أجلس في ركن بعيد من أركان ميدان التحرير، وأنا أرى هذا العدد الكبير من المنصات المتفرقة، وكل يغني على ليلاه! ثم أتذكر مثل هذه الأيام منذ عام مضى، حين كانت الملايين مجتمعة على قلب رجل واحد، يقبعون في الميدان تحت سماء مصر، ويمر على ذهني بعض المشاهِد لثائرين ينامون فوق الدبابات ويحتمون بها، ويدعون الجيش والمجلس العسكري أن يتدخل ويعفي مصر من الانفجار والانشقاق، ويأخذ موقفا واضحا لإنهاء حكم مبارك..
وتدخل المجلس العسكري، واجتمع دون قائده الأعلى ليعلن أنه منحاز لشعب مصر، وثورة هذا الشعب العظيم، وأجبر مبارك على التخلي عن منصبه، تماما كما أراد ثوار مصر..
فلماذا أصبحنا ننسى الفضل بيننا؟
ألا نتذكر كيف بتنا في الشوارع أمام بيوتنا لحماية الأطفال والنساء والعجائز والممتلكات، يوم الخيانة العظمى للشرطة؟
من الذي كان يتصدى لاستغاثات الشعب غير قواتنا المسلحة، وأبنائها الذين تحملوا العبء الأكبر بعد الثورة، في بلد انهارت كل مؤسساته، سنة كاملة والقوات المسلحة هي عمود البيت، الذي يعمل ليل نهار دون كلل أو ملل، أو شكوى أو مَنْ.
من هنا أنسج عتابي على شاعرنا الثوري تميم البرغوثي في بعض مما جاء في قصيدته : "منصورة يا مصر"، حين يبدأها بقوله:
منصورة يا مصر مش بجميلة العسكر
احنا اللي روحنا بدري.. بس مش أكتر..
لا يا سيدي، فمصر وشعبها لا ينسون من يقف موقف الرجال وقت الشدة، والعسكر هم من حموا هذا البلد من أعدائه في الداخل والخارج، في أوقات من أحرج الأوقات التي مرت بها مصر.. ولهذا أقول لشاعرنا:
ومن منطلق هذه الآية كثيرا ما كنت أشعر بعد الثورة بالقلق على مسيرة الثورة عندما كنت أسمع قول أحدهم عن مبارك متشفيا أو متباهيا: "الرئيس المخلوع"، وكنت أرى فيها نوعا من الاستعراض والاعتداد بقوة كثرة العدد، وكأننا نريد أن ننسب لنا ولنا فقط، ما مكننا الله منه؛ حتى رأيت بعضهم يمشي في الأرض مرحا؛ وكأنه قادر على أن يخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولا، أما الحقيقة التي أفهمها فهي أن مبارك رجل نزع الله منه ملكه، وما كان ليخرج لولا إرادة الله الذي يسبب الأسباب.
فإذا تكلمنا عن الأسباب، كان ولابد أن نذكر شباب الثورة الذين دعوا إليها، وملايين المصريين الذين التحموا بهم وخرجوا معهم، ثم المجلس العسكري والقوات المسلحة التي أبت إلا أن تكون في صف شعبها. ولهذا فليس من الشرف أن نفتخر بما ليس لنا بحق، حين ننقص من القوات المسلحة ومجلسها العسكري شرف انضمامهم للثورة وحفاظهم عليها..
يقول تميم البرغوثي"
يا مصر ياللى انتصرتى فْ جُمعِتين وِتَلات نفس العَدُو هُوَّه هُوَّه بَسِّ متنكَّر
وأقول له يا شاعرنا، مجلسنا العسكري ليس عدوا، بل فيه ومنه قادة قهروا أعداءنا وأعداء "فلسطين"، التي طالما تغنيت بها ولها، والعسكر ليسوا القادة فقط بل هم ضباط وجنود قواتنا المسلحة التي تسخر من الجندي من جنودها حين تقول:
"ما شفنهوش ع الحدود يعني بيتهور" هذا الجندي يا سيدي، تحمّل ربما أكثر مني ومنك وممن يبيتون في الميدان فاتورة هذه الثورة، ومنهم منذ شهور من لم يرَ أهله، ومنهم من له زوجة وأولاد وهو يبيت في العراء ولا يلتمس ساعة راحة، وبهؤلاء أذل الله عسكر إسرائيل وجنرالاتها، وكسر أنفهم وهزم جبروتهم وطغيانهم، فتذكر سليمان خاطر الذي كان واقفا على الحدود، وماذا فعل؛ .لينظروا إليه وهم يعتبرون فعله كما تحدثت أنت "تهورا".
وهنا أترك حديثي الخاص لشاعرنا الثوري، ولا أزايد على حبه لمصر، ولكني ألفت النظر إلى أننا لا نتغنى بما فيه إهانة أو تقليل من شأن جندي مصري واحد وإن أخطأ، فكلنا تحت الضغط معرضون للخطأ، وارتكاب الجرائم ولو في حق أقرب الناس إلينا.. "فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله"، وربما نظرة كلية على مصلحة الوطن تثنيكم عن كثير مما تذهبون إليه وتتمسكون به.
إن إصرار كثير رموز القوى الثورية والإعلامية على اعتبار المجلس العسكري خصما وعدوا، ويطالبون بالقصاص من قادته يخطئون في حق هذا البلد، ويخطئون في حق شعبه، وربما يجروننا إلى ما لا تحمد عقباه، فيقينا لن يسلم صاحب سلطة ما بيمينه وهو يظن أنكم ستحاكموه، أو ستهينون موقفه، أو ستتذكرون أخطاءه وتنسون حسناته وصوابه.
فالثأر لن يجني سوى مزيد من الثأر والغل لن يحصد إلا الغل والنار لن تجلب إلا الحريق
وبنظرة محايدة واحدة على المشهد بعد الثورة ربما رأيتم أن المجلس العسكري أخطأ كما أخطاتم جميعا، فأنتم لم تتفقوا على شيء، وذهب كل منكم ليُكِّون ائتلافا ولو بفئة قليلة؛ ليكون زعيما، وذهب الإخوان والسلفيون ليبحثوا عن حلم قديم، ومصلحة خاصة، يتمنون من خلالها الوصول لحكم رشيد كما يتصوروه، فتحيرت الكلمة وتشتت الجميع، في وقت كانت فيه التفجيرات، والسطو، والسرقات، والكثير من الاضطرابات، تنهك جسد مصر في كل صوب وحدب، وكان على القوات المسلحة وقيادتها تحمل كل هذا العبء.. في الوقت الذي خوّن في كل الأطراف بعضها البعض؛ ولهذا فكلنا مخطئون وليس المجلس العسكري وحده.
فكفانا إهانة لقواتنا المسلحة، وجنودها، وقادتها ولا تفرحوا بكثرة العدد، فكثيرا ما كان النصر مع القلة، وكم من كثرة تبِعتها كَسرة!، واعلموا أن كثيرا من المصريين الذين يلزمون البيوت غاضبون مما يحدث وإن كان حقا، ولا يحبون إهانة جيشهم أو قادته، وعلى هذا فأنتم تخسرون أهم مقومات استمرار الثورة وهي "الشعب".
رسالتكم وصلت أيها السادة، ولن يقهر هذا الشعب باغ أو عاد أبدا، فلنكف عن هذا الصراخ في وجه بعضنا، ولنتصالح ولنتسامح ولا يبيع بعضنا على بيع بعض، ولنجعل الغد أفضل بالمصالحة مع أنفسنا ومع غيرنا، فظني أنكم إن لم تفعلوا؛ تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر عن راي او توجه الموقع