صدق أو لا تصدق.. جلسة لتحضير الأرواح فى العقد الثانى من القرن الواحد والعشرين، ولم أستغرب، فمعظم المؤشرات التى تحدد اتجاه الريح فى اللحظة الراهنة، لا تبتعد كثيراً عن هذه العقلية فى الواقع. السؤال الوحيد الذى ظل يتردد فى ذهنى هو: ما الذى أعاد إلى حيز الوجود ظاهرة تحضير الأرواح التى انتشرت - مع سائر ما طفح من الدمامل المشابهة على جلد الوطن - فى أعقاب نكسة 1967؟ لابد أن قيام الدولة الإخوانجية يشكل نكسة جديدة أخطر من تلك بمراحل. الدعوة تلقيتها من نجمة سينمائية مخضرمة أعرفها بحكم اشتغالى فى بلاط صاحبة الجلالة، قالت لى إنها تخاف أن تذهب إلى مكان كهذا بمفردها، فلم أجد بدا من الموافقة على سبيل الشهامة، بالإضافة إلى علامات الاستفهام التى راودنى الأمل فى أن أعثر لها على إجابات خارج ما هو نظرى.
كنت أعرف أن الشقة الفاخرة التى ستقام فيها الجلسة تقع فى شارع عدلى، وأن صاحبها واحد من أهم تجار الورق الملتحين فى مصر، أطرف ما فى الأمر.. أنه يكره من كل قلبه هذا الشىء.. الذى اسمه: القراءة، ولا حتى من باب الفضول ليعرف ما الذى يطبعونه على كل تلك الأطنان من الورق التى يبيعها لهم. الجميع ينسبون إليه هذه المقولة: الورق الأبيض الخالى من الكتابة أربح كثيراً من المطبوع.
أخبرنى مدرس التربية البدنية - الذى هو ابن خالة صاحب البيت - بأن لكل شخص من الموجودين الحق فى أن يطرح على الروح سؤالاً واحداً فقط.. حتى يتيح الفرصة لغيره، وأن الوسيط هو دائما من يتلقى الرد الذى يأتى على هيئة صوت احتكاك القلم المثبت فى أسفل السلة بسطح الورقة، وأن العشاء سيكون قبل بداية الجلسة بتسعين دقيقة ليتمكن الجميع من الدخول فى الجو.
الغرفة الواسعة كانت خالية تماما من قطع الأثاث، باستثناء مقاعد من الخيزران المدهون بالأزرق الذى يتناسب مع طبيعة الموقف، احتلها جميعا صاحب البيت ومدرس التربية البدنية والوسيط، فضلاً عن المائدة الحمراء المستديرة التى وضعوا فوقها عدة الشغل، الباقون اصطفوا بمحاذاة الجدران الأربع على خدديات كبيرة نسبياً، كما لو أنها معدة خصيصاً لهذا الغرض. الغمغمة غير المفهومة بدأت تصدر عن الوسيط الذى يتقاضى - كما علمت - ألف جنيه عن الجلسة الواحدة بخلاف الإكراميات.
ما أن غرقت الحجرة فى الظلام الدامس دون سابق إنذار، حتى اصطكت من الرعب أسنان النجمة السينمائية المخضرمة التى تربعت على الخددية المجاورة لى. حدث هذا بالتزامن مع عاصفة من الشهقات الأخرى المتفاوتة فى شكل التعبير عن الاضطراب أو حدة الشعور بالفزع. بدأ كما لو أن أعدادا هائلة من الأشباح المجهولة الأسماء أو الملامح تصعد الآن بالجلاليب القصيرة من تحت الأرض هنا فى قلب القاهرة. وعلى الفور تدافعت الأسئلة كلها فى نفس الوقت. عمرى ما تخيلت أن الناس يخافون من المستقبل إلى هذه الدرجة.
استجمعت النجمة السينمائية المخضرمة التى تربعت إلى جوارى على الخددية قواها لتسأل الروح: متى ستعلن النجمة السينمائية المخضرمة الأخرى اعتزالها؟
السؤال الوحيد الذى لم يكن شخصياً، جاء من رجل ظل طوال الوقت يحرك شفتيه بلا توقف، كأنما هو يكلم نفسه. تنحنح طويلاً ثم همس: متى ستنزاح عن مصر هذه الغمة؟ اعترض على السؤال صاحب البيت ومدرس التربية البدنية والوسيط وبعض الحاضرين، لكنهم اضطروا إلى إجازته نظراً لإصرار الرجل. أتت اجابة الروح قاطعة: لن يحدث هذا أبداً بإذن الله.
ولم أتخلص بعض الشىء من شعورى بضيق التنفس إلا فى الشارع، عندما استمعت إلى كلام حقيقى يتبادله الناس الحقيقيون عن أوجاع حقيقية. ياه! كل هذا علينا أن نغيره! قلت فى نفسى: معلش - لكن كلمة: «معلش» لم تقلل من إحساسى الرهيب بالاختناق