النائبة هبة شاروبيم: هناك فجوة كبيرة بين واقع كليات التربية الحالية ومتطلبات إعداد المعلم    الدولار يلامس 51 جنيهاً في مصر مع تصاعد التوترات    "حياة كريمة" تقترب من إنجاز مرحلتها الأولى بتكلفة 350 مليار جنيه.. أكثر من 500 قرية تم تطويرها و18 مليون مستفيد    مصر تستهل قيادتها للاتحاد الدولي للغاز كنائب رئيس تمهيدا لرئاستها المقبلة فى 2028    وحدة السكان بالمنيا تنفذ 40 دورة تدريبية لتأهيل 4000 شاب وفتاة بقرى "حياة كريمة"    السيسي يوجه بتعزيز الانضباط المالي ومخصصات الحماية الاجتماعية    مياه سوهاج: تجديد شهادة الإدارة الفنية المستدامة ل3 محطات مياه شرب وصرف صحي    وزير الخارجية والهجرة يلتقي بمستشار الشئون الخارجية في بنجلاديش    منتخب مصر لكرة اليد للشباب يتأهل إلى الدور الرئيسي في بطولة العالم ببولندا    "زي النهاردة".. ليفربول يعلن التعاقد مع الملك المصري محمد صلاح    وزير التعليم: اتخاذ كافة الاجراءات بسرعة تجاه أي مخالفات يتم رصدها    حالة الطقس اليوم في السعودية.. أمطار رعدية وتقلبات بمكة والمدينة    تجديد حبس المتهمين باحتجاز أجنبي بسبب خلافات مالية بمدينة نصر    بالفيديو.. وزير الثقافة يدشن تمثال مجدي يعقوب: رمز للقيم ورسالة إلهام متجددة لأبناء الأجيال    منها «7 تماثيل لأبو الهول».. «سياحة الإسكندرية» تستعرض اكتشافات أثرية ب6 مواقع (صور)    تأجيل دعوى هيفاء وهبي ضد نقيب الموسيقيين إلى 10 يوليو للاطلاع    اتحاد الكرة يعلن.. اخطار كاف بالأندية الأربعة المشاركة في دوري الأبطال والكونفدرالية    ستونز: مررت ببعض اللحظات الصعبة بالموسم الماضي.. وأريد البقاء في مانشستر سيتي    رئيس بورتو البرتغالي يتوعد بالفوز على الأهلي    زلزال بقوة 5.2 درجة قرب جزر توكارا جنوب غربي اليابان    كورتوا: لا نلتفت للانتقادات وعلينا الفوز على باتشوكا لانتزاع الصدارة    أوبزرفر: خيارات إيران للرد على الضربات الأمريكية محدودة ومحفوفة بالمخاطر    وصول المتهمين الثلاثة بإنهاء حياة أدهم طالب كفر الشيخ للمحكمة استعدادًا لبدء جلسة محاكمتهم    إصابة عامل إثر انهيار عقار قديم في السيالة بالإسكندرية (صور)    3 طلاب يتسلقون طائرة هيكلية في الشرقية.. و«الداخلية» تكشف الملابسات (تفاصيل)    أمان القابضة تغلق الإصدار الثالث من سندات التوريق بقيمة 665.5 مليون جنيه    خبير صحراوي: لا تأثير سلبي لمنخفض القطارة على المياه الجوفية    تقارير: مدافع ليفربول يخضع للفحص الطبي في باير ليفركوزن    الليلة.. نانسي عجرم تغنى في موازين بعد غياب 7 سنوات    الحرس الثورى الإيرانى: الطائرات المشاركة بالهجوم على إيران تحت المراقبة    في ذكرى ميلاده.. عمرو الليثي يعرض أخر لقاء تلفزيوني أجراه أشرف عبدالغفور    وزير التعليم العالي يتفقد مركز أسوان للقلب ويشاهد إجراء عملية جراحية للقلب المفتوح من خارج غرفة العمليات    مصرع تاجر مخدرات وضبط آخرين لحيازتهم مواد ب50 مليون جنيه في أسوان    مصدر إيراني: نقلنا معظم اليورانيوم من منشأة «فوردو» إلى موقع آخر    الحرس الثوري الإيراني: القدرات الأساسية للقوات المسلحة لم يتم تفعيلها بعد    د.