■ أمريكا ساندت حركة الضباط الأحرار كانقلاب عسكرى.. وهاجمتها حين تحولت لثورة ■ السيسى هو أول قائد عسكرى بعد عبدالناصر يهاجم أمريكا علنا وفى عقر دارهم
■ الشعب فوض السيسى لمواجهة الإرهاب ولا يتوقع أن يخذله
■ زيارات الأجانب لمرسى والشاطر بدت للكثيرين تدخلاً فى السيادة المصرية
مر أكثر من أسبوعين على تلبية الشعب لدعوة الفريق السيسى.. الدعوة كانت واضحة وحاسمة..تفويض وأمر للجيش بمواجهة الإرهاب.. السيسى طلب والشعب خرج بالملايين لتأييد ودعم الطلب، وبذلك تحول الطلب «الميرى» لمطلب شعبى، ولكن الأيام تمر ولم تحدث المواجهة المتوقعة مع الإرهاب.. ربما يتقبل البعض محاولات الدولة بجميع أركانها لفض الاعتصام فى رابعة والنهضة سلمياً أو حتى بأقل قدر من الخسائر البشرية، وربما يكون رمضان والعيد مبررا لتأجيل المواجهة، واحتمال أن لدى الدولة جيشاً وحكومة وداخلية خطة هادئة محكمة قبل فض الاعتصام بالقوة، وما بين كل الاحتمالات فإن المؤكد أن الجميع لا يرغب فى بحور دماء، بصرف النظر عن نوع الدم ورغبة الإخوان واستعداداتهم للتضحية بدماء أبنائهم.
ولكن الرغبة فى حقن الدماء يجب ألا تمس السيادة الوطنية، ويجب ألا تؤدى إلى تدخل أجنبى مباشر وصريح وشبه يومى فى الشأن المصرى.. فالمصالحة يجب ألا تتحول للباب الذى يتم فتحه للتدخل الأجنبى وخصوصاً الأمريكى.. نحن الآن ننزلق بحسن نية ورغبة مشروعة فى حقن الدماء إلى أخطر مأزق تعيشه مصر الآن ومستقبلا.. نحن الآن ندفع ثمناً فادحاً ومضاعفاً دون أن ندرى.. فالخوف من الضغوط الأجنبية ورد الفعل الأمريكى قد أثر إلى حد كبير فى المشهد السياسى أو بالأحرى فى «اللخبطة» فى المشهد السياسى.
فالملايين التى ربطت بين السيسى والزعيم جمال عبدالناصر فى مواجهته مع أمريكا والإخوان معا، تسلل لها الإحباط، وهذا الإحباط لا يعود فقط إلى تأخر فض الاعتصام وملاحقة من يرهبون المصريين، ولكن الأكثر إحباطا هو عودة شبح النفوذ الأمريكى، الذى وصل إلى زيارة خيرت الشاطر فى السجن للتفاوض معه. هذه الصفاقة الأمريكية ليست وليدة اليوم، ويمكن لتاريخ أمريكا مع الثورات المصرية أن يكشف حقيقة ثابتة فى السياسة الأمريكية.. من ثورة يوليو إلى ثورة يونيو..ممكن أن تقبل أمريكا انقلاباً عسكرياً مسانداً لمصالحها، ولكنها ترفض الاعتراف بثورة شعبية ترفع من قدر مصر وقدرها.. ربما يحتاج السيسى وكل أطراف اللعبة السياسية فى مصر إلى مراجعة ملف العلاقة بين أمريكا ومصر، أو بالأحرى الجيش المصرى من أيام ثورة يوليو. فمواجهة عبدالناصر مع أمريكا كانت مواجهة حتمية، قضاءً وقدراً، وبالمثل المواجهة مع السيسى وأمريكا هى مواجهة حتمية.
