شهدت مصر منذ منتصف نوفمبر 2011، وحتى قرب نهاية شهر ديسمبر سلسلة من أعمال العنف بدأت بفض اعتصام قوات الأمن المدنية والعسكرية ميدان التحرير بالقوة فى 19/11، وتداعياتها. وقد تعرض المتظاهرون لإجراءات قمع لم تشهد لها البلاد نظيرا منذ أحداث ثورة يناير وسقط من جرائها أكثر من 60 قتيلا بين المتظاهرين وما يزيد عن 4500 مصابا من المتظاهرين وقوات الأمن. ويعد هذا أكبر عدد من الضحايا يسقط فى المواجهات بين الأجهزة الأمنية والمواطنين منذ ثورة يناير 2011 وبعد أحداث ماسبيرو، وتخللت هذه الأحداث إنتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والحريات العامة خيمت بالكآبة على المجتمع المصرى بأسره .
وتثير أعمال العنف والعنف المضاد، وما لحقها من تداعيات، العديد من التساؤلات، فالاعتصامات التى بدأت بعدد محدود من الأفراد من جرحى الثورة قبل نحوأسبوع من بداية الأحداث إحتجاجا على إهمالهم والمطالبة بحقوقهم، وإنضمام عشرات من المواطنين تضامناً معهم، سرعان ما تحولت عقب فض الإعتصام بالقوة ظهر يوم السبت 19/11 إلى حشود هائلة إمتدت إلى خمس عشرة محافظة، والمطالب التى بدأت متنوعة ومتفرقة فى "جمعة انقاذ الثورة" في 25/11/2011 سرعان ما اندمجت فى سياق مركزى إلتف حول المطالبة بنقل السلطة إلى المدنيين، وتشكيل وزارة إنقاذ وطنى، على نحواشتهر إعلامياً ب "الموجة الثانية من ثورة يناير". تمتد التساؤلات على مساحة عريضة من التطورات بدءا من توقيت هذه الأحداث قبل أيام من بدء الإنتخابات المقررة لمجلس الشعب، وملابسات إقتحام ميدان التحرير لفض الإعتصام بالقوة من قبل قوات الشرطة المدنية والعسكرية، ومسئولية إتخاذ هذا القرار، خاصة بعد أن أعلن السيد اللواء "منصور العيسوي" وزير الداخلية السابق تلقى تعليمات خطية من الدكتور عصام شرف رئيس الحكومة السابق بفض الاعتصام بالقوة، بل وإنتقاده لعدم تأريخ رئيس الحكومة لهذا الخطاب.
كما تمتد هذه التساؤلات إلى ملابسات إنسحاب قوات الأمن بعد وقت قليل من إخلائها ميدان التحرير وسيطرتها على مداخله، وكذا حول سياق إنتقال المواجهات إلى شارع محمد محمود، حيث وقعت معظم المواجهات الدموية بين المحتجين ورجال الأمن، وكذلك حول أهداف أعمال الشغب التى قام بها المحتجون فى شارع محمد محمود، وهل كانت عملية ثأرية ضد إستخدام العنف المفرط من جانب الشرطة أثناء فض الإعتصام، أم أنها كانت محاولة لإقتحام الوزارة وفقاً لأقوال وزارة الداخلية.
كذلك تمتد التساؤلات إلى نوع الأسلحة المستخدمة فى المواجهات وخاصة الذخيرة الحية والخرطوش بعد نفى وزارة الداخلية القطعى لإستخدام الذخيرة الحية والخرطوش، وكذا نفي القوات المسلحة القطعى إستخدامها السلاح وقنابل الغاز، بينما أكدت وزارة الصحة قتل عدد من الشباب بالذخيرة الحية وإصابة العديد منهم بالخرطوش والاختناق بالغاز، وكذا نوعية القنابل المسيلة للدموع التى إستخدمت لفض التظاهرات، وما أثير حول تأثيرها على الجهاز العصبى، ونفى الحكومة لهذا التأثير.
ويبقى بعد ذلك "اللغز" الذى طال الحديث عنه، وهو"الطرف الثالث" بظهور جماعات منظمة تؤثر على مجريات الأحداث، وقد جرت الإشارة إليه هذه المرة – كما فى مرات سابقة – من جانب المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ووزارة الداخلية دون كشف حقيقته حتى الآن.
