رئيس جامعة مطروح يشيد بالمعرض التطبيقي لطالبات كلية التربية للطفولة المبكرة    حنان الشبيني تقدم بحثًا متميزًا عن فاعلية التدريب في تطوير التعامل مع المحتوى الرقمي    البابا تواضروس: نحن مواطنون مصريون نعيش مع إخوتنا المسلمين فى وطن واحد    أسواق الأسهم الأوروبية تغلق منخفضة مع التركيز على نتائج أعمال الشركات    محمد شردى يجرى جولة بكاميرا "الحياة اليوم" مع عمال النظافة بالقاهرة    وزيرا خارجية السعودية وأمريكا يبحثان التطورات الإقليمية والدولية    هزيمة النازية ... وجريمة إسرائيل!!    تسيميكاس يقترب من الرحيل عن ليفربول    حمدي فتحي ينهي موسمه مع الوكرة بالخروج من كأس أمير قطر    تجديد حبس موظف متهم ب«تهكير» حسابات بعض الأشخاص وتهديدهم في الفيوم 15 يوما    غدًا.. إذاعة القرآن الكريم تبدأ بث تلبية الحجاج    انطلاق ملتقى "الثقافة والهوية الوطنية" في العريش    نائب وزير الصحة يترأس اجتماع الأمانة الفنية للمجموعة الوزارية للتنمية البشرية    الآلاف يشيعون جثمان الطفل "أدهم" ضحية أصدقائه في كفر الشيخ - فيديو وصور    ميرتس يبدي تحفظا حيال إسهام بلاده في تأمين هدنة محتملة في أوكرانيا    الإسماعيلية تتابع الموقف التنفيذي لمنظومة تقنين واسترداد أراضي الدولة    أوس أوس يطلب الدعاء لوالدته بعد دخولها رعاية القلب    ختام فاعليات مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة في دورته التاسعة - صور    «منهم الحمل والأسد».. 4 أبراج تتحدث قبل أن تفكر وتندم    آخرهم رنا رئيس.. 6 زيجات في الوسط الفني خلال 4 أشهر من 2025    خالد الجندى: الاحتمال وعدم الجزم من أداب القرآن ونحتاجه فى زمننا    بسبب السحر.. شاب يحاول قتل شقيقته بالقليوبية    بيدري مهدد بالعقوبة من يويفا بسبب تصريحاته ضد حكم قمة الإنتر وبرشلونة    مبيعات أجنبية تهبط بمؤشرات البورصة بختام جلسة اليوم.. فما الأسباب؟    عضو ب"القومى للمرأة": حظر تشغيل كل من كان عمره أقل من 15 سنة فى المنازل    تحت تأثير المخدر.. المشدد 5 سنوات لمتهم قتل وأصاب 3 أشخاص في القليوبية    عمر طلعت مصطفى: ننسق مع وزارة الشباب والرياضة للاستفادة من الفعاليات الكبيرة للترويج لسياحة الجولف    ما حكم طهارة وصلاة العامل في محطات البنزين؟.. دار الإفتاء تجيب    التايكوندو يتوجه للإمارات للمشاركة في بطولة العالم تحت 14 عام    جامعة كفر الشيخ تشارك في منتدى «اسمع واتكلم» بمرصد الأزهر لمكافحة التطرف    جوندوجان يحلم بأن يكون مساعدًا ل "الفيلسوف"    محافظ المنيا يوافق على تحسين خدمات النقل وفتح التقديم لترخيص 50 تاكسي    محافظ قنا يشارك في احتفالية مستقبل وطن بعيد العمال ويشيد بدورهم في مسيرة التنمية    رئيس جامعة القاهرة: هناك ضرورة لصياغة رؤية جديدة لمستقبل مهنة الصيدلي    عدوان الاحتلال الإسرائيلي على طولكرم ومخيميها يدخل يومه 101    رئيس "أزهرية الإسماعيلية" يشهد امتحانات النقل الإعدادى والابتدائى    قرار هام من الحكومة بشأن الجامعة المصرية اليابانية للعلوم والتكنولوجيا    أوبرا الإسكندرية تقيم حفل ختام العام الدراسي لطلبة ستوديو الباليه آنا بافلوفا    كندة علوش: دوري في «إخواتي» مغامرة من المخرج    وزير البترول: التوسع الخارجي لشركة "صان مصر"على رأس الأولويات خلال الفترة المقبلة    ب12 هاتفًا.. عصابة تخترق حساب سيدة من ذوي الاحتياجات وتنهب أموالها    هل يجوز أن أصلي الفريضة خلف شخص يصلي السنة؟.. المفتي السابق يوضح    تعرف على وضع صلاح بين منافسيه في الدوري الإنجليزي بعد 35 جولة    