فرح شما.. فتاة لم تكمل سنواتها العشرين بعد، من أصل فلسطينى، ولدت وتعيش فى الإمارات وتحمل الجنسية البرازيلية. فرح أصبحت حديث رواد ال«يوتيوب» والفيسبوك ومنتديات الثرثرة الاجتماعية خلال الأسابيع الأخيرة بفضل قصائدها المصورة التى تهجو فيها الكثير من سلبيات عالمنا العربى، من تجار الدين إلى الديكتاتورية وحتى ضياع فلسطين. فرح التى تدرس حاليا القانون والعلوم السياسية فى جامعة «السوربون» فى أبى ظبى، تقول عنها التقاريرالتليفزيونية والصحفية المنتشرة على الإنترنت أنها تكتب الشعر منذ كانت فى الرابعة عشرة من عمرها. فى البداية كانت تكتب بالإنجليزية، ولها بالفعل عدة قصائد مصورة بالإنجليزية من بينها قصيدة بعنوان «أنا لست فلسطينية» وأخرى بعنوان «ارتديت الحجاب». وبجانب العربية والإنجليزية لها قصائد بالفرنسية ومؤخرا بدأت فى استخدام البرتغالية بعد حصولها على الجنسية البرازيلية، وهو موضوع كان محورا لقصيدة كاملة تحمل عنوان «الجنسية». لفتت فرح الانتباه بقصائدها التى ألقتها منذ عامين فى ندوة للشعر فى «أبى ظبى»، ثم من خلال عدد من النشاطات الطلابية بالجامعة والمسابقات الشعرية، وذلك بفضل صغر سنها وثقافتها وجرأتها، وسرعان ما حققت مقاطع الفيديو التى ظهرت لها على «يوتيوب» رواجا ملحوظا، ومؤخرا حققت واحدة من قصائدها بعنوان «كيف أؤمن» أكثر من 200 ألف مشاهدة على موقع «يوتيوب».
تقول فرح شما فى القصيدة التى تلقيها أمام الكاميرا فى مكان عام داخل نفق غالبا يقع فى «أبى ظبى»:
« كيف أؤمن وقد جعلتم الإيمان أشبه بالكفر؟
ففرّقتم به البلاد ونشرتم به الفساد وقتلتم به العباد
وكل هذا باسم الدين والعبادة
يا من باسم الله يتّمتم الأولاد
يا من باسم الله سرقتم وكذبتم وهدمتم بيت من أشاد
لتعيشوا فى قصور أشيدت من طوب الظلم والاستعباد
فهل ستُجيبنا أيها المنادى؟
فقد سئمنا الكلام دون إفادة
سئمنا الشعر والغناء والإنشاد
سئمنا حركات الإصلاح والتطرف والحياد
سئمنا الرؤساء ومجالس الأمن والقيادة»
قصائد فرح، وخاصة «كيف أؤمن»، حظيت بالشعبية فى أوساط الشباب والمراهقين فى معظم البلاد العربية، وبالتحديد وسط شرائح معينة من الشباب من المتعلمين فى مدارس وجامعات أجنبية غالبا، متوسطى الثقافة، ممن يشعرون بإحباط من الأوضاع السياسية والاجتماعية، وهم امتداد لقطاعات من الجمهور طالما احتضنت شعراء مثل نزار قبانى ومظفر النواب وهشام الجخ وآمال بكرى وغيرهم من شعراء الهجاء السياسى.
لا أقصد هنا مقارنة فرح شما ببقية الأسماء أو أى من الأسماء السابقة بالآخرين على مستوى الموهبة أو التقييم الأدبى، والحقيقة أن ما يطلق عليه «قصائد» فرح شما هو مجرد نظم موسيقى لجمل عادية ليس فيها من روح الشعر شيء، ولكن الاهتمام الكبير الذى تلقاه هذه «القصائد» وعبارات المديح التى يكيلها لها بعض النقاد، ممن ينتمون لنفس السن والثقافة غالبا.
فى مقطع آخر من القصيدة المذكورة تقول فرح شما:
« سئمنا مَن تمسّك بالدين ومن ارتاد
سئمنا سئمنا وسنسأم بازدياد
فهل من قيمة للدستور تحت ظل الاستبداد؟
جلستُ مع نفسى فلم أجد نفسى
احتللت أنا أيضا
فى داخلى سجن سياسى، فى داخلى مستوطن، فى داخلى رجل يحمل سلاحاً
وآخر يبحث عن التخلف
فى داخلى امرأة نطقت بحرف سقط على آذان لا تسمع
فى داخلى طائرات وتفجيرات
فى داخلى مصلون يسجدون لله وفى جوفهم قلوب لا تخشع
فى داخلى بلاد عربية باتت تضر ولا تنفع
فكيف أؤمن وقد أصبح فى داخلى عدو لا يفزع؟»
وبغض النظر عن الأخطاء اللغوية فإن ما سبق لا ينتمى للشعر فى تعريفه المبدئى من قدرة الكلمات على توليد المعانى والمشاعر والإيحاءات، فالمعنى هنا مباشر وواضح لدرجة الفجاجة، إذا جردتها من القافية أو قمت بترجمتها للغة أخرى فسوف تتحول إلى مقال رأى لا أثر للشعر فيه.