فى ضوء هذه الإلتباسات جميعها، بادر المجلس القومى لحقوق الإنسان بتشكيل لجنة موسعة لتقصى الحقائق برئاسة الأستاذ "محمد فائق" نائب رئيس المجلس ضمت كل من الأستاذ "محسن عوض" رئيس مكتب الشكاوى السيدات والسادة: جورج اسحاق، ومنى ذوالفقار، ود. فؤاد عبدالمنعم رياض، ود.سمير مرقص، ود. درية شرف الدين، وعشرة باحثين متخصصين من باحثى مكتب الشكاوى وهم السيدات والسادة: نبيل شلبى، أحمد عبدالله، أحمد جميل، أسماء شهاب، نشوى بهاء، كريم شلبى، محمد صلاح، محمد عبدالمنعم، خالد معروف، وأمجد فتحي.
ومن ناحية أخرى عقد المجلس سلسلة اجتماعات متتالية بكامل أعضائه واعتبر المجلس نفسه فى حالة انعقاد دائم ، وشكل مجموعة عمل للتواصل مع النيابة العامة بشأن ما يصل إلى علمه من انتهاكات ، وأوكل إليها أيضاً مهمة تعزيز المبادرات الرامية لوقف العنف المتبادل ، وضمت مجموعة العمل كل من السادة : أ/ جورج اسحق وأ/ محسن عوض وأ/ منى ذو الفقار ود/ درية شرف الدين وأ/ ناصر أمين وأ/ أمجد فتحى .
وقد عاينت لجنة تقصى الحقائق مواقع الأحداث، وإستمعت إلى شهادات الشهود العيان، وإطلعت على رسائل المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وبيانات وزارة الداخلية، وبيانات وزارة الصحة، وزارت المستشفيات الميدانية، والمستشفيات التى نقل إليها المصابون وإستمعت إلى شهادات بعضهم ولجأت إلى النيابة العامة للتحقق من إدعاءات إحتجاز غير قانونى تلقتها، كما زارت مشرحة زينهم، وأجرت مسحاً للصحف القومية والمستقلة، واطلعت على المقاطع الفيلمية على وسائل التواصل الإجتماعى، وتلقت أفلاماً تفصيلية من شهود عيان كما خاطبت كل من وزارات الصحة والداخلية، والدفاع لإستكمال معلوماتها.
ويبدأ هذا التقرير بعرض تسلسل الأحداث، يليه التكييف القانونى للإنتهاكات الجسيمة التى جرت خلال الأحداث من قتل وإصابة المتظاهرين وإمتهان كرامة النساء والإعتداء على الأطباء والإعلاميين، وحرق وإقتحام المنشآت العامة، وصولاَ إلى الاستنتاجات والتوصيات.
القسم الأول: تسلسل الأحداث: - جرت الأحداث فى مسار سياسى يكتنفه الالتباس والغموض وتجاهل المطالب الجوهرية لثورة 25 يناير فى شأن حسم العديد من القضايا المعلقة مثل محاكمة رموز النظام السابق وتراجع الحديث عن القضايا الإجتماعية الملحة فى مجال العدالة الإجتماعية، والبطء الشديد فى التفاعل مع الوعود التى سبق إصدارها بشأن العزل السياسى تجاه فلول النظام السابق وغياب دور الشباب فى المشاركة فى صناعة القرار السياسى، وتصميم قوانين للمشاركة السياسية ومباشرة الحقوق السياسية لاتلبى طموح الفئات المهمشة وفى مقدمتها الشباب والنساء .
أولا : أعمال العنف فى ميدان التحرير وشارع محمد محمود : - بدأت أعمال العنف صباح يوم السبت 19/11/2011 بقيام قوات الأمن بشقيها المدني والعسكري على نحومفاجئ بفض إعتصام نحو200 شخص بميدان التحرير، وإزالة كافة الخيام التى أقيمت فى الميدان، وقد فسرت وزارة الداخلية هذا الإجراء بقيام المعتصمين بالإستيلاء على السدادات المرورية من شارع مجلس الشعب لإغلاق كافة مداخل الميدان لمنع سير الحركة المرورية والتواجد أمام مبنى مجمع التحرير لمنع سير العمل اليومى به وهو ما أدى إلى تعدد الشكاوى من المواطنين والمعنيين بالمناطق المحيطة والأجهزة الإدارية بالمجمع، وأنها أسدت النصح للمتظاهرين قبل فض الإعتصام بالقوة لكنها قوبلت بالإعتداء على القوات والإستيلاء على سيارة ترحيلات تابعة لمديرية أمن القاهرة تصادف مرورهما بشارع محمد محمود وإحراقها، وأن الشرطة تصدت للمتظاهرين وتمت السيطرة على الموقف وفتحت الحركة المرورية لميدان التحرير من كل الإتجاهات، وتم إنصراف القوات ومغادرة الميدان .