إطلاق صندوق لتحسين الخدمة في الصحة النفسية وعلاج الإدمان    بدء التشغيل الفعلي لمنظومة التأمين الصحي الشامل في أسوان أول يوليو المقبل    حزنا على زواج عمتها.. طالبة تنهي حياتها شنقا في قنا    وائل غنيم في رسالة مطولة على فيسبوك: دخلت في عزلة لإصلاح نفسي وتوقفت عن تعاطي المخدرات    وزارة الأوقاف تعلن أسماء المقبولين لدخول التصفيات الأولية لمسابقة القرآن الكريم    المراجعات النهائية للشهادة الإعدادية بشمال سيناء    سحب 49 عينة سولار وبنزين من محطات الوقود بالإسكندرية لتحليلها    عاجل- الحكومة: توريد 1.4 مليون طن قمح حتى الآن.. وصرف 3 مليارات بمحصول القطن    آخر تطورات مفاوضات الأهلي مع ربيعة حول التجديد    الداخلية: ضبط 507 دراجة نارية لعدم ارتداء الخوذة    مصر ترحب باتفاق وقف إطلاق النار في اليمن مع الولايات المتحدة    بتكلفه 85 مليون جنيه.. افتتاح مبنى امتداد مركز الأورام الجديد للعلاج الإشعاعي بقنا    عضو مجلس الزمالك: كل الاحتمالات واردة في ملف زيزو    اليوم.. الرئيس السيسي يتوجه إلى اليونان في زيارة رسمية    عاجل- مصر وقطر تؤكدان استمرار جهود الوساطة في غزة لوقف المأساة الإنسانية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قبسات من روائع البيان - سورة الحج
نشر في الفجر يوم 08 - 10 - 2013

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)) استفتاح بليغ لأمر عظيم يقتضي الاعتناء بدقة اللفظ ومدلوله. فانظر كيف جاء التعبير عن الذات الإلهية بصفة الرب مضافة إلى ضمبر المخاطبين دون إسم العَلَم (الله) فلم يقل "يا أيها الناس اتقوا الله" إيماء إلى استحقاقه أن يُتّقى لعظمته بالخالقية وإلى جدارة الناس أن يتّقوه لأنه بصفة الربوبية لا يأمر ولا ينهى إلا لما فيه مصالح الناس ودرء المفاسد عنهم. والأمران كلاهما لا يفيده غير وصف الربّ دون نحو الخالق والسيّد. (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ (2)) تأمل دقة هذه الآية في تصوير هول القيامة حيث جاء الفعل (تَذْهَلُ). والذهول نسيان ما من شأنه ألا يُنسى وإنما يُنسى لشاغلٍ عظيم. فالمرضع لا يُعهد لها نسيان فلذة كبدها وكيف تنساه وهو الهواء الذي تستنشقه؟ ولكن أهوال القيامة المروّعة قد أنستها إرضاع وليدها. وقد زاد البيان الإلهي في تأكيد الذهول حينما جاء بكلمة (كُلُّ مُرْضِعَةٍ) للدلالة على أن الذهول يعتري كل مرضع وليس هو لبعض المراضع لاحتمال ضعف في ذاكرتها. بل هو الهول الذي لا يدعُ بقيّة من عقل. (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)) لقد عبّر القرآن الكريم عن الأرض قبل نزول المطر بأنها (هامدة). ووردت ذات الصورة في قوله تعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ (39) فصلت) فلماذا هذا الاختلاف في التعبير؟ وهل هو لمجرد التنويع أم لأجل التناسق في رسم الصورة؟ تأمل سياق الصورتين يتبين لك وجه التناسق بين (هامدة) و(خاشعة). فالجو في السياق الأول لقوله (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً) جو بعث وإحياء وإحراج مما يتسق معه تصوير الأرض بالهمود وهي درجة بين الحياة والموت. والجو في السياق الثاني هو جو عبادة وخشوع وسجود يتسق معه تصوير الأرض بأنها خاشعة. وهذا لون من الدقّة في تناسق الحركة المتخيّلة يسمونه البيان على كل تقدير. (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ (9)) انظر كيف يستطيع القرآن بتصويره أن يقدِّم لك أنموذجاً للمكابرة العظيمة من قِبَل الكفار. فالكافر كأنه واقف أمامك تراه في حركته وسكونه