جريت أبحث عنها لأختبئ بين أحضانها.. امتدت يدها إلى ذاك الكتاب الضخم ذى الأوراق الصفراء التى تُخبئه فى صوان ملابسها.. فتحت صفحته الأولى وسرحت بخيالها بعيدا.. فقلت لها: «هاهو شهر آذار يأتى من جديد.. جئت بحسب موعدنا.. جئت لأستمع إلى عزف أناملك على قيثارة الأيام.. جئت لأنتهل من كلماتك بصيصا للأمل من جديد.. تُرى ماذا ستقصين على اليوم؟».
قالت: «كُن يصرخن همساً.. كان التاريخ يخرج من بين أصابعن لتتلقفه أوراق البرديات.. كانت زهور اللوتس تسترق السمع لأحاديثهن فتورق بألوان الحياة.. فالمرأة يا ابنتى حين تكتب فى الظلام تٌصبح كلماتها مقصلة للحريات.. وحين تلتحف بلون الشمس تُصبح أفكارها فنارا للسفن فى بحور الحضارات.. دعينى أبدأ من البداية».
صمتت قليلا ثم عادت تقول:
«تُرى ما هو سر نفرتيتى؟ أهو رقبتها الممشوقة المسحوبة فى رشاقة مثل الزهرة تتمايل فوق الغصن أم هو وجهها الأخاذ؟ كلا.. إنها الثقة.. فعندما تصبح المرأة واثقة تلاحقها العيون ويرمح وراءها الفرسان خاطبين ودها.. إنها النظرة التى جسدها تمثالها الخالد بمعبد أبى سمبل بجنوب أسوان».
«تحكى رواية (غانية النيل) عن كليوباترا تلك الملكة التى قيل عنها إنها كانت عالماً كاملاً فى جسد إمرأة.. المرأة التى سلبت قلبى أعظم قائدين فى عصرها، يوليوس قيصر ومارك انتونى.. إنها المرأة الفطنة الذكية التى اجتازت كل العقبات لتصل إلى غايتها، فعندما زار قيصر مصر، أخذته فى رحلة نيلية لتعلمه فن السير على مهل وسط الطبيعة، فيعود القائد العظيم إلى روما ويقيم لها تمثال ذهب فى معبد فينوس».
«عندما أصدرت روزاليوسف أول مجلة مصرية تحمل اسم إمرأة، كتب عبد القادر المازنى عنها فى عددها الأول إنها نزوة طارئة!، ردت السيدة العظيمة عليه قائلة:
«فلتكن نزوة، ولكنى أعتقد أن كل عمل مجيد يكون فى أوله نزوة طارئة، ثم يتحول إلى فكرة، فإذا رسخت أصبحت يقينا فجنونا».. وبعد مرور 6 أعوام تحولت المجلة من نزوة عابرة إلى يقين راسخ.. إن لروز اليوسف حضوراً أخاذاً لا يتكرر جعل النقاد يطلقون عليها لقب (سارة برنار الشرق)..».
«لقد ورثت تحية حليم الموسيقى عن والدتها عازفة العود، فنقلت تحية الموسيقى من الأذن إلى العين حين قررت أن تصبح رسامة تعزف بريشتها صورا وتنقل ظلالا لا تراها غير عينى الفنان.. لقد اختلط الفن عندها بين ما ترى وما تتصور، وعندما سافرت إلى باريس بلد الفن والفنانين، تعلمت منها وعلمت فيها، ولكن بقيت رحلتها الأكيدة فى بحور الفن المصرى هى البحث عن معنى الوطن.. معنى مصر.. فأصبحت أشهر رسامات جيلها، لتبقى لوحات تحية حليم هى غزو دائم لقلب مصر».
«كانت إنجى أفلاطون تسكن شارع شمبليون فى قلب القاهرة، وكانت تدرس الفرنسية فى مدرسة داخلية أسوارها عالية، فأصبح هروب عقلها خارج أسوار المدرسة قدراً اختارته.. ولم تكتف إنجى بالرسم للتعبير عن مكنون نفسها بل قادتها عاطفة العصيان والاستقلال إلى التمرد والثورة.. فألقت بنفسها فى أحضان الحركات السياسية الغاضبة، وكان الرد عليها هو سجنها فإذا بها تكتشف أنها خرجت من سجن الطبقة الأرستقراطية إلى سجن المدرسة الداخلية إلى سجن النساء!.. وهناك اكتشفت أنها تحترف الفرنسية وترتبك بالعربية، فقررت استرداد مصريتها.. فغاصت فى قلب المجتمع المصرى تنتهل بريشتها حرية نسائه ونكهة أزقته».
«كان صالون مى زيادة فى بيت أبيها بشارع أبو السباع (عدلى الآن) ملتقى المفكرين والآدباء.. كانت مى فى ذلك العصر من قلائل النساء التى كشفت عن وجهها وقصت شعرها الطويل على موضة «ألا جارسون».. ومى كانت شاعرة وأديبة تعرف دور الصالونات النسائية الباريسية وخصوصا صالون الماركيزة دى سيفينييه.. فاهتمت بالدفاع عن تحرير المرأة بكتاباتها فى جريدة الأهرام، وبقدر ثقافتها الأجنبية أتقنت اللغة العربية ودافعت عن الموسيقى الشرقية، وعلى الرغم من كثرة الرجال حولها إلا أنها اختارت جبران خليل جبران لتُخلص له الحب ولتخترع معه فنا جديدا لم يعرفه الأدب المصرى من قبل وهو فن الرسائل».
«كانت هدى هانم شعراوى زعيمة الحركة النسائية المصرية منذ ثورة 1919 على الرغم من أنها ختمت القرآن وهى صغيرة، وقد اكتشفت أن تعليم المرأة هو الحل لإنقاذها.. كما اعترفت هدى بأن الحركة النسائية فى بدايتها لم تطالب برفع الحجاب من على الرءوس ولكن من فوق العقول! واهتمت بإنشاء أول مدرسة لتعليم البنات فى شبرا ثم أنشأت مبرة محمد على فى شارع البرامونى.. ورسخ التاريخ جملتها الشهيرة: «إن تحرير المرأة هو تحرير الرجل من المرأة الجاهلة»..».
«هذه السيدة القوية التى تمتلك كبرياء ممزوجاً بالرقة والوداعة، هى أم المصريين صفية زغلول.. السيدة التى وقفت فى وجه المندوب السامى حين عرض عليها أن تذهب إلى زوجها فى جزيرة سيشل وقالت له كلماتها الخالدة: «أنتم تستطيعون أن تنفوا جسم سعد ولكنكم لن تنفوا روحه، فالشعب لن يسمح بغيابه أو إبعاده طويلا، وسأكون أنا سعد حتى يعود، وسأفعل كل ما أستطيع لإشعال روح الثورة فى سبيل استقلال مصر».. وبدأت صفية زغلول صفحة كفاح مجيدة لسيدات مصر بزعامتها».
ويبقى شهر مارس هو شهر المرأة المصرية.. وتبقى المرأة المصرية هى سر الكون وقنديل الحرية.. وتبقى مصر شاهدة على ولادة نساء كتبن التاريخ بأقلامهن وأصواتهن وأفكارهن.. وستبقى نساء النيل أبدا هن الأمس بانتصاراته واليوم بمعاركه والغد بأحلامه..