تنسيق الدبلومات الفنية.. 70% حد أدنى للتقدم لمكتب التنسيق للالتحاق بالجامعات    وزير الخارجية: أبناء مصر بالخارج ركيزة أساسية لتعزيز مكانة مصر إقليميًا ودوليًا    أسعار الخضراوات والفاكهة اليوم الإثنين 14 يوليو 2025 بالأسواق    ارتفاع أسعار الذهب في الأسواق اليوم الاثنين 14 يوليو 2025    وزير الزراعة يؤكد أهمية فتح آفاق جديدة أمام المرأة الريفية والشباب    استمرار أعمال لجنة تأمين محطات مياه الشرب والصرف الصحي بالأقصر    نتنياهو يجدد تهديده باستئناف الحرب على غزة بعد اتفاق وقف إطلاق النار لمدة 60 يوما    تصعيد دموي في غزة.. 7 شهداء بغارات إسرائيلية واستمرار قصف الأحياء السكنية    وزير الخارجية والهجرة يعقد لقاءات مكثفة مع عدد من نظرائه الأفارقة وكبار مسئولي الاتحاد الإفريقي    مفاوضات الدوحة.. عضو المكتب السياسي بحركة حماس: وصلنا في نقطتين إلى طريق شبه مسدود    تفاصيل أزمة شوبير ومحمد عمارة.. تهديد ولجوء للنيابة العامة    حالة الطقس اليوم في الكويت    اليوم.. جنايات البحر الأحمر تنظر قضية أكبر جالبي ومهربي المخدرات بعد ضبطهم ب50 كيلو آيس    نقاشات فكرية معمقة حول الوعي والذوق المسرحي بالمهرجان القومي للمسرح    بعد غياب 16 عاما.. نبيل شعيل يعود للغناء في مصر أغسطس المقبل    غدًا.. طرح ديو "الذوق العالي" لمحمد منير وتامر حسني    رسميًا الآن.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الاثنين 14-7-2025 في البنوك    سعر الأسمنت اليوم الاثنين 14 - 7-2025 الطن ب4 آلاف جنيها    تقرير أمريكي عن محاولة اغتيال ترامب: ما حدث فضيحة    عمرو يوسف يروّج ل"درويش" بصور من التريلر الثاني والعرض قريبًا    ننشر مواعيد امتحانات الدور الثاني بمحافظة القاهرة    تصحيح امتحانات الثانوية العامة 2025 يدخل مرحلته النهائية.. تفاصيل جديدة حول إعلان النتيجة    حميد الشاعري يتألق في افتتاح المسرح الروماني (فيديو)    بعد بيان الأهلي.. إبراهيم المنيسي يكشف مصير بيع إمام عاشور.. وجلسة حاسمة    تطورات «الضبعة النووية» بعد تركيب المستوى الثالث لوعاء احتواء المفاعل الثاني    ترامب يتهرب من الرد على سؤال حول العقوبات الجديدة ضد روسيا    بكام طن الشعير؟.. أسعار الأرز وقائمة السلع اليوم الإثنين 14 -7-2025 ب أسواق الشرقية    تنسيق معهد فني تمريض والدبلومات الفنية 2025.. مؤشرات القبول ورابط تسجيل الرغبات    أجواء حارة وشبورة.. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم الإثنين 14 يوليو    «عمري ما هسكت وأنا مبخفش من حد».. مصطفى يونس يفاجئ مجلس الأهلي برسائل نارية    أفضل عشاء لنوم هادئ وصباح مفعم بالطاقة    تطبيق الهيئة الوطنية للانتخابات.. استعلم عن لجنتك في انتخابات مجلس الشيوخ 2025    تعليق مثير من وسام أبو علي بعد قرار الأهلي الجديد    وزير العمل: القانون الجديد قضى على استمارة 6 سيئة السمعة.. والحكم خلال 3 أشهر من النزاع (فيديو)    «هنشر المحادثة».. أول رد من محمد عمارة على تهديد شوبير وبلاغ النائب العام (خاص)    «هتتحاسب».. شوبير يوجه رسائل نارية ل كريم