يُجادِل بالحق وبالباطل. والتعبير يرسم صورة حسّية لتكبُّر المتنطِّع في المجادلة وهو يثني عِطفه ويلوي جانبه. (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)) من جديد يُطلق التصوير القرآني الخيال في ذهن القارئ. ألا تشعر أن القارئ ليكاد يُجسِّم هذا الحرف في خياله ويذهب مع الحركية المتخيَّلة للعابِد وهو يعبد الله على هذا الحرف المجسَّم ثم يملح في خياله الاضطراب الحسي في وقفته وهو يتأرجح بين اليمين واليسار، ويُشفِق على حاله أن يسقط. هذا الوقوع تركته الصورة القرآنية لمَيْدان الخيال. إنها صورة قرآنية فذّة تعمل عملها في الخيال وتُثير في النفس انفعالاتٍ شتى وتأثيراتٍ عدّة. (مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)) يترك لك التعبير القرآني وهو يرسم صورة هذا اليائس لتتمثل حركات سريعة متتابَعة متخَّيلة يكمل بها ملامح الصور ويتممها. فهي صورة تخيلية تتمثل في الحرطات السريعة المتتابعة التي يحاولها من تعلق بالمستحيل. إن الخيال الرائع يتابع هذا اليائس في محاولاته اليائسة وحركاته السريعة ها هو يمد الحبل إلى السماء (السقف) وهاهو يتعلق بالحبل فإذا الحبل ينقطع. ومن ثمّ يهوي مع الحبل ويسقط السقطة القاتلة فهل ذهب غيظه وزال يأسه؟ إنها آية بحاجة إلى آلة تصوير ترصد حركات الصورة من كل جانب وهي تضيف المؤثرات السريعة على المشهد المؤثّر المتحرك بذاته. (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ (19)) لقد بُني السياق على التثنية (هَذَانِ خَصْمَانِ) لكن الإخبار جاء بضمير الجمع (اخْتَصَمُوا) فهل تظن أن البيان القرآني هنا أغفل موضوع العائد في الضمير؟ أليس الأصل من حيث الظاهر أن يقال "هذان خصمان اختصما في ربهم"؟ الحقيقة إنها من مقومات البلاغة القرآنية الفصيحة. فاسم الخصم يُطلق على الواحد وعلى الجماعة إذا اتّحدت خصومتهم. فأنت يقول "إن الظالمين هم خصمٌ لي يوم القيامة وأنا خصم لهم". فلمراعاة التثنية في اللفظ جيء بإسم الإشارة الموضوع للمثنّى (هَذَانِ). ولمراعاة العدد جيء بضمير الجماعة في قوله (اخْتَصَمُوا) وهذه دِقَةٌ متناهية يغفل عنها كثير من الفصحاء. (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)) التقطيع فيه مبالغة القطع وهو فصل بعض أجزاء الشيء عن بقيّته. وقد جعل القرآن الفعل (قُطِّعَتْ) مضعّفاً ولم يقل "فالذين كفروا قُطعت لهم ثياب من نار" وذاك لرصد صورة القطع القاسي. وقد استطاعت كلمة (قُطِّعَتْ) أن ترسم ملامح السرعة في إعداد ثياب من نار من شانها إحراق الجلود. وهذه الطريقة غايتها إثارة خيالك. ولا سيما وأن مادة الثياب التي نسجت منها هي نار تتلظى. (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)) تأمل هذا المشهد العنيف الصاخب. انظر إلى هذا المنظر الحافل بالحركة المتكررة المليء بالتخييل الذي يبعثه النَسَق. فلا يكاد ينتهي الخيال من تتبعه لأنه مشهد متجدد. فها هي الثياب من النار تُقطّع وتفصّل وهذا حميم يُصب من فوق الرؤوس يُصهر به ما في البطون والجلود. وهذه مقامع من حديد وهذا هو العذاب يشتد ويتجاوز الطاقة فيهبّ الذين كفروا من الوهج والحميم والضرب الأليم. يهبّون للخروج من هذا الغمّ وإذا بهم يُردّون بعنف (وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ). (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (25)) تعالى وانظر إلى تفنن البيان القرآني في تغيير صيغ الجملة بقصد دلالات عظيمة تومئ إلى بلاغة رائعة لا حصر لها. فها هو يجيء ب (وَيَصُدُّونَ) بصيغة الفعل المضارع للدلالة على تكرار الفعل من