عبدالراضي رضوان يكتب : ل نحيا بالوعي "15" .. التساؤلات العشر حول ناكر الجميل    عبد الحفيظ: الأهلي كان ممكن يرجع ب13 مليون دولار.. لا يليق أن نودع مونديال الأندية في المركز 27    بدون تكييف.. حيل ذكية لاستخدام المروحة لتبريد منزلك بكفاءة في الصيف    محافظ أسيوط يبحث آليات دعم المنظومة الصحية وتحسين مستوى الخدمات الطبية    إرهاصات أولى لحرب عالمية ثالثة.. محللة سياسية تكشف: الحرب مع إيران لم تكن مفاجئة    تداول حل امتحان اللغة العربية للثانوية العامة 2025 في جروبات الغش.. والتعليم تحقق    هيئة الرقابة النووية: مصر بعيدة عن أي تأثير لضرب المنشآت النووية الإيرانية    صور.. المركز الكاثوليكي المصري للسينما يكرم صناع مسلسل "لام شمسية"    «الرعاية الصحية»: إطلاق برنامج «عيشها بصحة» لتعزيز الوقاية ونمط الحياة الصحي بمحافظات التأمين الصحي الشامل    النسوية الإسلامية (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا): مكانة الأسرة.. فى الإسلام والمجتمع! "130"    "الصحفيين" تطالب باجتماع عاجل مع "الأعلى للإعلام"    رئيس حزب المصريين الأحرار ل«روزاليوسف»: عصام خليل: نستعد للانتخابات بكوادر جديدة    هل يجوز إعطاء زكاة المال للأبناء؟.. أمين الفتوى يوضح    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاحد 22-6-2025 في محافظة قنا    ثانوية عامة 2025.. أولياء الأمور يرافقون الطلاب لدعمهم أمام لجان الدقي    بعد آخر انخفاض.. سعر الذهب اليوم الأحد 22-6-2025 في مصر وعيار 21 الآن    أبرزهم زيزو.. محسن صالح منتقدًا ثلاثي الأهلي: «ليس لهم عنوان في القلعة الحمراء»    ترامب عن مهلة الأسبوعين لإيران: الوقت وحده هو الذي سيخبرنا    الجامع الأزهر يعقد ملتقى التفسير بعنوان"الهجرة بين الإعجاز البلاغي والعلمي"، اليوم    إيران: " فوردو" النووية لا تحتوي على مواد مشعة    صديقة طبيبة طنطا الراحلة: خدمت مرضى كورونا وتوفيت أثناء عملها    هل يجوز الوضوء والاغتسال بماء البحر؟    التعجل في المواجهة يؤدي إلى نتائج عكسية.. حظ برج الدلو اليوم 22 يونيو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قبسات من روائع البيان - سورة الحج
نشر في الفجر يوم 08 - 10 - 2013

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)) استفتاح بليغ لأمر عظيم يقتضي الاعتناء بدقة اللفظ ومدلوله. فانظر كيف جاء التعبير عن الذات الإلهية بصفة الرب مضافة إلى ضمبر المخاطبين دون إسم العَلَم (الله) فلم يقل "يا أيها الناس اتقوا الله" إيماء إلى استحقاقه أن يُتّقى لعظمته بالخالقية وإلى جدارة الناس أن يتّقوه لأنه بصفة الربوبية لا يأمر ولا ينهى إلا لما فيه مصالح الناس ودرء المفاسد عنهم. والأمران كلاهما لا يفيده غير وصف الربّ دون نحو الخالق والسيّد. (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ (2)) تأمل دقة هذه الآية في تصوير هول القيامة حيث جاء الفعل (تَذْهَلُ). والذهول نسيان ما من شأنه ألا يُنسى وإنما يُنسى لشاغلٍ عظيم. فالمرضع لا يُعهد لها نسيان فلذة كبدها وكيف تنساه وهو الهواء الذي تستنشقه؟ ولكن أهوال القيامة المروّعة قد أنستها إرضاع وليدها. وقد زاد البيان الإلهي في تأكيد الذهول حينما جاء بكلمة (كُلُّ مُرْضِعَةٍ) للدلالة على أن الذهول يعتري كل مرضع وليس هو لبعض المراضع لاحتمال ضعف في ذاكرتها. بل هو الهول الذي لا يدعُ بقيّة من عقل. (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)) لقد عبّر القرآن الكريم عن الأرض قبل نزول المطر بأنها (هامدة). ووردت ذات الصورة في قوله تعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ (39) فصلت) فلماذا هذا الاختلاف في التعبير؟ وهل هو لمجرد التنويع أم لأجل التناسق في رسم الصورة؟ تأمل سياق الصورتين يتبين لك وجه التناسق بين (هامدة) و(خاشعة). فالجو في السياق الأول لقوله (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً) جو بعث وإحياء وإحراج مما يتسق معه تصوير الأرض بالهمود وهي درجة بين الحياة والموت. والجو في السياق الثاني هو جو عبادة وخشوع وسجود يتسق معه تصوير الأرض بأنها خاشعة. وهذا لون من الدقّة في تناسق الحركة المتخيّلة يسمونه البيان على كل تقدير. (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ (9)) انظر كيف يستطيع القرآن بتصويره أن يقدِّم لك أنموذجاً للمكابرة العظيمة من قِبَل الكفار. فالكافر كأنه واقف أمامك تراه في حركته وسكونه يُجادِل بالحق وبالباطل. والتعبير يرسم صورة حسّية لتكبُّر المتنطِّع في المجادلة وهو يثني عِطفه ويلوي جانبه. (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)) من جديد يُطلق التصوير القرآني الخيال في ذهن القارئ. ألا تشعر أن القارئ ليكاد يُجسِّم هذا الحرف في خياله ويذهب مع الحركية المتخيَّلة للعابِد وهو يعبد الله على هذا الحرف المجسَّم ثم يملح في خياله الاضطراب الحسي في وقفته وهو يتأرجح بين اليمين واليسار، ويُشفِق على حاله أن يسقط. هذا الوقوع تركته الصورة القرآنية لمَيْدان الخيال. إنها صورة قرآنية فذّة تعمل عملها في الخيال وتُثير في النفس انفعالاتٍ شتى وتأثيراتٍ عدّة. (مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)) يترك لك التعبير القرآني وهو يرسم صورة هذا اليائس لتتمثل حركات سريعة متتابَعة متخَّيلة يكمل بها ملامح الصور ويتممها. فهي صورة تخيلية تتمثل في الحرطات السريعة المتتابعة التي يحاولها من تعلق بالمستحيل. إن الخيال الرائع يتابع هذا اليائس في محاولاته اليائسة وحركاته السريعة ها هو يمد الحبل إلى السماء (السقف) وهاهو يتعلق بالحبل فإذا الحبل ينقطع. ومن ثمّ يهوي مع الحبل ويسقط السقطة القاتلة فهل ذهب غيظه وزال يأسه؟ إنها آية بحاجة إلى آلة تصوير ترصد حركات الصورة من كل جانب وهي تضيف المؤثرات السريعة على المشهد المؤثّر المتحرك بذاته. (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ (19)) لقد بُني السياق على التثنية (هَذَانِ خَصْمَانِ) لكن الإخبار جاء بضمير الجمع (اخْتَصَمُوا) فهل تظن أن البيان القرآني هنا أغفل موضوع العائد في الضمير؟ أليس الأصل من حيث الظاهر أن يقال "هذان خصمان اختصما في ربهم"؟ الحقيقة إنها من مقومات البلاغة القرآنية الفصيحة. فاسم الخصم يُطلق على الواحد وعلى الجماعة إذا اتّحدت خصومتهم. فأنت يقول "إن الظالمين هم خصمٌ لي يوم القيامة وأنا خصم لهم". فلمراعاة التثنية في اللفظ جيء بإسم الإشارة الموضوع للمثنّى (هَذَانِ). ولمراعاة العدد جيء بضمير الجماعة في قوله (اخْتَصَمُوا) وهذه دِقَةٌ متناهية يغفل عنها كثير من الفصحاء. (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)) التقطيع فيه مبالغة القطع وهو فصل بعض أجزاء الشيء عن بقيّته. وقد جعل القرآن الفعل (قُطِّعَتْ) مضعّفاً ولم يقل "فالذين كفروا قُطعت لهم ثياب من نار" وذاك لرصد صورة القطع القاسي. وقد استطاعت كلمة (قُطِّعَتْ) أن ترسم ملامح السرعة في إعداد ثياب من نار من شانها إحراق الجلود. وهذه الطريقة غايتها إثارة خيالك. ولا سيما وأن مادة الثياب التي نسجت منها هي نار تتلظى. (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)) تأمل هذا المشهد العنيف الصاخب. انظر إلى هذا المنظر الحافل بالحركة المتكررة المليء بالتخييل الذي يبعثه النَسَق. فلا يكاد ينتهي الخيال من تتبعه لأنه مشهد متجدد. فها هي الثياب من النار تُقطّع وتفصّل وهذا حميم يُصب من فوق الرؤوس يُصهر به ما في البطون والجلود. وهذه مقامع من حديد وهذا هو العذاب يشتد ويتجاوز الطاقة فيهبّ الذين كفروا من الوهج والحميم والضرب الأليم. يهبّون للخروج من هذا الغمّ وإذا بهم يُردّون بعنف (وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ). (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (25)) تعالى وانظر إلى