فشلت طائرة الخطوط البريطانية التى حملتنى من واشنطن إلى لندن فى أن تجد مطارا جاهزا لاستقبالها.. وتحمل مسئوليتها.. كانت عواصف الجليد المفاجئة قد غطت كل ما يصادفها.. وجمدت كل من يقف فى طريقها.. بما فى ذلك الملكة اليزابيث الثانية التى أجبرت على أن يكون الاحتفال بمرور ستين سنة على توليها العرش احتفالا محدودا داخل قصر باكنجهام. لم يجد قائد الطائرة مفرا من أن يتجه إلى أيرلندا.. ليهبط فى مطار مقاطعة تسمى شانون.. متحديا قدره.. وربما مخاطرا بحياته.. فأيرلندا ليست فقط خصما سياسيا قديما لبلاده.. وإنما، وهذا هو الأهم، منافس شرس لها فى كرة القدم.. ولا تنتهى مباراة بينهما إلا بموجة ساخنة من العنف تسجل رقما قياسيا دائما.. ولكن.. ما حدث فى بورسعيد تجاوز كل ما فات من شراسة فى المدرجات والملاعب. كانت الصدمة شديدة.. والدهشة أشد.. فمستحيل أن ينتهى حماس المشجعين مهما انفلتوا إلى هذه الكارثة البشرية المروعة التى جعلت صحافة العالم تضع صورها فى صدر صفحاتها الأولى دون أن تتجرأ واحدة منها على كشف أسباب ما حدث.. فالكل تبارى فى طرح علامات الاستفهام.. لكن.. لا أحد نجح فى أن يجيب عن سؤال واحد. هل تواطأ الأمن بالوقوف مكتوف الأيدى تاركا ماكينة القتل تحصد من يصادفها دون أن يستيقظ ضميره ويوقفها ؟.. هل استفاد المجلس العسكرى مما حدث منتظرا أن يلجأ إليه الناس طالبين الحماية والرعاية، فيظل فى مكانه قائما حاكما مسيطرا ؟.. هل زادت مكاسب الإخوان بإبعاد شباب الألتراس عن السياسة وإلهائه فى الثأر من جمهور النادى المصرى الذى يصر على أنه المسئول الأول عن المذبحة ؟ لقد بدأ الألتراس نشاطهم السياسى فى ميدان التحرير.. شاركوا فى الثورة.. وواجهوا بأجسادهم هجمات أعدائها فى موقعة الجمل.. وبعدها واصلوا مشوار الغضب العام بجرأة.. وكأنهم ينتمون لتنظيمات فدائية.. تجهز أفرادها على تفجير أنفسهم بسهولة. إن هذه الشجاعة التى ضاعفت من رصيد الثوريين أزعجت الإسلاميين والعسكريين.. فكان لابد من إعادة شباب الالتراس إلى خانة الكرة الضيقة.. وإجباره على ترك مساحة السياسة الرحبة.. كان يجب تأديبه.. وتحطيمه.. وكسر شوكته. وربما يدعم ذلك ما قاله باسم سمير المدير التنفيذى للمعهد الديمقراطى فى مصر لصحيفة الإندبندنت البريطانية : «إن ما حدث فى بورسعيد مدبر ومخطط ».. ف «عصابات البلطجية حصلت على حصة من أعمال معفاة من الجمارك فى بورسعيد مقابل خدماتها المتمثلة فى تخويف المتظاهرين ». وحسب ما نشرت صحيفة نيويورك تايمز : « إذا كان المجلس العسكرى لا يستطيع السيطرة على كرة القدم وهى فى البداية والنهاية لعبة فكيف يمكن له أن يدبر شئون بلد فيها أكثر من ثمانين مليون نسمة ».. وكانت هتافات المتظاهرين أمام وزارة الداخلية تعكس بصوت مرتفع هذا المعنى. وفى نفس الوقت يواجه المجلس العسكرى حملة مضاعفة فى الكونجرس والبيت الأبيض والخارجية بسبب تحويل عدد من نشطاء أمريكيين إلى محكمة الجنايات بتهمة العمل فى منظمات غير مرخصة لحقوق الإنسان فى مصر.. وتلقى أموال من الخارج.. وهو ما يهدد بمواصلة تقديم المعونة الأمريكية لمصر.. وهى حوالى 1500 مليون دولار سنويا.. منها 1300 مليون دولار معونة عسكرية.. ويحاول وفد عسكرى موجود الآن فى واشنطن أن يرمم الجسور المحترقة بين البلدين مستعينا بشركات علاقات عامة لن تستطيع وحدها تجاوز الأزمة.. ومع أن قرار إيقاف المعونة لايزال سابقا لأوانه فإن واشنطن تنتظر من المجلس العسكرى أن يتراجع عن قراره بمحاكمة المتهمين الأمريكيين.. وهو أمر يصعب تنفيذه. وتتعجب مراكز الدراسات الاستراتيجية المؤثرة فى صنع القرار الأمريكى من تصرفات المجلس العسكرى وتبررها بطريقة مؤلمة ومحزنة ومؤسفة وهى أن الجنرالات يريدون تسليم السلطة وكل شىء فى البلاد خراب.. فالاحتياطى النقدى يوشك على النفاد.. والبطالة وصلت إلى أكثر من ثلاثين فى المائة.. والمؤسسات الدولية لا تتحمس لإقراض مصر ما تحتاجه.. والاستثمارات المحلية والأجنبية تحت الصفر، لتصل السلطة إلى الإخوان وشركائهم ولكن وكل شبر فى مصر ملتهب.. ويصعب السيطرة عليه.. لينادى الشعب بعودتهم