حسن شحاته بسبب «مكالمة الخطيب»    بداية فترة من النجاح المتصاعد.. حظ برج الدلو اليوم 14 يوليو    مي كساب تنشر صورا جديدة من حفل زفاف حفيد الزعيم عادل إمام    «انت الخسران».. جماهير الأهلي تنفجر غضبًا ضد وسام أبوعلي بعد التصرف الأخير    تشيلسي يحصد رقم ضخم بعد التتويج بكأس العالم للأندية    مطار "لندن ساوث إند" يعلق جميع الرحلات بعد تحطم طائرة ركاب صغيرة    "أنا شهاب من الجمعية" و"أحمد بخيت كوكب".. قصتان متناقضتان لسائقي توك توك في مصر    مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 14 يوليو 2025 في القاهرة والمحافظات    أول بيان من الرئاسة الروحية للطائفة الدرزية بعد اشتباكات السويداء    محمد صلاح: المجلس الحالي لا يقدّر أبناء الزمالك وفاروق جعفر "أهلاوي"    على النضارة.. أفضل صورة لترامب وزوجته من نهائي كأس العالم للأندية 2025    فؤاد أباظة: القائمة الوطنية داعمة لجهود الدولة المصرية    دعاء في جوف الليل: اللهم اللهم أرِح قلبي بما أنت به أعلم    "عندي 11 سنة وأؤدي بعض الصلوات هل آخذ عليها ثواب؟".. أمين الفتوى يُجيب    الطب الشرعي يُجري أعمال الصفة التشريحية لبيان سبب وفاة برلماني سابق    وزير الزراعة: أضفنا 3.5 مليون فدان خلال 3 سنوات.. والدورة الزراعية لا تصلح لكل المناطق    طبيب مصري: أجريت 375 عملية في غزة.. وأدركت هناك قيمة جراحة الشبكية    قد تحميك من أمراض القلب والسرطان.. خبراء يستعرضون فوائد تناول الشمام في الصيف    عادات صحية واظبي عليها يوميا للحصول على جسم رشيق    "ستوديو إكسترا" يعرض استغاثة محمد شوقى.. ووزارة الصحة تستجيب بسرعة    ما حكم الصلاة ب«الهارد جل»؟.. أمينة الفتوى توضح    هل يجوز المسح على الطاقية أو العمامة عند الوضوء؟.. عالم أزهري يوضح    ذكري رحيل السيدة عائشة الصديقة بنت الصديق.. تعرف على أهم الكتب التي تناولت سيرتها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ذم الانتقام
نشر في الفجر يوم 19 - 10 - 2012

إن طِيب النفسِ، وحُسن الظنِّ بالآخرين، وقَبول الاعتذار، وإقالَة العَثرة، وكظم الغيظ، والعدل في النَّصَف أو العقوبة، كلها معاييرُ نقاءٍ وصفاءٍ، وعلاماتٌ للنفسِ الراقيةِ المُتشبِّثةِ بهديِ الإسلام الراقِي في التعامُل مع النفس ومع الآخرين.
ومتى ما خرجَ الانتصارُ للنفسِ ممن أخطأَ في حقِّها أو ظلمَها عن تلك الصور والمعايير؛ فإنه الولوجُ في دائرة حبِّ الانتقامِ، ولا شكَّ.
وإذا اصطبَغَت النفسُ بحبِّ الانتقام ووقعَت في شباكه؛ فإن الغِلظةَ والجَبَروت والبطشَ والإسرافَ والحَيف هي العلاماتُ البارِزةُ التي تحكُمُ شخصيةَ المرءِ الذي سيُشارُ إليه بالبَنَان على أنه رمزُ الظلمِ والنَّذَالة والوحشيَّة؛ لأن المعروفَ عن الانتقام أنه إنزالُ العقوبةِ مصحوبةً بكراهيةٍ تصِلُ إلى حدِّ السَّخَط والحقد والإسرافِ في العقوبة، الذي يُفرِزُه جنونُ العظمة وحبُّ القهر، كما قال فرعون: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} [غافر: 29]، وكما جاء عن قوم عاد: {فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15].
