حين قرر الرئيس محمد أنور السادات أن يسترجع ذكرياته عقب هزيمة 67 كتب يقول: ((دهم إحساسي بالهزيمة نفسي بحيث استغرقكل شعورى، فكنت أعيش الهزيمة فى يقظتى ومنامى..وكنت فى كل يوم أتكشف أبعادها فيتمزق صدرى..حبست نفسي فى بيتى لمدة ثلاثة أسابيع كاملة عشتها فى عزلة تامة أتأمل ما حدث وأتحمل على مضض حملة التشكيك فى قواتنا المسلحة، وهى الحملة التى كانت تشن علينا بضراوة من العدو والصديق على حد السواء..كانوا يقولون أنه لن تكون هناك معركة أخرى نسترد بها أرضنا وكرامتنا..وهنا تغلب حبى لبقاء مصر على كل شئ آخرفقررت أن أرى بنفسي بعض من اشتركوا فى الحرب وأسألهم هل استطعنا أن نحارب أم لم نستطع؟ وتوصلت إلى النتيجة..الحمد لله المسألة كلها كانت مسألة إهمال من القادة..)) إلى هذا الحد كان السادات يستشعر الهزيمة ويشعر بمرارتها..إنه رجل يحمل العسكرية بين ضلوعه ولا يساوم على وطنيته مهما كان الثمن.. ويعترف الرئيس السادات فى مذكراته أيضا بشهادته كحاكم على عصر ما بعد الثورة فيقول: ((لقد ترك لى عبد الناصر تركة ثقيلة، تحول الناس معها إلى مساخيط فى أيدى حكامهم فلم يعد مسموحا للناس بأن يقولوا كلمة تختلف عما يقوله الحاكم وإلا اعتقلوا أو صودروا فى أرزاقهم، ومن هنا إزداد الناس سلبية فقد أصبح الأمان بالنسبة لهم أن يسيروا إلى جانب الحائط، وكأنهم أصبحوا لا يبصرون ولا يسمعون ولا ينطقون، من أجل ذلك قلت لهم إنه بقدر ما كانت ثورة 23 يوليو عملاقة فى إنجازاتها فإنها كانت أيضا عملاقة فى أخطائها، ومع الزمن لم يبق من الثورة غير بقعة سوداء رهيبة تشيع الحقد والخوف بين الناس ولكنهم لا يملكون منها فرارا.. )) إلى هذا الحد كان الرئيس السادات واعيا لطبيعة الشعب الذى أصبح مصيره بين يديه، وعلى الرغم من كونه كان من الضباط الأحرار الذين أمنوا بالثورة، إلا أنه كان يراها بعين المُنصف، بعين الرجل الذى يدرك ما له وما عليه، كان قادرا على التصدى لأخطاء الثورة، وقادرا على تصحيح مسارها، كان مُدركا لصعوبة المهمة الثقيلة التى هو مُقبل عليها ولكنه تعامل معها بحنكة وبسياسة بالغة..وهكذا لم يكن لقب بطل الحرب والسلام سوى لقب إستحقه عن جدارة. وفى طريقه لإستعادة الإقتصاد المهزوم والوطن المكسور، كتب يقول: (( لقد كنت على ثقة من أن مفتاح كل شئ سياسيا وإقتصاديا وعسكريا كان هو تصحيح هزيمة 67 لكى نستعيد ثقتنا وثقة العالم بنا، وقبل المعركة بخمسة أيام واجهت مجلس الأمن القومى بحقيقة إقتصادنا وبأنه تحت الصفر..وقد كان محو العار ومهانة الهزيمة هو الأساس لذلك )). وكان الرئيس السادات بارعا فى الخداع الإستراتيجى، وهكذا خطط لمفاجأة حرب أكتوبر التى قرر أن تصبح سرا فقط بينه وبين قادة جيشه، فأرسل رسالة مع وزير خارجية دولة أجنبية كان يزوره فى سبتمبر 73 تُفيد بأنه ذاهب لزيارة أمريكا فى أكتوبر وطلب منه أن يظل هذا الأمر سرا بينهما!!..كما لم ينسي القائد البطل أن يجهز الدول العربية معنويا للمعركة، فشيد جسرا للتواصل بينه وبين لبنان والمغرب والكويت والجزائر.. لقد كان السادات رجلا يؤمن بدور مصر القيادى فى الشرق الأوسط، بل ومُصرا على ريادة المنطقة بما تملك مصر من قوة وموقع وحضارة..