وعقب ذلك تجمع المتظاهرون مرة أخرى واتجهوا إلى شارع محمد محمود فيما بدا محاولة مستميتة لإقتحام وزارة الداخلية، واستمرت الإشتباكات فى شارع محمد محمود أيام 20، 21، 22، 23، 24، وحتى يوم 25/11 يوم جمعة "إنقاذ الثورة" واتسمت بما يلى :
1- تدخل بعض القوى السياسية لوقف الإشتباكات وفض الإعتصامات، وقد باءت جميعها بالفشل، وتبادل المتظاهرون ووزارة الداخلية مسئولية إفشال هذه المحاولات .
3- واكب محاولات الوصول إلى وزارة الداخلية سلسلة محاولات لإقتحام منشآت أمنية فى العديد من المحافظات من بينها، فى القاهرة جرت محاولات لإحراق قسم شرطة الخليفة، وفى الجيزة جرت محاولة إقتحام قسم شرطة الطالبية، وفى الإسكندرية جرت محاولة إقتحام قسم شرطة سيدى جابر ومديرية أمن الإسكندرية، وفى الإسماعيلية جرت محاولة إقتحام قسم شرطة الإسماعيلية (أول)، وفى السويس جرت مهاجمة قسم شرطة الأربعين ونادى الشرطة، وفى الدقهلية جرت محاولات لإقتحام مديرية أمن الدقهلية، ومركز شرطة المحلة، والإستيلاء على الأسلحة النارية بالمركز وتهريب سجناء وإصابة المأمور ونائبه،
وفى الغربية جرت محاولة إقتحام مديرية أمن الغربية وإقتحام مبنى المحافظة الملاصق لها، كما جرت محاولة إقتحام قسم شرطة كفرالزيات، وفى الفيوم جرت محاولة إحراق قسم إبشواى وهروب بعض المحتجزين، وفى المنيا جرت محاولة إقتحام مركز شرطة مغاغه، وفى الأقصر جرت محاولة إقتحام مركز شرطة مدينة الأقصر .
4- وقد بلغ عدد الشهداء خلال أحداث ميدان التحرير وشارع محمد محمود وتداعياتها فى أنحاء البلاد 41 حالة من بينها 36 حالة فى القاهرة وحالتان فى الإسكندرية وآخريَن فى الإسماعيلية وحالة واحدة فى مطروح وذلك حتى يوم 25 نوفمبر 2011، وفقاً لبيانات وزارة الصحة المنشورة على موقعها الإلكترونى، وقد إرتفع هذه العدد إلى 46 شهيداً حتى تاريخ إعداد هذا التقرير .
كما بلغ عدد المصابين وفقاً لنفس المصادر منذ بدء الأحداث وحتى 25/11/2011 عدد 3256 حالة من بينهم 1308 مصابين تم نقلهم إلى المستشفيات و1948 تم إسعافهم فى موقع الأحداث .
وقد نشرت مواقع التواصل الإجتماعى الالكترونية أرقاماً تزيد زيادة كبيرةعن هذه الأعداد منسوبة إلى تصريحات أطباء وخاصة فى مستشفى القصر العينى (بوابة الوفد).
وطبقاً للكشوف التى تلقاها أعضاء اللجنة خلال تفقد المستشفيات التى تجاوبت فى توفير معلومات للجنة (المنيرة العام – أحمد ماهر – الدمرداش – معهد ناصر – القصر العينى القديم – القصر العينى الفرنساوى – الهلال) فقد تنوعت الإصابات ما بين جروح قطعية، وتهتكات، وكسور، وكدمات، وإختناق وخرطوش وطلقات نارية أدت إلى وفاة 6 من المدنيين بطلقات نارية، أما بالنسبة لقوات الأمن فقد تنوعت بدورها، جروح وتهتكات، وكدمات، وكسور، وإختناق، وطلقات نارية مابين خرطوش ومقذوف نارى، ومن الجيش، جروح وكدمات وإختناق، ولم يرد عن هذه المستشفيات بيانات عن حالات وفاة للعسكريين.