الانتقامُ يُذكَرُ غالبًا في معرِضِ الذمِّ؛ لكونه مقرونًا بالقسوةِ والغِلظةِ وموت الضمير، وعامةُ الناسِ لا يعرِفون منه إلا هذا المعنى.
وعندما حضَّنا الإسلامُ على العفوِ والتسامُحِ وكظمِ الغيظِ لم يُرِد لنا أن نكون ضُعفاء ولا جُبَناء، ولا أن يغرِسَ في نفوسِنا الذِّلَّةَ والهَوَان، كلا؛ فإنما أرشدَنا إلى ذلكم ليُبيِّن لنا أن اللِّينَ والسماحَة هُما أفضلُ وسيلةٍ لاستلالِ الكُرْهِ من قلبِ من أساءَ إلينا.
ولذا فإن الانتقامَ مع ما فيه من القسوة والجبَروت فإنما هو علامةُ ضعفٍ لا قوةٍ، والضعفُ هنا يكمُنُ في أن الغِلظةَ والتشفِّي لهُما السيطرةُ في قلبِ المُنتقِم على التسامُح والاعتِدال، فمن هُنا صارَ المُنتقِمُ ضعيفًا؛ لأن سجِيَّة الشرِّ والحُمق والهوى هي الغالبةُ أمام نَزوَته ورغبته، وهذا سببُ الضعفِ لدى المُنتقِم؛ لأن التشفِّي طرفٌ من العَجزِ ليس بينه وبين الظالمِ إلا سترٌ رقيقٌ وحجابٌ ضعيفٌ.
ولقد كان من أميَز سِمات النبي صلى الله عليه وسلم أنه بالمؤمنين رؤوفٌ رحيمٌ، وأن رِسالتَه إنما هي رحمةٌ للعالمين، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وهذه الرحمةُ والشَّفَقةُ واللِّينُ التي أزهَرَت في فُؤاد النبي صلى الله عليه وسلم هي ما جعلَتْه يتلقَّى الثناءَ من العليِّ الأعلى من فوق سبعِ سمواتٍ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
ومن هنا نُدرِكُ أن المُنتقِمَ غالبا كالأعمَى، لا يُدرِكُ ولا يُحِسُّ إلا بنفسه، وإذا كان كذلك فإنه ليس أهلاً للعدل ولا للإنصافِ؛ لأن همَّتَه في تحقيق هدفه وشفاءِ غيظه، ليس إلا، فهو عدوُّ عقله؛ لأنه يشينُ حُسنَ الظَّفَر فيقبُحُ بالانتِقام دون أن يتزيَّن بالعفو أو القصد.
المُنتقِمُ غالبا بليدُ الإحساسِ، قد تجرَّدَ من العاطفة، إذا استُغضِبَ زَأرَ، وإذا زأَرَ افترَسَ، وإذا افترسَ أوجعَ، وإذا كان القتلُ يُعدُّ من أنكَى جِراحات الحياة، فإن الله جل وعلا قال فيه: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33].
غيرَ أن المُنتقِمَ من الناس لا يقِفُ عند هذا الحدِّ، ولن يُدرِكَ عقلُه ولُبُّه قولَ الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126]. فهذه الآيةُ دلَّت على الانتِصار من الظالمِ، لكنها في الوقتِ نفسِهِ بيَّنَت أن العفوَ أخيَرُ وأفضلُ، {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]. ومن أراد أن يلِجَ التقوى من أسهل أبوابها فليعمل بقول الله جل وعلا: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237].
