على مدار الأيام الماضية شاهدت عددا كبيرا من الأفلام التى تتناول الثورة المصرية، بعضها من صنع هواة يصنعون الأفلام لتوصيل وجهات نظر أو تحريض سياسى لقضية ما، وبعضها من صنع محترفين لصالح شركات إنتاج خاصة أو قنوات فضائية، بعضها وثائقى وبعضها روائى قصير وبعضها يجمع بين الاثنين.
خلال مشاهدتى لهذه الأفلام كانت هناك مقارنة صغيرة تفرض نفسها على عقلى رغم الاعتراضات التى أسمعها داخلى وأتوقعها من بعضكم. بعد أعوام من حرب أكتوبر لم يكن لدينا سوى حفنة من الأفلام الروائية الضعيفة وحوالى خمسين فيلما وثائقيا دعائيا لم يراها سوى عدد قليل من هواة الأفلام الوثائقية.
بعد عام واحد من الثورة المصرية ليس لدينا أى أفلام روائية طويلة عن الثورة، ولكن لدينا عشرات وعشرات من الأفلام الوثائقية والروائية القصيرة معظمها تمت مشاهدته من قبل مئات الآلاف عبر الانترنت وبعض المراكز الثقافية والقنوات التليفزيونية الخاصة.. ليس من بينها التليفزيون المصرى طبعا!
الاهتمام الشعبى بالثورة يفوق بما لا يقارن أى حدث اهتم به المصريون فى تاريخهم، وهذا وحده أكبر دليل على عظمة وتأثير هذه الثورة رغم كيد كل الحاقدين والمتآمرين، الذين لا يؤرقهم تغيير بعض الوجوه ولا تقسيم كعكة السلطة بينهم وبين آخرين بقدر ما يؤرقهم ويخيفهم حتى الموت أن الشعب النائم استيقظ مثل نمر جائع يبحث عن الانتقام.
ولو راجعنا مخطط إجهاض الثورة الذى بدأ منذ 11 فبراير سوف نتأكد أن المستهدف الأول منه لم يكن السياسيين ولا الناشطين، وإنما جموع الشعب وخاصة الشباب الذين جرت محاولات مستميتة لتشويه الثورة فى عيونهم وتدجينهم وإقناعهم بأن أكل عيشهم ومستقبلهم لا يزال فى أيدى العصابة القديمة نفسها.
الأفلام لعبت دورا حاسما فى إحباط هذا المخطط، حتى لو كان معظمها لا يخضع للمفاهيم الشائعة عن ماهية الأفلام وأنواعها... فقد تراجعت الأفلام الروائية التى ينتجها النظام عادة، سواء بتوجيه مباشر أو من خلال النظام العام الذى يحكم صناعة السينما والإنتاج والتوزيع والرقابة. أفلام حرب أكتوبر صنعت فى ظل، وبتوجيه من، هذا النظام، ولذلك اتسمت بافتقادها للصدق وتواضعها الفني. والشعب نفسه الذى شارك فى الحرب لم يعتبرها حربه وإنما حرب القادة الذين أداروها، وهو ما حاول السادات ومبارك من بعده ومن بعدهما أن يؤكدوه للناس دائما: أن قادة الجيش، وليس الشعب، هو من قام بهذه الحرب.
الأمر بالنسبة للثورة مختلف تماما، والتمثيلية التى أراد بها القادة أن يستولوا على الثورة باءت بالفشل الذريع. وأقصى ما نجح فيه النظام هو أن يحول الثورة إلى مسلسلات رمضانية كارتونية وأفلام من نوعية «18 يوم» و»تك تك بوم». ولكن بعيدا عن الصناعة ومواصفاتها، كان، ولا يزال، هناك جيش من الشباب يعيدون للسينما مفهوم الكاميرا القلم، والكاميرا البندقية، وغيرهما من المفاهيم الثورية للفن التى ازدهرت ذات يوم خلال ثورة الشباب فى أوروبا والثورات الاجتماعية فى أمريكا اللاتينية.
ولكن بحكم تطور الوسائط، من شرائط 35 و18 و16 مللم إلى الكاميرات الرقمية وكاميرات الموبايل وبرامج المونتاج الحديثة والبث عبر الإنترنت، فقد اتخذت هذه الأفلام أشكالا وطبائع جديدة تختلف عن الأفلام التقليدية أو تستخدم أشكالا لم تكن جماهيرية فيما مضى.
لنبدأ بأكثر الأشكال تقليدية وهو الأفلام الوثائقية. لقد لاقت الأفلام التى صنعتها بعض محطات التليفزيون مثل «البى بى سى» و»العربية» و»الجزيرة» رواجا جماهيريا لم تكن تلقاه الأفلام الوثائقية فى العالم العربى من قبل. وهذا طبيعى مع ثورة أعادت الناس إلى الاهتمام بالسياسة والعالم الواقعى من حولهم، والإقلاع عن العيش فى الخيال المبتور والأحلام المكسورة.
