متى يُصبح الصُراخ لُعبة الحمقى لابد أن يتدخل الحكماء لوقف الصراع.. وحين تتحول الآراء إلى حِراب تغتال كل الآراء السديدة يجب أن يتقدم حاملو الدروع لقصف العقول البليدة..وحين يستقوى أشباه الرجال بأسلحة الوهم تبقى الحقيقة دوما هى ذلك الشعاع البعيد الذى لا يراه سوى أصحاب السواعد القوية..فنحن فى مصر لم نبحث يوما عن أقدارنا لكنها ظلت تبحث عنا على مر التاريخ.. نحن لم نختر أبدا مصائرنا لكنها باتت تتربص بنا وتبحث عنا لتسوقنا. وكما قال الزعيم مصطفى كامل يوما "إن من يتسامح فى حقوق بلاده ولو مرة واحدة يبقى أبد الدهر مُزعزع العقيدة، سقيم الوجدان"..
فكل من جلسوا على عرش مصر من قبل كانوا حكاما ساقتهم الأقدار، أما من احتلوا عرش قلوب المصريين على مر التاريخ فكانوا زعماء..فالحُكام تمشى الشعوب وراءهم، أما الزعماء فيلتف الناس حولهم..والفرق شتان.
حين عُين خسرو باشا واليا على مصر، كان واليا ضعيفا وجشعا، فرض ضرائب باهظة على الشعب وقتل طموحهم فى حياة أفضل، فانقلبوا عليه وهاجموه فى قصره ليهرب إلى دمياط ويُسجن.. ويتم تعيين والٍ جديد أثار السخط العام هو الآخر.. وفى خضم معاناة البلاد من أزمتها الاقتصادية وحالة الهياج التى انتابت سكان مصر، انحاز محمد على قائد الجيش إلى إرادة الشعب فجاهر بالانضمام إلى العلماء والمشايخ ونزل بجنده إلى الشوارع واختلط بالأهالى الساخطين.. فاكتسب محمد على تعاطف الشعب وزعامة الشارع وبدأ الناس ينظرون إليه كرجل عادل يكره الظلم..هنا بدأ الباب العالى يشعر بالقلق تجاه شعبية محمد على، فتم تعيين خورشيد باشا حاكم الإسكندرية واليا على مصر، فما كان من خورشيد باشا إلا أنه استصدر قرارا بتعيين محمد على واليا على جدة للتخلص من سطوته العاطفية على شعب مصر! لكن العلماء والأعيان فى غمرة الغضب قاموا بعزل خورشيد باشا وطالبوا بتعيين محمد على واليا على مصر بإرادة شعبية.
لم تكن عملية صعود محمد على إلى السُلطة أمرا سهلا بل مرت داخل مسالك وعرة لكنها كانت بداية حقيقية لبناء دولة حديثة فى جميع المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية.
كان قصر محمد على عبارة عن مشتل تزدهر فيه براعم مصرية على أعلى مستوى لمعاونته، فهو لم يُعين مباشرة رجالا تابعين له فى كل مكان بل عين فى المراكز الرئيسية أفرادا يثق فى قدراتهم وكفاءتهم ويدينون له بالولاء..فكان قصره يعُج بالألبان الذين هم مواطنوه، بالإضافة إلى الأتراك والمسيحيين.. كل مجموعة مهيأة لعمل ما، فالأتراك للحرب والإدارة، والأقباط للشئون المالية، والأرمن للدبلوماسية، والفلاحون المصريون للزراعة والشئون الدينية.. كان القصر عبارة عن مجلس للوزراء يتغير فيه العاملون بإستمرار إما لعدم قدرتهم على تلبية مطالب الباشا وإما لتعيينهم فى مناصب أخرى فى أحد الأقاليم.. وبقى الإنجاز الأعظم لمحمد على هو خلق نظام جديد يعتمد على التجنيد الإجبارى للمصريين لخلق جيش وطنى مصرى حُر قادر على حماية حدود البلاد، وعلى الصعيد الدولى تجلت قوة محمد على بوضوح بفكرة جديدة هى مشروع القومية المصرية.