لقد ضربَ الانتقامُ والتشفِّي بأطنابِه في قلوب بعضِ الناسِ، وقد ظهرَ ذلك جلِيًّا في تعامُل أب مع ابنِه أو أخيه، أو الزوجِ مع زوجته، فلربما ضربَها، أو حبسَها، أو علَّقَها فلا هي زوجة ولا هي مُطلَّقة، وأذاقَها صُنوف الهوان والذلِّ والإيلام، كلُّ ذلك انتِقامًا وبَطشًا وانتِصارًا لرُجولةٍ زائفةٍ وقلبٍ مُلتاثٍ، وقولوا مثلَ ذلكم في تعامُل جارٍ مع جارِهِ، أو مُديرٍ مع موظَّفٍ، أو أُسرةٍ مع خادمها، أو ما شابَهَ ذلكم من أمثلةِ تبلُّدِ الإحساسِ والدُّونيةِ في التعامُلِ مع الآخرين بعيدًا عن مبادِئِ الدِّين الحنيفِ والأخلاقِ الحميدة.
وليتَ أمثالَ هؤلاء يُدرِكون جيِّدًا أن أفضلَ وسيلةٍ للانتِقام ممن أساؤوا إليهم هي أن لا يكونوا مثلَهم في الإساءة؛ ليزدادوا حقارةً لأنفسهم، وامتِهانًا لسَجَايَاهم؛ فقد جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن لي قرابةً أصِلُهم ويقطعُوني، وأُحسِنُ إليه ويُسيؤُون إليَّ، وأحلُمُ عنهم ويجهَلون عليَّ. فقال: "لئن كنتَ كما قلتَ فكأنما تُسِفُّهم المَلَّ، ولا يزالُ معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دُمتَ على ذلك". (رواه مُسلم). والمعنى: فكأنما تُلقِمُهم الرَّمادَ الحارَّ في أفواههم.
وقد قال جعفرُ الصادقُ رحمه الله تعالى: "لأَن أندمَ على العفوِ عشرين مرةً أحبُّ إليَّ من أن أندمَ على العقوبةِ مرةً واحدةً".
وقد جرَت سنةُ الله أن من انتقَمَ ممن هو دونه انتقَمَ منه من هو فوقَه، وسُنَّةُ الله لا تُحابِي أحدًا.
ولأجل هذا -عباد الله- فإن لذَّة العفو أطيبُ من لذَّة التشفِّي، وذلك أن لذَّة التشفِّي يلحقُها ذمُّ الندَم، ولذَّةَ العفو يلحقُها حمدُ العاقبة، وقد قال الله جل وعلا: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37]، وهذا دليلٌ على أن الانتِقام يقبُحُ على الكِرامِ. وقال أبو إسحاق: (ولم يقل هم يقتلون، وفي هذا دليل على أنَّ الانتِقَام قبيح فِعْله على الكِرَام؛ فإنَّهم قالوا: الكريم إذا قَدِر غَفَر، وإذا عثر بمساءة ستر، واللَّئيم إذا ظفر عقر، وإذا أَمِن غَدَر).
ومَن طَبعُهُ الانتقامُ فهو كالغَيمِ الذي لا يُرجَى صحوُه، يغضبُ من الجُرمِ الخفِيِّ ولا يُرضيهِ العُذرُ الجَلِيُّ، حتى إنه ليُبصِرُ الذنبَ ولو كان كسَمِّ الخِيَاطِ، ويعمَى عن الحسناتِ ولو كانت كجِبال تِهامة، له أُذُنان يسمعُ بإحداهما البُهتان ويصُمُّ بالأخرى عن الاعتِذار، وله يَدَان يبسُطُ إحداهما للانتِقام ويقبِضُ الأُخرى عن الحِلمِ والصفحِ، مثَلُه كمثَلِ من قال اللهُ عنه: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ . وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 205، 206].
