وقف الطغاة على هامش التاريخ.. يلقون نظرة الوداع معتقدين أنهم سيهربون من أشباح ضحاياهم.. يتوقع الطغاة دوما أنهم يكتبون مصائر العالم ببياناتهم على موسيقى المارشات العسكرية.. كما يتوقع الطغاة أن يرسمون المستقبل بينما يخرجون علينا من كتب قديمة صفراء.. هم جزء أصيل من الماضى.. لا يتجاوز دورهم دور عساكر الدرج فى ملحمة شعبية يكون بطلها هو ابن البلد.. الحامى.. المقاتل والفدائى. من يعرف منا.. الطغاة الذين وقفوا أمام أبو زيد الهلالى.. من يعرف منا الطغاة الذين سجنوا أدهم الشرقاوى.. من سيعرف من أولادنا قتلة مينا دانيال والشيخ عماد عفت وعلاء عبدالهادى وخالد سعيد وسالى زهران.. فقط نعرف الأبطال بينما قاتلهم سيلقون فى أبعد نقطة عن وعينا وذاكرتنا.. ستنسى ذاكرة هذه الأمة اللواء عتمان صاحب اتهام الثوار بأنهم يقيمون العلاقات الجنسية الكاملة فى الميدان كما ستنسى اللواء الروينى صاحب الإشاعات والذى حرَّض أهالى العباسية على مواجهة الثوار، ليبقى شهيدنا محمد محسن فى ضميرنا ويرحل الروينى إلى مصيره.. كما سيرحل المشير نفسه ويتحول لأيقونة لنهاية حكم العسكر فى مصر والذى بدأ من 60 عاماً.. لتبقى الثورة ويذهب حكم العسكر.
انطلاقاً من هذا الوعى.. خرجت صرخة حملة جديدة هى «حاكموهم» لم يعد يقضى أن نعيش فى وطن تحولت فيه المحاكم إلى سيرك تمارس فيه كل ألعاب المهنة وكل حيل القانونيين، كما لن نستطيع أن نطلب من المواطنين المصريين بعد عصر الثورة أن يعيشوا فى ظل دولة القانون وان يحترموها بينما يعيش مبارك وحاشيته فى سجون 5 نجوم ويحاكمون بقانون مهترئ وضعيف، ويخرج بالقانون أيضا كل الضباط قتلة الثوار حاصلين على البراءة من جميع الاتهامات الموجهة إليهم.. أى دولة قانون هذه التى يتحدث عنها قيادات المجلس العسكرى وأى عقد اجتماعى سيستقيم فى دولة غاب فيها العدل واعتدى عليه حتى صار قعيدا منهكا.. لم يعد هناك حل سوى العدالة الثورية والمحاكمات العادلة الناجزة التى اذا قامت ولت دولة الظلم إلى غير رجعة، وإذا فشلت ظلت مصر عند المربع «صفر» دون حراك.
فكرة حملة «حاكموهم» انطلقت من مجموعة من الثوار الشباب الذى عملوا خلال الفترة الماضية فى مبادرات شعبية مثل حملة «كاذبون» والتى تقضى بأن يتم الدعوة إلى محاكمة كل الذين ارتكبوا جرائم فى حق المصريين بداية من السرقة والنهب المنظم وصولاً إلى القتل وإصابة الآلاف منهم أثناء أحداث الثورة المصرية منذ يناير 2011 وحتى ديسمبر من نفس العام والتى عرفت باسم أحداث مجلس الوزراء.. لا يوجد مبرر أن يستثنى احد من قوائم قتل الثوار سواء الذين قتلوا فى عهد مبارك أو الذين قتلوا فى عهد المجلس العسكرى وجنرالات الجيش الكبار.
العمل داخل الحملة الجديدة ينقسم إلى عدة محاور، الأول هو الشق القانونى والذى يدور حول البحث عن مفهوم جديد للعدالة الثورية التى تناسب المرحلة التى تمر بها مصر بعد الثورة والتى أفلت منها الكثير من المجرمين الذين يعيشون حياتهم بشكل طبيعى وكان شيئا لم يكن، ومن المفترض أن يقوم عدد من المحامين والقانونيين والقضاة بالوصول إلى صيغة لمشروع قانون جديد يتم عرضه على مجلس الشعب للتصرف فيه وفقاً لصلاحياته.
أما المستوى الثانى فهو المستوى الشعبى، حيث يتم طباعة أكبر قدر من الاستيكرات والبنرات لتوزيعها على المواطنين فى الأحياء والمحافظات وأثناء المظاهرات فى الميادين، وكذلك استغلال كل الآليات التى استخدمت فى حملة «كاذبون» فى السابق عن طريق استخدام البرجكتور والمادة الفيلمية المصورة لتوصيل فكرة الحملة أسرع من الكلام ولكن تبقى الآلية الرئيسية التى يتم العمل من خلالها فى هذه الحملة هى «حملة المليون توقيع».