ولأن مفهوم الزعامة هو التاج الوحيد الذى يوضع على الرءوس بموافقة الشعب ومباركته.. فقد توج الشعب المصرى على مر تاريخه الطويل زعماء بأكاليل الزهور وقذف طغاة بأحجار الانتفاضة ولفظ أراجوزات تخفوا فى رداء الزعامة.
فكان سعد زغلول زعيما..وأصبح مصطفى كامل زعيما..وتوج عمر مكرم زعيما..ولايزال أحمد عرابى زعيما.. والحقيقة أنه لم يكن لأى من هؤلاء الزعماء برنامج انتخابى محدد.. ولم يجمع أى منهم 30 ألف توقيع للتربع على عرش قلوب المصريين.. ولم يكن من الضرورى أن يقدموا أوراق اعتماد رسمية ولا صحيفة فيش وتشبيه للحصول على وظيفة زعيم!.. لأنهم امتلكوا الجسارة والإقدام والوطنية شهادة ميلاد..
تعددت الأسماء فى السنوات الثلاث الماضية.. وتقدم الكثيرون إلى امتحان الزعامة فسقطوا عن جدارة.. ولم يبق منهم أى شىء ولا حتى الذكرى.
كان د.محمد البرادعى أيقونة الثورة ورمزاً احترمه الشباب..فكان مجرد نزوله الميدان كفيلا بأن يُلهب المشاعر ويملأ الشباب حماسة، تواصل معهم وأصبح جسرا بينهم وبين الحرية.. وحين دقت ساعة العمل الثورى وطالبه الشباب بالترشح للرئاسة ليصبح قبطان السفينة التى سوف تضم امالهم وأحلامهم معا..اختفى دكتور الطاقة الذرية..وتراجع الرجل الذى ترهلت أحلامه بحُكم الشيخوخة..فاكتشف الشباب أن همته لم تتسع لآمالهم وأن الخُطب الطويلة التى طالما جمعهم حولها فى بيته كانت مجرد إنشاء بكلمات لم تخرج عن كونها خُطبا حماسية.. ولأن الجسارة موقف، فالموقف أثبت أن الطاقة الذرية لا علاقة لها بالطاقة القيادية! وأن الثرثرة لا تخلق زعيما، وبأن فوز الفرسان فى المعارك يحتاج سيوفا وليس ميكروفونات.
وحين سنحت له الفرصة من جديد بأن يكون ضمن سفينة الوطن بعد عزل مُرسى، قفز والسفينة على وشك الإبحار خوفا من الغرق ورعبا من الدوامات التى قد تواجه السفينة فى عمق البحر...وهكذا فشل البرادعى.
وظهر عبد المنعم أبوالفتوح كفارس انسحب من تحت عباءة الإخوان المسلمين وقرر أن يتصدى لهم ويتبنى فكرا جديد بزعامته لحزب (مصر الطرية)! خرج يدعو لفكر وسطى معتدل، يحترم الفن ويرعى الأدب ويقف مواقف الفرسان فى القوافل الطبية لدعم غزة.. تبنته القنوات الفضائية ليؤكد احترامه لجماعة الإخوان على الرغم من تخليه عن أفكارهم تماما، ويتغنى بقدرته الخارقة على رئاسة مصر بقلب مُحب وعقل متفتح.. ثم فاز مُرسى ليسقط الإخوان وترجع ريما لعادتها القديمة! ويسقط القناع عن دكتور الجماعة أبوالفتوح ومُحاميها سليم العوا بالمثل..لتتحول السماحة إلى ماض وحب الوطن إلى سراب..فيجرى أبوالفتوح لينصب الشباك حتى تسقط الجماعة فى عبه بدلا من أن تسقط فى بلاعة الثورة!.. رفع قناع الطبيب الحالم ورئيس مصر الحنون إلى عبده مشتاق للجلوس على كرسى الإرشاد الذى طالما تمسح فيه ولفظه..وهكذا داس الشعب أبوالفتوح بأحذية الاحتقار..