التعامل مع انقلاب يوليو
حين قام الضباط الأحرار بثورة يوليو، كانت تسمى فى البداية «حركة يوليو المباركة»، واعتبرها الكثير من السياسيين الأجانب انقلاباً عسكرياً قام به جنرالات الجيش المصرى، وإن كان الشعب المصرى قد أيد الحركة المباركة، بعد عدة إجراءات وقوانين تحولت الحركة لثورة، ولكن أمريكا لم تتخذ موقفاً عدائياً من الانقلاب العسكرى.. بل بالعكس لعبت دور الوسيط بين الضباط الأحرار والملك، وإمعانا فى حب الانقلاب العسكرى أرسلت أمريكا رشوة سرية للضباط الأحرار قدرها مليون دولار، وضعها الرئيس الأمريكى السابق روزفلت تحت تصرف الضباط الأحرار، وفهم عبدالناصر هدف أمريكا فى السيطرة على الحكام الجدد لمصر، وحوّل عبدالناصر الرشوة إلى فضيحة لأمريكا وأهدافها وسياساتها على مر الزمان.بنى عبدالناصر بالمليون دولار برج القاهرة.. أعلى برج فى العالم العربى، وعلى شكل زهرة اللوتس، ولكن المصريين بحسهم الساخر أطلقوا عليه اسماً موحياً: «خازوق روزفلت».. لم تتغير سياسة أمريكا الناعمة مع الضباط الأحرار إلا عندما طلبت مصر تسليح جيشها من أمريكا، فأرسلت علىّ صبرى للتفاوض مع الأمريكان لإمداد الجيش المصرى وإعادة بنائه، ورفضت أمريكا، فرشوة انقلاب عسكرى لا تتعارض مع مبادئ السياسة الأمريكية، ولكن منح جيش مصر الفرصة للتفوق العسكرى يضر بالمصالح الأمريكية، فى ذلك الوقت رد عبدالناصر الصفعة لأمريكا، ولجأ للكتلة الشرقية فى صفقة الأسلحة الشهيرة التى غيرت معالم المنطقة.
تكرر نفس الموقف عندما فكر عبدالناصر فى بناء السد العالى، ولجأت مصر إلى البنك الدولى لمساعدتها فى تمويل بناء السد.. هنا تحالفت أمريكا وكل الدول الغربية على مصر، ورفضت التمويل بصفاقة، ولكن هذا الغرور وقلة الأدب كانا يخفيان خوفا هائلا لدى الدول الغربية، فبناء السد سيغير وجه مصر الاقتصادى والاجتماعى ويوفر لمصر الفرصة لتحولها إلي دولة صناعية.. باختصار يوفر لمصر الفرصة لتصبح قوة اقتصادية.. بعد حرب السويس وخروج عبدالناصر منتصرا خُلقت عقدة الجنرال المحبوب لدى أمريكا وحلفائها فى أوروبا، فعبدالناصر بنى سمعة للجيش المصرى.. جيش يحمى المواطن ويوفر له احتياجاته.لقد كانت شعبية عبدالناصر وانطلاقاته فى أكثر من دائرة بالعالم تضخم هذه العقدة، فيكفى أن تعرف مصر زعيما محبوبا، زعيما يثق فيه شعبه، ويلتف الشعب حول زعيمه وجيشه لتتحول مصر إلي قائدة فى العالم.. تغير خريطة العالم، وتخلق قوة ثالثة وطريقاً ثالثاً لكل الدول التى تشق طريقها فى العالم.
فى كل تجارب الدول حاربت أمريكا كل قائد عسكرى محبوب، وكل زعيم التف حوله شعبه.. تغير الرؤساء فى أمريكا، وتغيرت خريطة العالم بسقوط الاتحاد السوفيتى، ولكن بقيت حقيقة واحدة أو بالأحرى عقيدة واحدة: «لا يجب أن تحظى مصر بمثل هذا التوافق على زعيم أو قائد عسكرى».. على مر تاريخها.. سعت أمريكا إلى الحيلولة دون أن تعرف مصر هذا القائد أو الزعيم، وقد عبر عبدالناصر عن هذا التوجه بتعبير شعبى وبسيط، ولكنه معبر ومنحوت.. قال: «عمر ما ييجى من الغرب حاجة تسر القلب»، ولكن بعد عبدالناصر لم يجرؤ رئيس مصرى أو قائد عسكرى على مهاجمة أمريكا، وخضعت مصر لأسوأ عملية احتلال للقرار المصرى، فقد أصحبت أمريكا لاعباً رئيسياً فى السياسة المصرية.