من الأمثلة البارزة لهذه الأفلام «الثورة الضاحكة» الذى ركز كاميراته على استخدام السخرية والفكاهة فى الثورة، وفيلم «عندما أشعلنها» للمخرج محسن عبدالغنى الذى ركز على دور المرأة المصرية فى الثورة، وفيلمه الآخر «بذور الثورة» الذى يلقى الضوء على الأسباب التى دفعت الملايين إلى الخروج فى 25 و28 يناير، وما سبقهما من اعتراضات وحركات مقاومة على مدار السنين الماضية، وكلاهما من إنتاج قناة «الجزيرة» ضمن سلسلة بدأت القناة فى بثها احتفالا بالذكرى الأولى للثورة. ومنها أيضا فيلم «مولود فى 25 يناير» للمخرج أحمد رشوان، الذى يروى قصة الثورة من وجهة نظر وتجربة المخرج الشخصية، وهذا النوع الوثائقى الذاتى يعد من أفضل القوالب الفنية لاتساع حدث بمستوى واتساع الثورة التى تحتوى على ملايين القصص الشخصية التى تستحق أن تروى!
من الأفلام القليلة التى نجحت فى الوصول إلى دور العرض السينمائية والتليفزيونية فيلم «التحرير 2011...الطيب والشرس والسياسي» الذى يتكون من ثلاثة أفلام قصيرة قام بإخراجها ثلاثة مخرجين شباب هم عمرو سلامة وتامر عزت وآيتن أمين. يتناول الفيلم ثلاثة وجوه للثورة الأول وهو «الطيب» يروى الحكاية من وجهة نظر بعض الشباب الذين شاركوا فى الثورة من مختلف التيارات السياسية. الثانى وهو «الشرس» يروى الحكاية من وجهة نظر بعض رجال الأمن الذين تصدوا للمظاهرات، وأحدهم ضابط سابق بأمن الدولة استقال منذ سنوات اعتراضا على ممارسات الجهاز، وهو يكشف أسرارا قبيحة منها وجود القناصة ومشاركتهم فى قتل المتظاهرين، الثالث الذى يحمل عنوان «السياسي» يتخذ قالبا وثائقيا خياليا كوميديا على طريقة أفلام المخرج الأمريكى مايكل مور، ويتناول عشر وسائل يستخدمها الحاكم الديكتاتور غالبا لفرض شعبيته وسيطرته، ويتخذ من مبارك مثلا واضحا على ذلك.
هذه الأفكار تتردد أيضا فى مجموعة من الأفلام القصيرة التى أنتجتها ورشة عمل حديثة لتعليم السينما بعنوان «النجوم الصاعدة» من تنظيم المعهد الثقافى الإيطالى بالقاهرة مع شركة «سمات» لإنتاج وتوزيع الأفلام المستقلة، بجانب عدد آخر من أفلام ورش العمل المستقلة التى أنجزت مشاريع خلال العام الماضي.
الملاحظ أن عددا كبيرا، إن لم يكن معظم هؤلاء الشباب، من المشاركين فى الثورة منذ 25 يناير أو بعدها بقليل، ولذلك كان من الطبيعى أن تدور معظم أفلامهم عن الثورة.
واحد من هؤلاء الشباب مثلا، وهو أسامة الوردانى، سافر إلى ليبيا فى بداية ثورتها ليسجل بكاميراته وقائع الثورة هناك، الفيلم بعنوان «التحرير- بنغازي»، ويسعى للربط بين الثورتين، ونضال الشعوب العربية للتخلص من أنظمتها المستبدة.
واحد آخر، وهو المخرج تامر محسن، صنع فيلما مميزا بعنوان «المصلحة» ورغم أنه فيلم دعائى لجمعية أهلية بهدف توعية المواطنين بقبول الآخر والتضامن الشعبى إلا أن الفيلم روائى درامى مصنوع بحرفية واتقان فى الإخراج أو التمثيل، وهو يروى قصة مجموعة من الناس تضطر إلى استقلال سيارة أجرة معا والخلافات التى تنشأ بينهم وترمز للأفكار والتيارات والطبائع المختلفة للمصريين.
هذا بعض من كثير من الأفلام التى يمكن أن نطلق عليها تقليدية. أما الجديد فهو الأفلام القصيرة جدا التى يمكن تشبيهها برسومات الجرافيتى على الحوائط، والتى تمزج بين الفن والتحريض السياسى المباشر، ومن بينها سلسلة أفلام تحريك طريفة لشركة إنتاج اسمها «خرابيش»، تحتوى على أفلام عن الثورة وما جرى لها بشكل كوميدى خفيف. ومثل هذه يوجد العشرات من الأنواع التى تتخذ شكل الكليب الإعلانى السريع أو الشكل الوثائقى أو الروائى، ويجمع بينها أنها تهدف إلى التوعية السياسية المباشرة من خلال استخدام القوالب الفنية المعروفة.