«حملة المليون توقيع» هى الوسيلة التى سينزل من خلالها أعضاء حملة «حاكموهم» إلى الاحياء والمحافظات من خلال عريضة توقيعات للحصول على توقيع المواطنين على محاكمة كل الذين ارتبكوا جرائم فى حق المصريين خلال فترة حكم مبارك وخلال أحداث الثورة كاملة وليس يناير وحده، بحيث يكون مدى هذه الحملة هو شهر يونيه المقبل وهو الموعد الذى حدده المجلس العسكرى نفسه لتسليم السلطة للمدنيين ولذلك لتبديد أوهام الخروج الآمن للعسكر والتى يتوقع أن يخرج كل الذين ارتكبوا جرائم فى حق المصريين إلى منازلهم آمنين، وذلك فى حالة أن قرر جنرلات المجلس العسكرى تسليم السلطة أصلا.. ومن المفترض أن مشروع القانون المقترح الذى لا يزال فى وضع جنينى حتى الآن، يقضى بأن يحاكم الجميع سواسية كما كان القتل سواسية بين جموع المصريين، ومن المفترض أن تقدم عرائض التوقيعات إلى ممثلى الشعب فى مجلسهم الموقر فى حالة انتقال السلطة من المجلس العسكرى إلى المدنيين، إن لم يصدر مجلس الشعب نفسه قانوناً يمنح أى حصانة لأعضاء المجلس العسكرى.
وكما ذكرنا أن مشروع قانون العدالة الثورية لا يزال «جنينى» ويحتاج إلى ورش عمل قانونية عديدة، لكن ملامح القانون الرئيسية ظهرت فى الورقة التى شارك بها احمد راغب، المحامى ومدير مركز هشام مبارك للقانون، الذى أكد فى ورقته البحثية المبسطة عن العدالة الثورية، أن عدم وضوح مطالب الثوار منذ البداية فيما يخص المحاكمات هو الذى جعل السلطة الحالية تحاكم رجال عصر مبارك بطريقة تفتقر إلى العدالة أصلا ومع ذلك فإن المناداة بمحاكمات ثورية لرجال عصر مبارك وقتلة الشهداء لا تعنى محاكمتهم محاكمة استثنائية مثل إحالتهم للمحاكم العسكرية على الرغم من أن مبارك والمجلس العسكرى نفسه أحالوا الآلاف إلى القضاء العسكرى وصدر ضد المحكوم عليهم احكام بين يوم ليلة دون تحقيق أو أى إجراء قانونى عادل، وليس المطلوب ايضا قانون غدر كما فعلت سلطة يوليو حين سيطرت على الحكم وسنت قوانين ليست لحماية أهداف حركة يوليو أو الشعب ولكن لحماية سلطة يوليو وجنرالات الجيش، وهذا ما ينقلنا إلى الحديث عن ماهية المحاكمات الثورية والتى حاول احمد راغب المحامى الاجابة عنها.. اشار راغب إلى أنه لا يمكن تلخيص تاريخ العقوبات المصرى فى المرحلة التى حكمت مصر حكما عسكريا، فهناك مساحة واسعة داخل القانون، ومن خلالها قدم راغب اقتراحا قانونيا لمشروع العدالة الثورية كالتالى: تشكيل هيئة للمحاسبة والعدالة تختص تلك الهيئة بتلقى البلاغات والشكاوى المتعلقة بالنظام السياسى السابق منذ عام 1981 وحتى الآن سواء المتعلقة بجرائم نهب أموال الشعب أو جرائم التعذيب أو القتل خارج إطار القانون، والمعتقلين وغيرها من الجرائم سواء الاقتصادية أو الجنائية، على أن تقوم تلك الهيئة بإعداد ملفات لمجرمى النظام وفقا للأصول القانونية الإجرائية المتبعة وتسترشد فى عملها باتفاقيات ومواثيق حقوق الإنسان الدولية وبالاستعانة بمنظمات حقوق الإنسان المصرية والدولية المعنية، على أن تنتهى مهمة هذه الهيئة بمحاكمة مسئولى النظام الحاكم السياسيين والتنفيذيين لمحاكمة تتوافر فيها ضمانات المحاكمة العادلة والمنصفة، بما يضمن أيضا عدم إفلات مسئولى النظام البائد وعلى رأسهم مبارك من الإفلات من العقاب.
تتشكل هذه الهيئة بمرسوم الذى يشمل تشكيلها وأعضاءها وطريقة عملها وطرق الطعن على قراراتها، وتختص تلك الهيئة بتلقى الشكاوى والبلاغات من المواطنين وتتكون من قضاة حاليين وسابقين وبعض الشخصيات العامة محل التوافق المجتمعى بشرط ألا يكونوا قد تولوا أى مناصب تنفيذية فى النظام البائد، على أن تقوم تلك الهيئة بإعلان نتائج التحقيقات على الرأى العام، ويعين وزير العدل قضاة تحقيق لإحالة المتهمين فى هذه الجرائم لمحاكمات عاجلة، وفقاً لنص المادة 65 من قانون الإجراءات الجنائية. ويضاف إلى هذا الاقتراح، اقتراح قانونى آخر هو سن مشروع قانون جديد يعتمد فى بنوده على المواثيق الدولية لحقوق الإنسان والعهد الدولى، لكن جوهر فكرة العدالة الثورية يظل باقيا فى قلب الفكرة ذاتها. وبعيدا عن الإجراءات القانونية، يسارع الثوار بتقديم المباردة لالتفاف المجموعات السياسية حولها، حيث تجتمع القوى السياسية للتنسيق على عمل حملة «حاكموهم» خلال الفترة القادمة بالإضافة إلى التحضير لمؤتمر صحفى لتدشين الحملة إعلامياً وتقديم طلباتها وإعلان أهدافها، كما تشارك الحملة بأولى فعالياتها خلال الذكرى الأولى لموقعة الجمل فى 1 و2 فبراير.