فرصة السيسى
هكذا جرت الأمور فى مصر، منذ أن قال السادات: «إن 99% من أوراق اللعبة فى يد أمريكا» وحتى بعد السادات استمر لوبى أمريكا يروّج للفكرة الخطيرة والخاطئة، فكرة أن مصر لا تستطيع العيش دون الرضا الأمريكى، وكانت رحلات حج مبارك لأمريكا هى معيار نجاحه ومؤشر استمراره، وحتى عندما قامت الموجة الأولى من ثورة يناير ظلت أمريكا تلعب نفس الدور من وراء ستار، وبشكل فج أحيانا.. تخلت أمريكا عن مبارك سريعاً، لم تطلب زيارته فى محبسه، ولا سألت عن مصيره، لسبب بسيط، فقد كان البديل جاهزاً.. كان وجود الإخوان ضمانة لاستمرار المصالح الأمريكية.. لم تؤيد أمريكا 25 يناير إيمانا بحق المصريين فى اختيار حاكمهم، ولكنها كانت واثقة من أنها ستظل تلعب فى السياسة المصرية من خلال الإخوان، ولكن عندما قامت الموجة الثانية من الثورة فى 30 يونيو، وتجاوزت أعداد المصريين الرافضين لمرسى أعداد الرافضين لمبارك.بدت أمريكا فى ورطة، وبدأت الضغوط على مصر، والحجة أو بالأحرى الشماعة جاهزة.. أمريكا تفكر وتفكر وتفكر هل ما حدث فى مصر انقلاباً عسكرياً أم لا.. لم تقنعها الملايين الذين ملأوا كل الميادين فى مصر المرة تلو الأخرى، وكانت معظم الضغوط على الجيش أو على الفريق السيسى.
لقد فهم السيسى الدرس الأول والأخير.. يجب ألا يقف الجيش مع أحد غير الشعب، ويجب ألا يتأخر عن تلبية نداء حمايته، والأهم أن قوة الجيش وقائده فى قوة علاقته بالشعب، ولذلك عادت العقدة الأمريكيةوالغربية.. الشعب يبادل الجيش دعما ومساندة.. بدأت أمريكا بالورقة الجاهزة «المعونة العسكرية»، ورد السيسى بانتقاد أمريكا وأوباما فى عقر دارهم، فى حواره مع ال«واشنطن بوست» انتقد عدم دعم أمريكا لثورة الشعب المصرى، ونفى نيته للترشح للرئاسة أو فى لعب دور سياسى أو فى الحكم، ولا هذا ولا ذاك سيؤثر قليلا أو كثيرا على الموقف الأمريكى، فالضغوط الأمريكية مستمرة، ولكن الأخطر أنها دخلت مرحلة خطيرة لأنها مرحلة تتعلق بالسيادة المصرية.. بل إن أمريكا تفضح مخططها ونيتها لمصر فى المستقبل.
