للشاعر الكبير مكانة - أزعم - فى نفس كل من ينطق بالضاد فى واقعنا المعاصر، بل وله مكانة خاصة فى نفوس التيار الإسلامى، لعل بداية تجذرها من وقت أن أنشد الخطيب السلفى المشهور قصيدته (اكتب ما شئت يا سلمان...) على المنبر. ولكن بعد ثورة 25 يناير حدثت أمور تجعل الحليم حيرانا، من الممكن أن أفهم رفض شاعرنا الكبير التوقيع على النداء الذى وقع عليه أكثر من 110 من كبار مثقفى جميع الأطياف السياسية فى مصر أقباطا ومسلمين لإصدار عفو عام عن السجناء السياسيين فى عهد مبارك، وأبرر هذا الرفض بأن الشاعر لا يود التورط فى المطالبة بالعفو عن أناس لا يعرفهم، وإن كان يعرف جيدا (بمنطوق لفظه) مدى الظلم والقهر والذل الذى تعرضوا له. أما العجيب الذى أعجز عن إدراكه فهو قيام الشاعر بالهجوم الكاسح على هؤلاء السجناء السياسيين، فلا نكاد نجد مقالا لشاعرنا العزيز يناقش فيه الخلل الواقع فى مصر ما بعد الثورة، إلا ويذكر أن من أهم أسباب هذا الخلل الإفراج عن آلاف السجناء السياسيين الإسلاميين، (الشروق 3/4/2011، والأهرام 20/5/2011). والحق يقال إن شاعرنا الفاضل ليس فقط من يشير إلى هذا بل يشير إليه جمع كبير من الكتاب المحسوبين على التيار العلمانى، وإن وجدنا تبريرا للتيار العلمانى فى هجومه الكاسح على مأسورين عزل ما زالوا يعانون من آثار شتى أنواع الظلم والقهر، وذلك لعدة أسباب مجتمعة عند بعضهم أو متفرقة، لعل أهمها إلصاق تهم (النذالة) ونكران الجميل بالتيار الإسلامى السلفى منه خاصة، فها هم السلفيون فى عهد مبارك كان مكانهم السجون والمعتقلات وحينما أفرجت عنهم الثورة كانوا أول من عض يدها وسعى إلى هدمها، ها هم يجعلوننا نترحم على الاستقرار الذى كان يوفره لنا نظام مبارك بوضع هؤلاء فى السجون، انظر إليهم عندما تفتح لهم طاقة بسيطة من الحرية ماذا يفعلون، فما بالنا لو حازوا جزءا من السلطة... إلخ، وربما يكون بعضهم جاهلا حقيقة بتفاصيل الأمر مكتفيا بدور الببغاء. لكن الصدمة فى شاعرنا كبيرة وكنا نحسبه من المنصفين (مازلنا نرجو أن يكون كذلك) حتى لو لم يكن محسوبا على التيار الإسلامى ولنوضح بعض الحقائق البسيطة التى لا أخالها تخفى على شاعرنا الكبير. أولا: من كان موجودا فى سجون مبارك عند قيام الثورة من الإسلاميين محكومين ومعتقلين لا يتعدون بحال 500 (خمسمائة) سياسى (هذا تعداد لا يقبل الشك وأتحدى من يغالطنى فيه)، نعم كان هناك ألوف مؤلفة اعتقلوا لعشرات السنوات فى عهد مبارك لكن أفرج عنهم نظام مبارك قبل الثورة، بعد أن نجح النظام القمعى فى تصفيتهم أو أغلبهم إما جسديا أو معنويا وفكريا وماديا حتى عادوا بقايا خَلق (لا يعذرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل) شاعرنا يعرف ما أقصده بهذا البيت. أفرجت الثورة عن أربعمائة منهم، كثير ممن أفرج عنهم هؤلاء كان قد أمضى ما بين خمسة عشر إلى عشرين عاما، وبعضهم أكثر من ذلك وأقل فى أسوأ سجون العالم، هؤلاء الأربعمائة هم الذين يزعم شاعرنا وغيره أنهم يهددون استقرار مصر، هؤلاء الذين يحتاج معظمهم بل كلهم إلى سنوات وسنوات ليعيدوا ترميم ما تبقى من أنفسهم ليجدوا فقط ما يأكلونه أو يشربونه ويربوا أولادهم (إن كان لهم نسل أصلا)، هم الذين خرجوا من السجون فأشعلوا الفتنة الطائفية وطبقوا الحدود الإسلامية ويسعون لإقامة الخلافة هكذا فى تبسيط يكفى المنطق والعقل لتنفيذه دون الحاجة للخوض فى تفاصيل الأدلة والواقع، هذه واحدة. والثانية: