراجعة ملفاتهم والقضايا المتهمين فيها بالتفصيل.
المطلوب إذن أن يعلن السيد الرئيس عن فتح صفحة جديدة مع أبناء الوطن، وأن يترك لأهل القانون المعترضين على قانون التظاهر أن يتقدموا للمحكمة الدستورية بطلب لإعادة النظر فيه، ونرجو من المستشار الجليل عدلى منصور الذى يتولى الآن منصب رئيس المحكمة الدستورية العليا أن يتنحى عن حضور هذه الجلسات لأنه طرف فى النزاع بما أنه الذى أصدر القانون فى ظروف استثنائية كان فيها الوطن معرضا للخطر، وهى ظروف تغيرت الآن، والوطن على وشك التعافى.
3
تسريب السيسى: نحن الأقوى!
فى كلمة من التى كان يقوم جهلة الإخوانجية ب "تسريبها" للمشير السيسى تحت عنوان " السيسى ينتقد ثورة يناير فى تسريب حصري"، عبارة عن مقطع صوتى من جلسة مصغرة بين قائد الجيش السابق وبعض ضباطه، ليس هناك انتقاد ولا يحزنون لثورة يناير، بل حديث عن الآثار الجانبية التى أعقبت الثورة من انهيار الأمن وبعض مؤسسات الدولة والدور الذى لعبه الجيش فى منع الدولة من السقوط يقول فيه: " ( الجيش) لا يفكر أبدا فى أى إساءة وجهت ليه. أنا عايز أقولكم: فيه أقوى مننا؟ ومازال فيه أقوى مننا؟ لكن عمر القوة دى ماكانت هتستخدم ثأرا. ثأرا من حد، لا إعلام ولا داخلية ولا ده ولا ده أبدا. لإنك إنت زى الأخ الكبير قوى. الأب الكبير قوى اللى عنده ابن خيبان شوية مش واخد باله..يموته؟ ولا دايما يحاجى عليه ويقول أصبر عليه لحد ما يفهم؟!" هذا "التسريب" يحسب للرئيس الجديد لا ضده، وعلى العكس كل ما نتمناه أن يتذكره وأن يتمسك بما جاء فيه.. وأن يتعامل مع هؤلاء الشباب كأخ وأب وكحام للدستور الجديد الذى يكفل للمصريين حق التظاهر وحق التعبير. وغنى عن الذكر أيضا أننا لا نقصد أى شخص رفع السلاح أو استخدم العنف فى مواجهة السلطات أو غيره من المواطنين.
فلنلغ قانون التظاهر غير الدستورى، أو نقوم بتعديله ليتوافق مع بنود الدستور، ونلغ ما ترتب عليه من آثار، ونفتح صفحة جديدة مع إخوتنا فى الوطن والوطنية والثورة، الذين خاطروا بأرواحهم ودمائهم فى سبيل تخليص مصر من فساد مبارك وخيانة الإخوان.