دعم الشعب أم دعم أمريكا؟
يروج أعداء الثورة المصرية لمقولات من نوع أن مصر مهددة بحرب أهلية أو بالتقسيم ما بين إخوانى ومصرى، ولم تجد أمريكا فى شعبها سفيراً جديداً لمصر سوى سفيرها فى سوريا، وهو اختيار مثير للدهشة ويوحى بمعانٍ يرفضها المصريون، ولكنه يكشف أيضا عن تصور أمريكا لمستقبل مصر.. أكبر أخطاء المرحلة الانتقالية هو السماح للوفد الأمريكى بزيارة خيرت الشاطر، وأكبر خطيئة ترتكب فى حق الثورة ومصر هو الإفراج عن قيادات جماعة إرهابية أو الإفراج عن أموالها التى اشتروا بها أسلحة لقتل المصريين.. لقد رسمت صور الوفود الأجنبية العديدة والزيارات المكوكية صورة بغيضة ومهينة للسيادة المصرية والقرار المصرى.. زيارات لمرسى وأخرى للشاطر، وضغوط أمريكية لصفقة الإفراج عن قيادات الإخوان مقابل فض الاعتصام.. ربما يرى البعض فى هذه الصفقة حقنا لدماء المصريين، ولكن هذه الصفقة هى نهاية أكبر معنى أو هدف للثورة المصرية، فإن إفلات المجرمين والإرهابيين الملوثة أياديهم بدماء المصريين هو هزيمة لروح الثورة.. هزيمة معنوية ستؤدى لشرخ فى إحساس الملايين من المصريين بالتفويض المتبادل بينهم وبين الحكم الجديد بشكل عام، والجيش بشكل خاص، ولكن من ناحية أخرى فليس هناك أى ضمانة بألا تعاود هذه القيادات وجماعة الإخوان تنظيم جناحها الإرهابى المسلح. نحن لا نحقن الدماء، ولكننا نؤجل فقط المواجهة بين السلاح والحوار.. ليست هناك ضمانة واحدة بأن تلتزم هذه القيادات بالسلمية فى التعبير عن الرأى، أو بخارطة الطريق التى ارتضاها المصريون بعد 30 يونيو، ولكن حين تعود الجماعة لأساليبها الإرهابية والمسلحة مرة ثانية وعاشرة، فإن شكل الخريطة السياسية سيصيبه التغير، أو بالأحرى الإحباط والتشكك، فليس من حق أحد التنازل عن دم المصريين، وليس من حق أحد أن يفرج عن متهم بقتل المصريين من السجن.. الحفاظ على دماء المصريين لن يتم إلا بمعاقبة من قتلوا المصريين بالقانون، ولكن أى حديث عن صفقة بالإفراج عن قيادات الإخوان تفتح الباب لمزيد من دماء المصريين.. لا تخسروا دعم المصريين ولا تشقوا الصف المصرى.. اقرأوا التاريخ جيدا، فدعم المصريين ووحدتهم أهم ألف مرة من دعم أمريكى أو غربى.. شبر من دعم المصريين ووحدتهم أهم من ألف فدان من دعم أمريكى أو أجنبى.
أمريكا لن تقبل مرة أخرى بقائد محبوب من شعبه، وأمريكا لم تتخلص من عقدة الجنرال المحبوب.. لن ترضى بخارطة طريق تدفع مصر للأمام.. ما تفعله أمريكا الآن هو غرز شوكة فى جسد مصر، وفى خارطة طريقها، وأبلغ دليل هو اختيارها لسفيرها فى سوريا ليقود الدبلوماسية الأمريكية فى مصر خلال المرحلة القادمة.
امنعوا الزيارات الأجنبية لمرسى وكل قيادات الجماعة، أوقفوا أوكازيون الزيارات الأجنبية.. لا وساطة مع مجرم أو قاتل.. إذا أفلت قيادات الإخوان من العقاب الآن، فتخسر الثورة الكثير من قوة دفعها.. لا تصالح مع من قتل المصريين واستباح الدم المصرى، والأمن المصرى.
لا تمنحوا فرصة لأمريكا بأن تحدث شرخا فى وحدة الشعب، وأن تترك ثعبانا يبث سمه فى السياسة المصرية.. لا تزيدوا مشاعر الإحباط.. احقنوا دماء المصريين، ولكن يجب ألا يكون الثمن هو التضحية بوحدة الشعب وثقته فى ثورته، وإحساسه بأن الجميع مدعو للتدخل فى الشأن المصرى، فالمصرى لديه حساسية من التدخل فى سياسته.. لا تكرروا أخطاء المرحلة الانتقالية الأولى، التى جرت علينا مرسى وأهله وعشيرته.. يجب أن يحاسب ويحاكم مرسى وكل من أخطأ فى حق المصريين.. لو كنا نريد مستقبلاً أفضل لمصر، لو كنا نريد للثورة أن تحقق أهدافها يجب أن تختفى أحاديث الصفقات لصالح أحاديث المحاكمات.
ثقوا فى الشعب المصرى وقدرته على الاحتمال والصمود، ولا تراهنوا على أن المصريين لم يستطيعوا مواجهة الفترة الصعبة.. لقد كان التفويض واضحا، وقبوله كان أكثر وضوحاً وحسماً.