كل من له صلة بالحركة الإسلامية من قريب أو بعيد يعلم جيدا أن كلمة «السلفية» فضفاضة ومظلة واسعة ينضوى تحتها عدد غير قابل للحصر من التيارات والاتجاهات، بل وهذه حقيقة لا مراد فيها السلفية جماعة من لا جماعة له، وبلا أى مبالغة كل ملتح غير منضم لجماعة يسعه أن يقول «أنا سلفى» ولا معقب عليه، فلا تنظيم ولا قائد يحتكر اسم السلفية لا نظريا ولا واقعيا، فهناك مدرسة سلفية الإسكندرية وسلفية دمنهور وسلفية كفر الشيخ وسلفية أسامة القوصى (القوصيون)، والمدخليون، وسلفية أسامة عبدالعظيم، والسلفية الجهادية، والسروريون ... إلخ. فى حصر لا يعلم قدره إلا الله ثم قد يحتسب البعض التبليغ والدعوة، والجماعة الإسلامية، وجماعات الجهاد (الذين لا حصر لهم كذلك)، تبعا للسلفية نظرا لأنهم ملتحون (يا لسذاجة التصنيف) أو بالأحرى (يا لخبثه)، فإذا قام أى ملتح بعمل نسب هذا العمل لكل هذه الطوائف فهل هذا من العدل فى شىء؟!! يا شاعرنا الكبير لو سبرت (بالسين) وقسمت من تجمعوا من أجل كاميليا وعبير أو أمام الكاتدرائية أو فى أحداث إمبابة لن تجد فيهم واحدا - أكرر واحدا - كان فى السجون وأخرجته الثورة، بل لن تجد فيهم واحدا كان قد أسر فى سجون مبارك، لسبب بسيط هو أن هؤلاء قد أكل عليهم الدهر وشرب وحنكتهم التجربة، وبصروا بعواقب الأمور جيدا، بل هى معلومة يقينية موثقة أعرف كثيرا منهم كانوا يمنعون الناس بكل ما أوتوا من المشاركة فى أحداث إمبابة بل استعانت ببعضهم الدولة فى إخماد أحداث إمبابة والمنيا وغيرها. شاعرنا العزيز أثناء الثورة حدث فراغ أمنى وكان هناك عشرات الآلاف ممن أفرج عنهم فى عهد مبارك ولم يحدث من هؤلاء حادث واحد يخل بأمن مصر، بل إن بعض الإسلاميين ممن كانوا فى السجون هربوا أثناء الثورة وآثار سياط الجلادين على ظهورهم رطبة ولم يمسوا جلاديهم هؤلاء على سهولة مسهم وقتها بأذى، أنت تعرف هذا وكل مصر تعرفه فلماذا لا يذكره أحد، ومع ذلك؟!! شاعرنا الفاضل هل تعلم أن ما تذكره من كلام ومن إلصاق التهم بمن خرجوا من سجون أدى إلى أن يقوم المجلس العسكرى بعدم الإفراج عن ثمانين مسجونا سياسيا هم كل من تبقى فى السجون، بل صرح المجلس ل«الواشنطن بوست» أن المفرج عنهم أصبحوا جزءا من المشكلة، وكأن التصريحات الإعلامية التى تورط أو وُرط فيها واحدٌ فقط - أكرر واحد فقط - من المفرج عنهم هى التى أقامت مصر ولن تقعدها، هل تدرى أن المجلس أفرج عن ستين سياسيا أمضوا نصف المدة من أحكامهم وترك أربعين آخرين لهم نفس ظروفهم تماما وبعضهم قضى أكثر من ثلاثين عاما فى السجون كنتيجة مباركة للحملة الإعلامية التى تنشر على من خرجوا من السجون، وحيث إن إدخال من خرجوا السجن مرة أخرى أمر متعسر أو متعذر (خاصة أنهم لا يشتركون فعلا فى أى أحداث يمكن التحجج بها) فلا يجد الأكلة إلا أن يجتمعوا على قصعة الثمانين سياسيا الموجودين فى السجون الآن وهم للأسف قليلون لا حول لهم ولا نصير. هل من أخلاق الفارس التى تحلى بها الشعراء والعسكريون (التى أرجو أن يكون شاعرنا ومجلسنا منهم) أن يتم تصفية الحسابات وتسوية الصراعات السياسية مع الخصوم وإرضاء الرأى العام على حساب أسرى عزل لا حول لهم ولا طول، ذاقوا كل أصناف القهر والعذاب والظلم فى عهد النظام البائد، ولا يجدون من يدافع عنهم ولو بكلمة، هل هذا لمصلحة الوطن؟!! نعم... عددهم قليل لا شوكة لهم ولا يوجد من يعتصم لهم أمام ماسبيرو لكن يكفيهم أن حسبهم الله ونعم الوكيل.