فمن لهذا البلد الأمين، يدرك مآسيها، ويمسح عنها دموعها، ونحن نرى اليوم الأول لممثلي شعبها تحت قبة البرلمان في مهزلة من مهازل المزايدات التي لا معنى لها..
فها هو عضو يلقي اليمين الدستورية، ثم يقول: "ما لم يخالف شرع الله"!
وذاك شاب من شباب الثورة يزيد عليه، "وأن أحقق مبادئ الثورة"
وآخر أقْسَم "بأنه سيكمل ثورة 25 يناير"..
مزايدات رخيصة تحت قبة برلمان وطن جريح.. ولكن للأسف هذا هو برلمان ما بعد الثورة وليس برلمان الثورة.. بكل ما يحمل من متناقضات.
هنا تذكرت الدعوات المحمومة للثورة الثانية، والغضب الساطع، والحقد المقدس الآتي من أعماق الجحيم.. وتذكرت نبي الله موسى وقصته مع الفرعون.
ذلك الفرعون الذي كانت صحفنا كثيرا ما تشبه "مبارك" به، ووقفت متسائلا: وماذا بعد أن غرق فرعون، هل انصلح حال الشعب وبينهم نبي الله وكليمه؟
في سورة الأعراف ينبئنا الله عن حال قوم فرعون بعدها وأنهم لمّا جاوز البحر مروا على قوم يعبدون الأصنام.. فطلبوا من موسى أن يتخذ لهم صنماً يعبدونه كهؤلاء؛ فقال لهم موسى: (إنكم قوم تجهلون - إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون - قال أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين).
وهكذا ترك الناس عبادة الفرعون ليتجهوا للبحث عن صنم يعبدونه، وما أكثر الأصنام التي رأيناها بعد الثورة!!
صنم الغضب..
وصنم المنازعات..
وصنم الإعلام..
وصنم شباب الثورة...
وصنم المتاجرين بدماء الشهداء والمصابين.
وغيرها من الأصنام التي بتنا نقف أمامها طويلا، منها ما ذكرناه ومنها ما لم نذكر..
العجيب والمدهش، أن من لم يجد صنما يتجه إليه؛ ذهب ليجعل من نفسه وأفكاره التي يريد أن يفرضها على الناس صنما يريد له أن يُعبَد.. ولم يَسلم من البحث عن الأصنام في هذه المرحلة إلا ما رحم ربي.
إذن فالمشكلة لم تكن في شخص الفرعون فقط، وإنما في عموم الشعب.. المشكلة في الفكرة وليس في المنظومة والقيادة...
فالعبودية فكرة، والسجن فكرة، والحرية فكرة.. فإن غيرت الثورة مجموعة الأشخاص الذين يمثلون الفرعون، فإنها أبدا لم تغير الفكرة.
حتى من يطلقون على أنفسهم لقب النخبة، بالإضافة إلى رفقائهم من السياسيين، وممثلي الأحزاب، وغيرهم ممن هم على سطح البحر وعلت بهم الأمواج، بدوا وكأن داخل كل منهم صنما لم يحطمه بعد!
من هنا، أعود إلى شباب الثورة وجمعات الغضب التي لا تنتهي، واستكمل رحلة سيدنا موسى مع قومه، لعلنا نجد في جانب من قصة هذا النبي الثائر على الباطل حكمة، تعيننا على مواصلة المسير.
فموسى يذهب للقاء ربه ثم يعود لقومه، فعلى أية حال وجدهم؟
وجدهم يعبدون العجل، بعد كل ما رأوا من معجزات ربهم! أهناك باطل وفساد أشد من هكذا باطل وفساد؟ أبدا.
فماذا عسى هذا الكليم أن يفعل؟ تماما ما فعله شباب الثورة.. غضب غضبة شديدة، وألقى الألواح... ذلك لنعرف أن الغضب مشروع حينما يجد أهل الحق نوعا من الباطل.
ولكن هل مشروعية الغضب تجعل منه نبراسا أو سراجا نهتدي به في طريقنا؟ أبدا، أبدا.
إذن فلم يمسك كليم الله بلجام الحكمة إلا بعد أن سكت عنه الغضب.
أمسك بالألواح التي في نسختها الهدى والرحمة..
ذلك لنعلم أننا في الغضب لا نرى هدى، ولا مكان في قلوبنا للرحمة..
الشاهد هنا أن موجات الثورة وموجات الغضب التي يسعى لها البعض يقينا لن تفيد، ونحن نسعى وبين أيدينا وطن يحتاج في هذه المرحلة إلى الحكمة ويحتاج إلى الرحمة، فإلى أين بغضَبِكم هذا تذهبون؟ ومتى يسكت عنكم صوت الغضب، حتى نرى منكم الحكمة ونرى فيكم الرحمة؟
إن مصر، أيها السادة تمر بأزمات كثيرة، ومصاعب كبيرة، بحجم سنوات الظلام التي عشناها في ظل حكومات لم تسع إلا لمصالحها. وبحجم انحسار اقتصادها المهترئ، مصر التي يبحث شعبها عن الحرية بات مسجونا في دوامة البحثة عن كسرة خبز، تتوسلها حكومتنا من البنك الدولي.. فكيف بكم تزيدون حسرته وأغلاله؛ بأن تفرضوا عليه فوق السجن، سجنا آخر، بحبسه في زنزانة انفرادية من دوامات الغضب والفرقة والتنازع..
إن علينا -إن كنا نحترم هذا الشعب ونحترم إرادته ونسعى لصالح فقرائه، وتعسائه، ومنكوبيه- أن نتكاتف ونتصالح، ونتآزر، ونتعاون، وأن نكون جميعا على قلب رجل واحد.. حتى نعبر بهذا البلد كل بحار الأزمات التي يمر بها.
أما اللفتة التي أود أن أختتم بها مقالي هذا؛ فهي عن سيدنا هارون وقد تركه موسى أمينا على قومه، فلما عاد ووجده بينهم وهم يعبدون العجل غضب وأمسك بلحيته وبرأسه، فقال له هارون قولا حكيما، أذكره هنا لعله يجد إلى قلوبنا سبيلا:
إذن فنصيحة سيدنا موسى لهارون كانت: أن إياك والفرقة.. ولو أدى بك الأمر لترك بعض الأخطاء ولو كانت ضلالا.. ولهذا أعود لشباب الثورة ملتمسا قول هارون لموسى:
أن يا شباب مصر أيًّا كانت أخطاء تلك المرحلة، وأيًّا كان من أخطأ ممن يتولون شأن الوطن، دعونا نتفق جميعا على أن مواجهة الأخطاء وقت الفتن، والسعي للثورة عليها لتصحيحها، أمر غير مقبول، وغير مثمر، بل وقد يكون مهلكا؛ إذا أدى -رغم صوابه- إلى الفرقة بين بني الوطن الواحد.
وخلاصة ما اهتديت إليه، أنه ما من هزيمة أشد على الثورة وعلى مصر أقوى من التباغض والفرقة، وما من إنجاز أعظم لهذا الوطن الحبيب من التسامح والوحدة ولم الشمل.
فسددوا وقاربوا وافعلوا الخير لعلكم تفلحون
المقال يعبر عن راي الكاتب ولا يعبر عن رأي او توجة الموقع