يحكى لنا التاريخ عن أهل بيزنطة القديمة وكيف انشغلوا بالجدل فى قضية فارغة وهى «هل البيضة من الدجاجة أم الدجاجة من البيضة» وظلوا فى جدلهم حتى احتل الأعداء بلدهم أثينا، وأطلق اليونانيون على هذا الفكر «سفسطة» وقد انتشر ذلك فى النصف الثانى من القرن الخامس عشر قبل الميلاد، ونحن هنا فى مصر نعرف هذه الكلمة وربما نرددها فى حياتنا إذا احتدم النقاش ودار صراع دون وصول إلى حل، وربما لا يعرف الشباب معناها اللغوى- ولكنهم سمعوها بلا شك بل ربما كانت موضع تنكيت وربما تهريج بينهم- وللعلم.. يقول قاموس الوسيط إن السفسطة تعنى «الحكمة المموهة» وهى لفظ مُعرّب مركب من اليونانية من كلمتين «سوفيا» ومعناها الحكمة و«اسطس» ومعناها «المموه».. إذن هى الحكمة المموهة، وهذا التمويه - طبعاً- من أجل الخداع والمغالطة فى الكلام لكى تهزم خصمك لغرض ومرض فى نفسك، وفى النهاية يضيع الوقت وينشغل الناس عن المهم كما حدث فى بلدهم أثينا من قديم الزمان. والآن.. وبعد هذه المقدمة الطويلة التى رأيت لزومها حتى نفيق من حوارات وجدل يأخذنا بعيداً عن الأهم من الأمور.. وعلى سبيل المثال راقبوا معى الحوارات الدائرة الآن حول مشروع قانون تنظيم التظاهر، وهل يقضى على الحريات وينتقص من أهداف ثورتى يناير ويونيو؟! وهل يطيح بآمال الشباب فى إظهار رأيهم واعتراضاتهم على ما قد يرونه غير سليم مثلاً؟.. آراء هنا تتهم الإخوان بتصدير مشروع مزور عن المشروع المقدم إلى رئيس الجمهورية للتصديق أو عن المشروع الذى قدم إلى المجلس القومى لحقوق الإنسان، ثم آراء هناك عن مناقشات احتدت فى مجلس الوزراء حتى دفعت أحد الوزراء بالتهديد بالاستقالة بسبب هذا المشروع، وبعدها نعود لنسمع تكذيباً على لسان هذا الوزير وكيف أن هذا الخلاف أو الاحتدام لم يكن أو لم يحدث بينه وبين وزير الداخلية، وهكذا تسير الأمور.. نسمع ونسمع وكلاماً يذهب ويجىء، وللحق نحن لا نختلف حول أهمية مناقشة هذا المشروع بقانون لتنظيم التظاهر ولكن دعونا نتفق على أن الوقت فى وطننا أصبح أغلى من الذهب، ويجب أن نكون أكثر تحديداً وإيجابية وإسراعاً- دون سلق للمواضيع طبعاً- فى الانجاز وإلا سقطنا فى دائرة السفسطة التى ربما تطمس الحقائق بالتلاعب بمعانى الألفاظ فى مناقشات تذهب بنا إلى ما لا نحب ونرضى بعد ثورتين دفعت فيهما مصر ثمناً غالياً ولم يعد أمامنا إلا الرجاء بأن تأتينا الثمار ونحقق الاستقرار والديمقراطية التى نحلم بها، والتى تستحقها مصر كما يقول ماضينا العظيم، وحاضرنا الذى استيقظت فيه كل جينات وعوامل الوراثة من الأجداد العظماء المصريين، والذى تحكى عنه الدنيا كلها بل وتعرفه الدنيا كلها ربما أكثر ما نعرفه نحن أو نقدره نحن.. فلماذا هذه السفسطة التى باتت تهدد وصولنا الى بر الأمان، وليس مثال مناقشة مشروع قانون تنظيم التظاهر إلا مثالاً واحداً، فهناك مناقشات حول «مصالحة» أو «مبادرة»، ولكل منها آراء وتحليلات، تصل إلى موافقات أو اعتراضات وأحياناً إلى تخوينات وتحذيرات، وهناك الكثير مما نعرفه جميعاً يدور فى هذه الدائرة التى بدت جهنمية فى آثارها السلبية.
وللحق أن كل هذه التأملات كانت بسبب ضرورة أن نعى جيداً أننا أمام إرهاب دولى - ومحلى أيضاً- يتربص بنا، بدُوله ونواياه وأطماعه، ولابد أن تزداد يقظتنا لنواجه ألاعيب هذا الإرهاب ومخططاته حتى نهزمه ويتركنا لحالنا ومستقبلنا الذى نخطط له- بإذن الله- وطناً.. ديمقراطياً.. حراً.. متقدماً.
أمامنا بناء الكثير مما تهدم بالفساد والإرهاب، أمامنا عمل وعمل ثم عمل من أجل خاطر مصر.
أرجوكم.. لا تجادلوا ولا تسمحوا بمحاولات طمس الحقائق لأغراض مريضة حتى يسقط خوفى السائل: هل أصبحنا سفسطائيين؟! لا قدر الله.. أم نحن شعب ثار من أجل الحياة، فلابد أن يستجيب له القدر بإذن الله.