وقد نجح بالفعل فى وضع مصر على رأس الدول العربية بكل إقتدار. وأخيرا وبعد العبور العظيم والهزيمة المباغتة لإسرائيل، كشف السادات عن شعوره بهذا النصر قائلا: (( كان مهرجانا رائعا وأنا أرى المشهد من غرفة القيادة هادئ البال حتى خُيل إلى إنه لو دخل أى إنسان نفسي لوجد بها طمأنينة كاملة..لم يكن فى خاطرى أى هم فكل الهموم قد إنقشعت وانتهت تماما..)) لقد طاردتنى كلمات الرئيس الراحل أنور السادات وأنا أشاهد الإحتفالية المُفتعلة التى أقيمت بالإستاد من أجل الإحتفال بنصر أكتوبر، عاودتنى كلماته التى لم يحالفنى الحظ لأكون شاهدة عليها ولكننى عشتها من خلال الكتب والمواقف التى سجلها التاريخ..نحن جيلا لم يرى السادات ولكنه عاش إنجازاته، بل وارتبط نصر أكتوبر فى أذهاننا بصورته باسما واثقا قويا.. لقد حاول الرئيس مُرسي جاهدا أن يظهر الإحتفال كإحتفال شعبى..وقد نجح فى ذلك بكل تأكيد، غير أنه لم يستطيع أن يطمس البصمة الأخوانية عن الإحتفال، التى إستشعرها الجميع بدءا من اللُحى والمنقبات وحتى الهتاف الأخوانى الشهير الذى ملأ الإساد عقب كل جملة قالها: ( الله أكبر..ولله الحمد) وكأننا فى غزوة بدر ولسنا فى إحتفال وطنى!. غاب عن الإحتفال كل المُحاربين القدامى، وكل أبطال أكتوبر الذين حاربوا بحق فى هذه المعركة، وجحدهم الزمان ونساهم الوطن فى زخم النفاق والزيف الإجتماعى.. كنت أتمنى لو تم دعوة هؤلاء القادة..كنت أتمنى لو تمت دعوة أسر شهداء حرب أكتوبر بدلا من أن تصبح كلمة الرئيس موجهة فقط لأسر شهداء ثورة 25 يناير، مع كل إحترامى طبعا بأنها كانت السبب فى جلوس مُرسي على عرش مصر اليوم. كنت أتمنى أن يتم ذكر الرئيس السابق حسنى مبارك فى مناسبة كان هو أحد المشاركين فيها بشئ من الإنصاف، وسواء كان هو صاحب الضربة الجوية الأولى أم نُسبت إليه بالزور، فلا يمكن أن ننكر أنه كان قائد القوات الجوية أنذاك، وأنه حارب من أجل وطنه.. ولتكن إذن شهادة التاريخ أكثر إنصافا من شهادة البشر. كنت أتمنى ألا تتم دعوة عبود الزمر إلى الإحتفال وخصوصا أنه بلا صفة واضحة فى إحتفالية تضم جنود مصر، إلا إذا كانت صفته الشرعية هى كونه فردا من أفراد الجماعة الإسلامية التى إغتالت الرئيس السادات بحجة الخروج على الحاكم وتكفيره بسبب معاهدة السلام التى كان للسادات فيها نظرة أبعد من إدراك الكثيرين أنذاك.. بالقطع أحترم تكريم السيدة جيهان السادات ومنح الرئيس السادات قلادة النيل، فهى خطوة تأخرت كثيرا، ولكنها خطوة استحقها عن حق وليست منحة من أحد.. لكنى كنت أتمنى أن يتم ذكره وتكريمه فى إحتفالية الإستاد أمام الملايين، كان يجب أن تكون الخطبة له وعنه.. كان يجب أن يكون هو الرجل الذى يركب العربة المكشوفة ويطوف بها الإستاد وسط هتاف الجماهير..فالرئيس مرسى رجلا لازال بلا إنجازات واضحة حتى الآن نُصفق له عليها... لقد كنت أشعر بحسرة كل رجال الجيش الذين عاشوا لحظات العبور الصعبة ولم يتم دعوتهم ليعيشوا لحظة الإحتفال بها، كنت أشعر بحسرتهم وهم يرون كل رجال حزب الحرية والعدالة فى الصفوف الأولى يحتفلون بإنتصار لم يصنعوه، حتى أننى تصورت لوهلة أن الرئيس مرسي هو صاحب الضربة الجوية الأولى (اللى مش لاقيين لها صاحب!!)..