تفنن البيان القرآني في تغيير صيغ الجملة بقصد دلالات عظيمة تومئ إلى بلاغة رائعة لا حصر لها. فها هو يجيء ب (وَيَصُدُّونَ) بصيغة الفعل المضارع للدلالة على تكرار الفعل من الكُفّار وأنه دأبهم سواء فيه أهل مكة وغيرهم. لأن البقية ظاهروهم على ذلك الصدّ ورافقوهم. في حين أنه يبتدئ بصيغة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الماضية للدلالة على أنه وصق ثابت فيهم متحقق ليصير بعد ذلك كاللقب لهم مثل قوله "الذين آمنوا". (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ (30)) إن إسم الإشارة (ذلك) واحد من أساليب الاقتضاب في الانتقال. لكن المشهور في هذا الاستعمال لفظ (هذا) كما في قوله (هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) ص). لكن البيان القرآني آثر اسم إشارة البعيد في الآية للدلالة على بُعد المنزلة كناية عن تعظيم مضمون ما قبله (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)) وأيُّ بيتٍ يستحق التعظيم والتبجيل أكثر من بيت الله الحرام؟!. (وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)) تأمل هذا المشهد القرآني حيث يمر سريعاً خاطفاً ويكاد الخيال يلاحقه وكأنه يرسم بلمساته الريشة السريعة العنيفة. ففي هذا المشهد أتى المُشرك في ومضة من المجهول ليذهب في ومضة أخرى إلى المجهول. فانظر إليه إنه يهوي من شاهق لقد خرّ من السماء. أُنظر لقد خطفته الطير ثم هوت به الريح في مكان سحيق. لقد اختفى المسرح القرآني ومن فيه. إنها حركات سريعة متخيّلة. والذي حسّن المشهد عنف الحركات المتتالية وتعاقبها في اللفظ وهذا السر في العطف بالفاء دون غيرها. (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)) تأمل بلاغة القرآن وجماله وهو يستعير أكمل الألفاظ لمعانيه. فالمُخبت تعبير عمّن سلك الخَبت وهو المكان المنخفض ضد المُصْعِد. وقد استعمله القرآن ليبلغ ذروة التواضع للمتواضع فكأنه سلك نفسه في الانخفاض. (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ (47)) في هذه الآية يعدل البيان الإلهي عن صيغة الماضي "واستعجلوك بالعذاب" مع أن الاستعجال منهم تمّ وانتهى في الماضي. ويستخدم صيغة المضارع وما ذاك إلا للإشارة إلى تكريرهم الاستعجال مبالغة منهم في الاستهزاء بالمسلمين. وقد أكّد حرصهم على تعجيل العذاب بزيادة الباء في قوله (بِالْعَذَابِ) وذلك نظير قوله (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ (6) الرعد). (وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)) تأمل هذه الآية تر أنها تشبه قوله تعالى في الصفحات السابقة (فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ (45)) لكنك ستلمح اختلافاً بينهما. فآية الصفحة السابقة قصد منها كثرة الأمم التي أُهلِكت لئلا يُتوهم من ذكر قوم نوح ومن عطف عليهم أن الهلاك لم يتجاوزهم, ولذلك اقتصر فيها على ذكر الإهلاك دون الإمهال. والآية هنا قصد منها التذكير بأن تأخير الوعيد لا يقتضي إبطاله. ولذلك اقتصر على ذِكر الإمهال ثم عطف على الإمهال الأخذ والهلاك. (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)) أيُّ بيان يمكن له أن يرقى لبيان الله وعظمته؟! فلو عرفت أن السعي هو المشي الشديد لعلمت أن الكلام ينطوي على تمثيل رائع. فقد وصف القرآن شدة حرص الكافرين وسعيهم الدؤوب لتكذيب القرآن بهيأة الساعي في طريق يسابق غيره ليفوز بالموصول. (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)) انظر إلى هذه الاستعارة البديعة في البيان الإلهي والحقائق الخفية وراء النظم القرآني الفريد. فحقيقة الإيلاج الإدخال. ولجت الدار إذا دخلتها. وقد صوّر الله سبحانه اختفاء الليل عند ظهور النهار بأنه يلِج بالنهار. وصوّر النهار بأنه يلِج في الليل وكأنهما جسمان يدخل أحدهما بالآخر. فإيلاج الليل انقضاؤه فأشبه ذلك إيلاج شيء في شيء إذ يبدو داخلاً فيه شيئاً فشيئاً. والكلام كله مسوقٌ إيماء إلى تقلّب أحوال الزمان. فقد يصير المغلوب غالباً وكذلك العكس. وفيه إدماج التنبيه بأن العذاب الذي استبطأه المشركون منوطٌ بحلول الأجل. وما الأجل إلا إيلاج ليل في نهار ونهار في ليل. وفيه إدماج تشبيه الكفر بالليل والإسلام بالنهار. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً (63)) لقد جيء بالنَظم في الآية على صيغة الماضي (أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء) وعدل عن المضارع "وينزل من السماء ماء" فكيف ذلك؟ إنما سيق خبر الإنزال بالماضي (أنزل) لأن
أمر الإنزال هو أمر متقرر ماضي لا يدعى جهله ولا يتبدل ولا يتغير. ثم عبّر عن مصير الأرض بصيغة المضارع (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) لأنه قصد بذلك استحضار تلك الصورة العجيبة الحسنة ولإفادة بقاء أثر إنزال المطر زماناً بعد زمان. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ (65)) انظر إلى هذا العرض لمِنّة الله على عباده في الأرض والبحر. فحين عرض الانتفاع بالأرض قال (مَّا فِي الْأَرْضِ) وحين عرض الانتفاع بالبحر قال (وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) وإنما خصّ الفلك بالجري لأن ذلك الجري في البحر هو مظهر التسخير. إذ لولا الإلهام إلى صنعها على الصفة المعلومة لكان حظُّها من البحر الغرق. (إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ (67)) انظر إلى استخدام حرف (على) الذي يفيد التمكن للدلالة على التمكن من الهدى. وتأمل وصف الهدى بالمستقيم فهو استعارة مكنية حيث شبّه الهدى بالطريق الموصل إلى المطلوب ورمز إليه بالمستقيم لأن المستقيم أسرع إيصالاً. فدين الإسلام أيسر الشرائع في الإيصال إلى الكمال. (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ (75)) إن مما يزيد الآية بلاغة في النظم التقديم والإظهار. فتقديم المسند إليه وهو إسم الجلالة على الخبر الفعلي في قوله (اللَّهُ يَصْطَفِي) دون أن يقول "يصطفي الله" كان إفادة الاختصاص أي أن الله وحده هو الذي يصطفي لا أنتم. والإظهار في مقام الإضمار هنا حيث لم يقل "هو يصطفي من الملائكة" لأن إسم الجلالة أصله إله أي الإله المعروف الذي لا إله غيره. فاشتقاقه مشيرٌ إلى أن مسمّاه جامعٌ كل الصفات العلى تقريراً للقوة الكاملة والعزّة القاهرة. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)) إليك بيان فضل هذا الترتيب الحاصل في الآية. فما ورد من ترتيب إيماء إلى أن الاشتغال بإصلاح الاعتقاد من ركوع وسجود مقدّمٌ على الاشتغال بإصلاح الأعمال. ثم كنّى عن الصلاة بالركوع والسجود لتخصيص ذِكرهما. فإنهما أعظم أركان الصلاة وبهما يكون إظهار الخضوع والعبودية. وتخصيص الصلاة بالذِكر قبل الأمر ببقية العبادات تنبيه على أن الصلاة عماد الدين. وجامع الأمر كله أن التقديم إنما جيء بع للاهتمام بما قدّم. (فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)) لسائلٍ أن يسأل إن كانت البلاغة في الإيجاز فلِمَ أعرض الله تعالى عنه هنا وجاء بلفظ (نِعْمَ) مرتين ولم يقل "نعِمْ َالمولى والنصير"؟ إعلم أن الله استحق كمال الصفة في كلا الأمرين الولاية والنصر. فتكرر فعل المدح ليُجعل كلٌ منهما مختصاً بالمدح ولئلا يكون تابعاً فيضعف في تبعيته وهذا من براعة الختام كما هو بيّن. قبسات من روائع البيان - سورة الحج

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.