الكُفّار وأنه دأبهم سواء فيه أهل مكة وغيرهم. لأن البقية ظاهروهم على ذلك الصدّ ورافقوهم. في حين أنه يبتدئ بصيغة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الماضية للدلالة على أنه وصق ثابت فيهم متحقق ليصير بعد ذلك كاللقب لهم مثل قوله "الذين آمنوا". (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ (30)) إن إسم الإشارة (ذلك) واحد من أساليب الاقتضاب في الانتقال. لكن المشهور في هذا الاستعمال لفظ (هذا) كما في قوله (هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) ص). لكن البيان القرآني آثر اسم إشارة البعيد في الآية للدلالة على بُعد المنزلة كناية عن تعظيم مضمون ما قبله (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)) وأيُّ بيتٍ يستحق التعظيم والتبجيل أكثر من بيت الله الحرام؟!. (وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)) تأمل هذا المشهد القرآني حيث يمر سريعاً خاطفاً ويكاد الخيال يلاحقه وكأنه يرسم بلمساته الريشة السريعة العنيفة. ففي هذا المشهد أتى المُشرك في ومضة من المجهول ليذهب في ومضة أخرى إلى المجهول. فانظر إليه إنه يهوي من شاهق لقد خرّ من السماء. أُنظر لقد خطفته الطير ثم هوت به الريح في مكان سحيق. لقد اختفى المسرح القرآني ومن فيه. إنها حركات سريعة متخيّلة. والذي حسّن المشهد عنف الحركات المتتالية وتعاقبها في اللفظ وهذا السر في العطف بالفاء دون غيرها. (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)) تأمل بلاغة القرآن وجماله وهو يستعير أكمل الألفاظ لمعانيه. فالمُخبت تعبير عمّن سلك الخَبت وهو المكان المنخفض ضد المُصْعِد. وقد استعمله القرآن ليبلغ ذروة التواضع للمتواضع فكأنه سلك نفسه في الانخفاض. (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ (47)) في هذه الآية يعدل البيان الإلهي عن صيغة الماضي "واستعجلوك بالعذاب" مع أن الاستعجال منهم تمّ وانتهى في الماضي. ويستخدم صيغة المضارع وما ذاك إلا للإشارة إلى تكريرهم الاستعجال مبالغة منهم في الاستهزاء بالمسلمين. وقد أكّد حرصهم على تعجيل العذاب بزيادة الباء في قوله (بِالْعَذَابِ) وذلك نظير قوله (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ (6) الرعد). (وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)) تأمل هذه الآية تر أنها تشبه قوله تعالى في الصفحات السابقة (فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ (45)) لكنك ستلمح اختلافاً بينهما. فآية الصفحة السابقة قصد منها كثرة الأمم التي أُهلِكت لئلا يُتوهم من ذكر قوم نوح ومن عطف عليهم أن الهلاك لم يتجاوزهم, ولذلك اقتصر فيها على ذكر الإهلاك دون الإمهال. والآية هنا قصد منها التذكير بأن تأخير الوعيد لا يقتضي إبطاله. ولذلك اقتصر على ذِكر الإمهال ثم عطف على الإمهال الأخذ والهلاك. (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)) أيُّ بيان يمكن له أن يرقى لبيان الله وعظمته؟! فلو عرفت أن السعي هو المشي الشديد لعلمت أن الكلام ينطوي على تمثيل رائع. فقد وصف القرآن شدة حرص الكافرين وسعيهم الدؤوب لتكذيب القرآن بهيأة الساعي في طريق يسابق غيره ليفوز بالموصول. (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)) انظر إلى هذه الاستعارة البديعة في البيان الإلهي والحقائق الخفية وراء النظم القرآني الفريد. فحقيقة الإيلاج الإدخال. ولجت الدار إذا دخلتها. وقد صوّر الله سبحانه اختفاء الليل عند ظهور النهار بأنه يلِج بالنهار. وصوّر النهار بأنه يلِج في الليل وكأنهما جسمان يدخل أحدهما بالآخر. فإيلاج الليل انقضاؤه فأشبه ذلك إيلاج شيء في شيء إذ يبدو داخلاً فيه شيئاً فشيئاً. والكلام كله مسوقٌ إيماء إلى تقلّب أحوال الزمان. فقد يصير المغلوب غالباً وكذلك العكس. وفيه إدماج التنبيه بأن العذاب الذي استبطأه المشركون منوطٌ بحلول الأجل. وما الأجل إلا إيلاج ليل في نهار ونهار في ليل. وفيه إدماج تشبيه الكفر بالليل والإسلام بالنهار. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً (63)) لقد جيء بالنَظم في الآية على صيغة الماضي (أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء) وعدل عن المضارع "وينزل من السماء ماء" فكيف ذلك؟ إنما سيق خبر الإنزال بالماضي (أنزل) لأن
أمر الإنزال هو أمر متقرر ماضي لا يدعى جهله ولا يتبدل ولا يتغير. ثم عبّر عن مصير الأرض بصيغة المضارع (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) لأنه قصد بذلك استحضار تلك الصورة العجيبة الحسنة ولإفادة بقاء أثر إنزال المطر زماناً بعد زمان. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ (65)) انظر إلى هذا العرض لمِنّة الله على عباده في الأرض والبحر. فحين عرض الانتفاع بالأرض قال (مَّا فِي الْأَرْضِ) وحين عرض الانتفاع بالبحر قال (وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) وإنما خصّ الفلك بالجري لأن ذلك الجري في البحر هو مظهر التسخير. إذ لولا الإلهام إلى صنعها على الصفة المعلومة لكان حظُّها من البحر الغرق. (إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ (67)) انظر إلى استخدام حرف (على) الذي يفيد التمكن للدلالة على التمكن من الهدى. وتأمل وصف الهدى بالمستقيم فهو استعارة مكنية حيث شبّه الهدى بالطريق الموصل إلى المطلوب ورمز إليه بالمستقيم لأن المستقيم أسرع إيصالاً. فدين الإسلام أيسر الشرائع في الإيصال إلى الكمال. (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ (75)) إن مما يزيد الآية بلاغة في النظم التقديم والإظهار. فتقديم المسند إليه وهو إسم الجلالة على الخبر الفعلي في قوله (اللَّهُ يَصْطَفِي) دون أن يقول "يصطفي الله" كان إفادة الاختصاص أي أن الله وحده هو الذي يصطفي لا أنتم. والإظهار في مقام الإضمار هنا حيث لم يقل "هو يصطفي من الملائكة" لأن إسم الجلالة أصله إله أي الإله المعروف الذي لا إله غيره. فاشتقاقه مشيرٌ إلى أن مسمّاه جامعٌ كل الصفات العلى تقريراً للقوة الكاملة والعزّة القاهرة. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)) إليك بيان فضل هذا الترتيب الحاصل في الآية. فما ورد من ترتيب إيماء إلى أن الاشتغال بإصلاح الاعتقاد من ركوع وسجود مقدّمٌ على الاشتغال بإصلاح الأعمال. ثم كنّى عن الصلاة بالركوع والسجود لتخصيص ذِكرهما. فإنهما أعظم أركان الصلاة وبهما يكون إظهار الخضوع والعبودية. وتخصيص الصلاة بالذِكر قبل الأمر ببقية العبادات تنبيه على أن الصلاة عماد الدين. وجامع الأمر كله أن التقديم إنما جيء بع للاهتمام بما قدّم. (فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)) لسائلٍ أن يسأل إن كانت البلاغة في الإيجاز فلِمَ أعرض الله تعالى عنه هنا وجاء بلفظ (نِعْمَ) مرتين ولم يقل "نعِمْ َالمولى والنصير"؟ إعلم أن الله استحق كمال الصفة في كلا الأمرين الولاية والنصر. فتكرر فعل المدح ليُجعل كلٌ منهما مختصاً بالمدح ولئلا يكون تابعاً فيضعف في تبعيته وهذا من براعة الختام كما هو بيّن. قبسات من روائع البيان - سورة الحج

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.