من جديد.. طالبا على الأقل الشعور بالأمن. وفى نفس الوقت وحسب مناقشات امتدت لساعات طويلة مع نفس المراكز فإن الإخوان تغيروا تماما عندما انتقلوا من المعارضة للسلطة.. فهم مستعدون لمنح قوات الأمن حصانة قانونية مضاعفة لإطلاق النار على المتظاهرين.. وهم يكتفون باستجوابات شكلية لوزير الداخلية ورئيس الحكومة على طريقة نواب الحزب الوطنى تنتهى باستمرار المسئولين فى مناصبهم.. فى مسرحيات لم تعد تقنع أحدا. وقد فتر حماس الإخوان لتشكيل الحكومة رغم الأغلبية التى حصلوا عليها فى الانتخابات البرلمانية.. فهم يرون أن فى حجرهم الآن كرة لهب.. فجموع الناخبين الذين صوتوا لهم يتوقعون منهم ما لن يقدروا عليه.. ومن ثم فإنهم لن يضعوا أنفسهم فى وجه المدفع.. محتفظين برئيس الحكومة الحالى حائط صد إلى حين انتخاب رئيس الجمهورية الجديدة ليتلقى عنهم الضربات والطعنات. وما يدعم ذلك أن الإخوان يعرفون جيدا أن نصيبهم الحقيقى من الشارع لا يزيد عن 15 20 % من حجم ما حصلوا عليه.. وما زاد عن ذلك سيخسرونه عند أول فشل فى تحقيق مطالب الناس التى لا تنتهى. ويتحالف الإخوان الممثلون للسلطة التشريعية مع المجلس العسكرى الممثل للقوة البدنية متجاهلين الضلع الثالث فى المعادلة السياسية وهو الثوار بكل ما فى نفوسهم من يأس وإحباط جعلهم يختفون « العسكر والإخوان خانوا الميدان ». ولاحظت مراكز الدراسات الاستراتيجية فى واشنطن أن التعاطف الذى انخفض مع ثوار التحرير عاد ليرتفع من جديد بعد حادث بورسعيد.. كما أن تهمة تعطيل الحياة التى كانت موجهة لهم قد نفيت تماما عندما خلا الميدان منهم لعدة أسابيع بعد حادث مجلس الوزراء.. ولم تتحسن معيشة المصريين.. كما أن عدوى الغضب والتمرد امتدت للمواطنين العاديين.. فطفلة تموت تحت عجلات سيارة مسرعة تكفى لقطع الطريق ساعات طويلة.. وعجز عائلة عن الحصول على أنبوبة بوتاجاز يكفى لحرق المستودع.. وهكذا أصبح التحرير سلوكا مصريا عاما.. تجاوز من يعشقون الميدان. ودون إدخال ثوار التحرير فى معادلة السلطة فإن لا أحد سينال ثمارها.. بل ستظل البلاد فى حالة فوضى لن تسمح لأحد بالاستمرار ولا بالاستقرار.. ويبدو أن دعوة العصيان المدنى ستنجح هذه المرة.. وهذه قصة أخرى. صحافة العالم تصف مجزرة بورسعيد بالمؤامرة وتحمل العسكر مسئوليتها الإندبندنت: تفجر الغضب الشعبى فى طول مصر وعرضها إثر مصرع 74 شخصا فى مباراة كرة قدم فى بورسعيد.. قتل متظاهر أمام وزارة الداخلية، ذلك الرمز المكروه منذ أيام مبارك. وقال علاء على عثمان الذى سافر مئات الأميال من محافظة البحر الأحمر ليتظاهر فى ميدان التحرير: «ماحدث ليلة الأربعاء كان جريمة.. لم يكن مجرد حادث لكنه كان أمراً مدبراً». نيويورك تايمز: مصرع 74 شخصا فى مباراة كرة قدم فى بورسعيد، أعاد تركيز الأنظار مرة أخرى على فشل الحكومة فى فرض النظام على الشوارع.. وفرضت تهديدا وتحديا جديدا على مصر فى تلك المرحلة الانتقالية الحرجة من تاريخها. وول ستريت جورنال: صب المصريون غضبهم على الجيش.. غمر الغضب شوارع القاهرة بينما وقفت أمهات يصرخن على باب المشرحة بعد علمهن بوفاة أبنائهن فى مباراة كرة.. خرجت العصا والسكاكين والأسلحة البيضاء والشماريخ لتسقط 74 قتيلا.. وليحمل المصريون المسئولية على النظام المصرى القائم. الفايناشيال تايمز: الموت يهز الأرض تحت السياسة المصرية.. فمصرع العشرات فى استاد بورسعيد، والتداعيات السياسية المباشرة لهذا الحدث، كشفت عن عمق الإنقسامات التى تعانى منها مصر ما بعد الثورة.. خاصة مع تبادل الجماعات والتيارات السياسية الاتهامات، حول من الذى يتحمل مسئولية ما جرى ل«74» شهيدا فى مباراة كرة. الديلى تليجراف: تمزقت القاهرة إثر الاشتباكات التى اندلعت فيها بعد كارثة مباراة استاد بورسعيد.. قال أحمد خيرى، أحد المعتصمين أمام مبنى وزارة الداخلية:» كانوا يضربوننا بكل شىء، ثم يسحبون أى شخص يسقط على الأرض ويأخذونه بعيدا.».. أصوات سيارات الإسعاف لم تكن تكف عن العويل فى الميدان.. ويلوم المتظاهرون الجيش على وفاة شهداء المباراة، ويطالبون المشير بتسليم السلطة فورا.