وكان لأيمن نور يوما باع طويل مع دور الكومبارس الصامت فى فيلم الزعامة.. فكان صوتا مزيفا للحرية وقائداً من ورق لمجموعة من أتباع قضيته فى الترشح للرئاسة ضد مبارك وسجنه خلف أسوار القمع فى عهد نظام اتهمه نور باضطهاده طويلا..وخرج الرجل الكارتونى من السجن طامعا فى الكرسى من جديد، ومحاولا القفز من مركب مصر التى تغرق إلى مركب الإخوان التى تطفو ليقع فى المياه وتبتل ملابسه وتسقط عنه أسطورة الفارس الهُمام للأبد، فحين ظهر خنوعه وأصبح رقصه على كل الموائد ظاهرا للجميع، تخلى عنه مؤيدوه بعد أن تخلت عنه زوجته المُناضلة من قبل عندما أدار ظهره لها فى ظروف أصعب وأكثر حرجا!فمصر لم تكن أعز لديه من السيدة التى حملت اسمه عمرا طويلا.. وهكذا انتهى أيمن نور..
وابتُليت مصر بمحمد مرسى، دكتور ناسا الذى لم ير ناسا إلا فى سلسلة أفلام star war.. أراجوز جماعة الإخوان الذى جلس على عرش مصر (بتخشينة) لأن الكرسى لم يكن يوما على مقاسه!.. رجل غلبان بسيط أو بالأدق عبيط! وعدته عصابة الإخوان بفراش وثير وأكل وفير وسيارة فارهة وسفريات لبلاد تركب الأفيال، فى مقابل الصمت التام! فهم يأخذون القرار وهو يبصم عليه.. هم يتشاورون وهو نائم.. هم يخططون وهو يلعب الطاولة فى حديقة القصر!.وحين أطاح بهم الشعب، أصبح هو كبش الفداء، فهو لا يعلم أى شىء عن أى شىء!.
الرجل يتساءل فى محبسه: "هما مالهم فرحانين بالدستور كده ليه؟!"..لأن الرئيس الوهمى للبلاد لم يقرأ الدستور السابق الذى أقره بتوقيعه.. ويصرخ فى قفص الاتهام: "أنت مين قوللى، إنت عارف أنا فين؟!" فالرجل لا يعلم أين هو لأنه لايزال يعتقد أنه عائد إلى القصر أو هكذا قالوا له.. فتتوه منه الذاكرة وتعود فى القفص ليتصور أنه فى رحلة إلى ديزنى لاند، وأن والت ديزنى شخصيا فى شرف استقباله كرئيس شرعى لمراجيح مولد النبى! (وأهو بالمرة يعدى على ناسا)!..
هذا هو الرجل الذى جاء بالصندوق وكان لديه برنامج انتخابى مُتخم بالمشاريع..وخطة مائة يوم فولاذية ومشروع نهضة ابتكارى...وهكذا غاب مُرسى.
هذه رسالتى إلى كل من يخاف ترشح السيسى لحكم مصر، ورسالتى لكل من يطالبه ببرنامج إنتخابى.. ورسالتى لكل من يحاول تشويه صورة الجيش المصرى الذى حمى الوطن.. ورسالتى لكل من يخشى تحول الرئيس القادم إلى ديكتاتور.
أقول لهم جميعا.. تغير الوضع..وعرف الشعب حقوقه..وتقلصت صلاحيات الرئيس ومدة رئاسته فى دستور مُحترم..وسقطت كل الأقنعة واختار الشعب زعيمه.
وأقول لهم: إن الشعب المصرى حين آمن بزعمائه القدامى، آمن دون ضمانات، والتف حولهم دون شكوك.. ومن كان منكم يرى أن السيسى لا يصلح فليتقدم بمرشح يستحق ويطرح مبررا لترشحه.. فمصر أختارت خوض معركتها ضد الإرهاب وهى تعلم أنها قادرة شعبا وزعيما على تحقيق النصر.