ربما تنتمى أعمال فرح شما إلى فنون الأداء والتعبير الشفهى أكثر مما تنتمى للشعر، وربما كان هذا السبب فى مشاركتها لمجموعة تطلق على نفسها «شعر الأداء والكلمة المنطوقة»، ومجموعة شعرية طلابية تهدف إلى تشجيع أداء الكلمة المنطوقة فى الكليات والجامعات.
عموما لا يعنينا هنا تقييم الفتاة شعريا، ولكن كونها تعبر عن جيل من الشباب وتحمل صوت إحباطهم وشكواهم وأملهم فى عالم أفضل، وربما ببساطة أكثر فى عالم يمنحهم مزيدا من الامتيازات والفرص!
يعكس الاهتمام بفرح شما الحالة النفسية لكثير من الشباب، كما يعكس أيضا الاهتمام المتزايد، والملحوظ، بالقراءة والثقافة لدى هذه القطاعات من شباب «الإنترنت» والفيس بوك كما يطلق عليه.
وبغض النظر عن المضمون المحبط والمكتئب لقصائد فرح شما ورفاقها فإن المفرح هو يقظة الوعى والاهتمام بالسياسة والثقافة لدى هؤلاء الشباب.. وهو ما يمكن أن نراه بشكل عام فى التزايد المتنامى للصفحات والمنتديات الثقافية ومواقع تحميل الكتب ومواقع المعجبين بالأدباء والفلاسفة والكتاب العرب والأجانب.
فى مقطع آخر من قصيدتها كيف أؤمن تقول فرح شما:
«هجرنا العلم فهجرنا واتخذنا سبيل المرح والجهل
يا أمة اقرأ، ماذا قرأتم؟
فضّلتم كل شىء على العقل
طلبنا العلم فى الخارج وكذلك سيفعل أولادنا
فكيف أؤمن ما دمتُ أطمح بأن أعيش فى بلادٍ ليست بلادنا؟»
ومرة أخرى، بغض النظر عن التقييم النقدى للجمل السابقة، فإن المعنى الذى تعبر عنه واضح وهو يعكس ضجر هؤلاء الشباب من انتشار الجهل واللامبالاة وانخفاض معدلات القراءة بدرجة تجعل العالم العربى أقل بقعة فى العالم استهلاكا للكتب والصحف والورق عموما وأكثرها أمية وتخلفا!
المتابع لأعمال فرح شما يلاحظ انشغالها المستمر بموضوع التدين، سواء الظواهر الاجتماعية الدينية مثل الحجاب، وفرح نفسها كانت ترتدى الحجاب حتى وقت قصير مضى وهو ما تتحدث عنه فى قصيدتها المكتوبة بالإنجليزية، والتى تقول فيها ما معناه أن الحجاب ليس إلا مجرد زى لا يرتبط بأخلاق المرء أو درجة تدينه. كذلك تنشغل فرح شما بالظواهر السياسية الدينية مثل الجماعات التكفيرية، وصورة المسلمين والمسلمات فى الغرب، وهى موضوعات تشغل بال الشباب أكثر من غيرهم هذه الأيام، خاصة الذين يسافرون إلى الخارج أو تربطهم علاقات بأجانب سواء فى بلد كوزموبوليتانى – متعدد الجنسيات- مثل الإمارات. وهى مشغولة أيضا بالجماعات الدينية الساعية إلى السلطة باسم الدين والتى نجحت فى خداع واستقطاب أجيال ضاع معظمها فى مطاردة صورة مثالية لم يكن لها وجود أبدا لمجتمع «متدين» «أخلاقى» ورموز سياسية دينية سقطت تباعا خاصة عقب «الربيع العربى».
القضية الفلسطينية، أم القضايا العربية، هى محور لبعض أعمال فرح شما مثل قصيدتها «الجنسية»، ومع كونها فلسطينية الأصل ومهاجرة رسميا إلى البرازيل تروى تجربتها مع الهجرة فى القصيدة، كلها أمور تسهم فى زيادة مصداقيتها والتعاطف معها.. أضف إلى ذلك أن القصيدة تحمل فى باطنها حلم ملايين من الشباب العربى فى الهجرة، وسوف تفهم بسهولة سبب شعبية هذه الكلمات:
مرة أخيرة، بغض النظر عن المستوى الأدبى للكلمات، فهى تعبر عن صوت ملايين ممن يهاجرون أويسافرون خارج بلادهم العربية فيلقون الاحترام والترحيب والعدل، فيما يعاملون فى بلادهم المحتلة، أو غير المحتلة، كغرباء منبوذين. يسافرون إلى بلاد غريبة فلا يسألهم أحد عن دينهم أو عرقهم أو قبيلتهم، بينما يعانون فى أوطانهم من أخطار الطائفية والحروب الأهلية.
فرح شما، فوق ذلك كله، فتاة صغيرة جميلة، ومتحدثة لبقة، وهى صفات تزيد من التعاطف معها من الكبار الذين يرون فيها ابنتهم وممن فى عمرها الذين يرون أنفسهم فى كلماتها وصورتها، ولو أضفت إلى ذلك أن كثيراً من قصائدها مصورة بطريقة «الفيديو كليب» مثل نجوم الأغانى، وتبث على اليوتيوب مثل معظم أعمال الأجيال الصغيرة.. فلا عجب إذن أن يعتبرها الكثيرون شاعرة.. وشاعرة كبيرة وفريدة من نوعها أيضا!