فهل يعِي هذا أولئك الجبَّارون المُنتقِمون المُسرِفون الذين يسومون أقوامَهم سُوءَ العذاب، فيُذبِّحون أبناءَهم، ويُرمِّلون نساءَهم، ويُيتِّمون أطفالَهم؟! أولئك الذين باعُوا الضميرَ، ونحَروا الرحمةَ، وأخذَتهم العِزَّةُ بالإثمِ، فعلَوا في الأرضِ، وجعلوا أهلَها شِيَعًا، وقالوا مقولةَ فرعون الأول: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127].
غيرَ أن المؤمنين الصابرين يُردِّدون قولَ الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ . وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} (الزمر: 36، 37].
والانتقامُ في شريعتنا الغرَّاء مذمومٌ في الجُملة، غيرَ أن ثمَّةَ انتقامًا محمودًا شرعَه الله لنا لإيجاد مبدأ التوازن بين المصالحِ والمفاسِدِ، وعدمِ الإخلالِ بها عن منازلها التي أُنيطَت بها لتحقيقِ مصالحِ العباد ودرء مفاسِدهم، وهذا الانتقامُ المحمودُ إنما يكون ممن انتهَكَ محارِمَ الله، وذلك بالحُدود والتعزيرات والعقوبات المشروعة؛ فقد قال سبحانه وتعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما ضربَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شيئًا بيده قطُّ، ولا امرأةً، ولا خادِمًا، إلا أن يُجاهِدَ في سبيل الله، وما نِيلَ منه شيءٌ قطُّ فينتقِمُ من صاحبه إلا أن يُنتهَكَ شيءٌ من محارمِ الله، فينتقِمُ لله عز وجل. رواه مسلم.
فالانتقامُ لغير محارمِ الله معرَّةٌ، كما أن الحِلمَ والبُرودَ أمام محارِمِ الله خيانةٌ عُظمى
عن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قلت: يا نبيَّ الله، الرَّجل مِن قومي يشتمني وهو دوني، أفأنتقم منه؟ فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: "المستبَّان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان".(رواه أحمد وغيره وصححه الألباني).
فلم يأمر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عياضا بالانتِقَام، بل عرَّفه أنَّهما إن شتما بعضهما فهما شيطانان يكذبان ويتكلَّمان بالباطل.
الوسائل المعينة على ترك الانتِقَام
مِن الوسائل المعينة على ترك الانتِقَام:
1- تذكُّر انتقام الله مِن أهل معاصيه:
قال تعالى:{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5].قال ابن زيد في قول الله: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إبراهيم: 5] قال: (أيَّامه التي انتقم فيها مِن أهل معاصيه مِن الأمم، خوَّفهم بها، وحذَّرهم إيَّاها، وذكَّرهم أن يصيبهم ما أصاب الذين مِن قبلهم).
2- كَظْم الغَيْظ:
قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133].
قال الشيخ السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ أي: إذا حصل لهم مِن غيرهم أذيَّةٌ توجب غيظهم، وهو امتلاء قلوبهم مِن الحَنْق الموجب للانتقام بالقول والفعل، هؤلاء لا يعملون بمقتضى الطِّباع البشريَّة، بل يكظمون ما في القلوب مِن الغيظ، ويصبرون عن مقابلة المُسيء إليهم).
3- الخوف مِن ضياع الزَّمان والعمر، وتفرُّق القلب وفَوْت المصالح:
بأن يعلم أنَّه إذا اشتغلت نفسه بالانتِقَام وطلب المُقَابَلة، ضاع عليه زمانه، وتفرَّق عليه قلبه، وفاته مِن مصالحه ما لا يمكن استدراكه.
4- التَّفكير في عواقب الانتِقَام
ومنها: زيادة شرِّ الخصومة: فإذا انتقم لنفسه، تسبَّب إلى زيادة شرِّ خصمه، ومنها ما يصيبه بعد الانتقام من الندم، قال ابن القيم رحمه الله: (فما انتقم أحدٌ لنفسه قطُّ إلَّا أعقبه ذلك ندامة).
وأخيرا فإن لذة العفو وأجره أعظم من لذة الانتقام{ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.