في السادسة من صباح يوم في نوفمبرالماضي أيقظ مسلحون هند وأسرتها واقتادوهم من بيتهم. وقالت هند (38 عاما) "كانوا يقتادوننا إلى حتفنا إذ كانوا قد قرروا إعدامنا لأننا حسبما قالوا متعاونون (مع الحكومة). وظللت أقول لأختي وهم يسيرون بنا في الشارع ألا تقلق فالله يحفظنا." عاشت هند طوال ما يزيد على العامين منذ بدأت الانتفاضة السورية المسلحة ترسخ وجودها في ضواحي دمشق كواحدة من الموالين للحكومة صراحة بينما كان مقاتلو المعارضة يبسطون سيطرتهم تدريجيا على المناطق المحيطة بها. وهرب الاف المدنيين من منطقتها الواقعة جنوبي العاصمة فرارا من اتساع رقعة القتال وتزايد التشدد بين مقاتلي المعارضة الذين يحاربون للإطاحة بالرئيس بشار الاسد. واختبأ أشقاء هند الثلاثة عندما سيطر مقاتلو المعارضة على منطقتها في ديسمبر 2012 لكن هند وهي ابنة لاجئ فلسطيني اختارت البقاء مع شقيقاتها ورعاية والدها المسن. وقالت "أنا لاجئة بالفعل ولن أكون لاجئة مرتين. وفضلا عن ذلك أين نذهب؟" وكان قرارها البقاء في بيتها - وهو أمر نادر المثال في الصراع المستمر منذ ثلاث سنوات والذي هجر ملايين السوريين من ديارهم - بداية علاقة محفوفة بالخطر مع المقاتلين أدت في النهاية إلى قرار مجلسهم المحلي إعدامها. وتقول هند إن الاعدام كان مصيرها هي وشقيقاتها لولا أن أفلتن منه عندما شنت قوات الأسد هجوما لاستعادة منطقتها قبل ثلاثة أشهر. وتوضح قصة هند التي تبدأ باندلاع الاحتجاجات المناهضة للأسد في مارس عام 2011 رحلة سوريا من الدعوات المبكرة للإصلاح إلى الحرب الأهلية الدامية التي أودت بحياة 140 الف شخص. وتتداخل تجربتها أيضا بشكل وثيق مع صعود قوة جماعات المعارضة المسلحة في دمشق ثم هبوطها. اللجوء إلى السلاح تفجرت المظاهرات في المنطقة التي تعيش فيها هند في أوائل عام 2011 وكان ما حركها في البداية تأييد الاحتجاجات في مدينتي درعا وحمص أول مركزين للانتفاضة. وكانت المظاهرات سلمية في البداية. وتقول هند مستعيدة ذكرى أحداث تلك الفترة "ثم بدا الأمر وكأننا ذهبنا إلى الفراش ليلا واستيقظنا في الصباح لنجد بعض الرجال الذين عرفناهم دائما جيرانا لنا يحملون السلاح. لكن عددهم كان صغيرا للغاية آنذاك قد لا يتجاوزون العشرين." وتقول إن هؤلاء المسلحين سرعان ما فروا من الحي خلال بعض الغارات الأولى للقوات الحكومية لكنهم عادوا بعد قليل من ذلك ومعهم مزيد من السلاح عندما خففت السلطات السورية مستوى تشديد الامن فيما يبدو. وتطور الوضع بسرعة منذ ذلك الحين ومع حصول المقاتلين على مزيد من الأسلحة الخفيفة بدت منطقة هند بأكمها وكأنها صارت منطقة عسكرية. وسرعان ما أصبح من المستحيل على القوات الحكومية دخولها دون أن تمنى بحسائر كبيرة. وتقول هند وهي مسلمة متدينة ولا تخرج من بيتها دون حجاب "وبمرور الوقت زاد المقاتلون تشددا على تشدد وطالت لحاهم ثم طالت." وبدأ وصول المقاتلين الأجانب. وقالت هند إنهم جاءوا "من الأردن وليبيا وتونس بل وقابلت شيشانيا" مضيفة أن أعدادهم كانت قليلة "ربما بضع عشرات أو نحو ذلك". وتحولت الانتفاضة من حولها إلى حرب أهلية كاملة أجبرت كل الناس في حيها على الوقوف مع هذا الجانب أو ذاك. ولم تر هند سببا يدعوها لتأييد المعارضة المسلحة التي تتهمها بالقضاء على الاستقرار الذي تمتعت به البلاد لسنوات. وقالت "كانت الأمور بخير وكانت الحياة رخية. في كل مرة يشكو فيها (المقاتلون) من ارتفاع الأسعار أقول لهم مذكرة: لا تريدون أن تدفعوا 200 ليرة في كيس الحمص؟ فلم فعلتم هذا إذن؟" ويماثل موقفها ما يشعر به كثير من الموالين للأسد والسوريين المترددين في رأيهم في الانتفاضة الذين يحملون المعارضة المسلحة وحدها المسؤولية عن اضطراب الأحوال والانهيار الاقتصادي. تحدي المقاتلين وتحملت هند والسكان الباقون في المنطقة التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة العزلة وحصار القوات الحكومية على مدى شهور طويلة إلى أن تراجع المقاتلون في النهاية قبل بضعة اسابيع. وكانت الحياة في المنطقة التي سرعان ما انهار فيها النظام والقانون تراوح بين المأساة والملهاة كما اعتادت هند أن تقول للمقاتلين في شارعها ساخرة منهم. وذات مرة رفعت شبشبها على مقاتل مهددة بضربه وهما يتجادلان بغضب حول المسؤول عن نهب الغذاء. وقالت ضاحكة "صاح قائلا: أقسم بالله لأضربنك بالرصاص أنت وأخواتك وأباك وبعدها سأطلق رصاصة على رأسي. وقلت له: لا بد أنني مهمة حقا حتى أجعلك تقتل نفسك. وعندها جن جنونه." ورفضت أن تبيع الخبز للمقاتلين خلال الأشهر التي سبقت حصار القوات الحكومية. ولم يكن أحد آنذاك غير النساء يستطيع الذهاب إلى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة بسهولة نسبية ويعود بالغذاء والدواء اللذين تمس الحاجة إليهما. وإلى جانب الغذاء كان بعض النساء يهربن السلاح والعتاد من خلال نقاط التفتيش الحكومية وهو أمر رفضت هند أيضا أن تفعله. لا مكان للشبان وأقر فاروق الرفاعي وهو نشط اعلامي من المعارضة المسلحة لشؤون جبهة دمشقالجنوبية التي تشمل منطقة هند بأنه لا يمكن لأي رجل في سن الخدمة العسكرية البقاء في مناطق المعارضة المسلحة إن كان مواليا للحكومة صراحة. لكن الموالين من النساء وكبار السن يتركون لحالهم. وقال إن أفراد الجيش السوري الحر في تلك المناطق "لم يكونوا متطرفين" وقد وعدوا بعدم إيذاء الموالين للحكومة الذين يعيشون في وسطهم شريطة ألا يتعاونوا مع النظام. وأضاف أن بعض الأسر الموالية بقيت لكن لم يبق من الرجال من هم في سن الخدمة العسكرية. وتابع أن منطقة جنوبدمشق بأكملها لم تشهد سوى حالة إعدام علني واحدة بموافقة القيادات المعنية لمتعاونين مع الحكومة وكان ذلك حين أعدم ثلاثة رجال الصيف الماضي. وتقول هند إن المقاتلين أرادوا إعدامها عندما بات واضحا أنهم يخسرون المعركة وشكوا في أن لها دورا في نقل المعلومات. وتنفي هذا الاتهام. وكانت تجد صعوبة في نطق كلماتها السريعة وسط أنفاسها اللاهثة ودموعها المنسالة وهي تذكر اليوم الذي ظنت فيه أنها ستموت. وتروى القصة دون ترتيب بجمل قصيرة تتوقف بين الحين والاخر لشدة الانفعال. وزعم المقاتلون انها تتعاون مع القوات الحكومية. وسألها مستجوبها لماذا تقضي وقتا مع أصدقائها في حي السيدة زينب الذي تسيطر عليه القوات الحكومية ويبعد مسيرة عشر دقائق على القدمين ويقيم فيه الالاف من الفارين من المناطق المحيطة. وقالت وهي جالسة في بيت صديقتها في ذلك الحي "قلت له: أتسألني عن صديقتي التي تعيش في السيدة زينب؟ كل أسرتك تعيش في السيدة زينب... فماذا في أن يكون لي صديقة تعيش في السيدة زينب؟" ويقع بيت هند في إحدى الضواحي المترامية التي تحيط بحي السيدة زينب وقد طلبت من رويترز عدم تحديد الضاحية وتغيير اسمها قائلة ان المقاتلين الذين ما زالوا يريدون قتلها سيتمكنون من التعرف عليها. وقالت انه لم يبق من السكان المدنيين في منطقتها سواها هي وشقيقاتها ووالدها وأسرتين أخريين. وكانوا يعيشون قرب شبكة طرق تنشط عليها حركة المرور عادة أما الان فتحيط بهم الانقاض من كل جانب. ويعم الدمار المنطقة بسحابة رمادية لا يكسر امتدادها إلا انقاض متناثرة أو حطام يعلوه السواد أو معادن صدئة. وقد انهارت بعض المباني طابقا فوق طابق ونهب الألومنيوم من نوافذها منذ وقت طويل. وتقيم قوات الامن السورية الان حواجز تفتيش داخل المنطقة وتعتبرها منطقة عسكرية غير مسموح لمعظم المدنيين بدخولها. السير نحو الموت وكانت استعادة القوات الحكومية للمنطقة قبل ثلاثة أشهر هي التي عرضت حياة هند لخطر الموت حسب روايتها ثم أنقذت حياتها في آخر دقيقة. وتذكر هند كيف ظلت متماسكة أثناء استجوابها من جانب المقاتلين الذين كانوا يشتبهون في أنها تساعد الجيش "حتى وقلبي يسقط بين قدمي". وعندما قال لها مستجوبها أن تنتبه لما تقول وتخفض صوتها رفضت قائلة إنها لم ترتكب جرما. وقالت "قال لي: لا مشكلة. عندما يعود المفتي بعد تحرير سبينة سينفذ اعدامك بنفسه." لكن مقاتلي المعارضة المسلحة خسروا بلدة سبينة القريبة وتقدمت القوات الحكومية بسرعة نحو حي هند. وعرف المقاتلون أنهم سيخسرون معركتهم قريبا وسمعتهم هند في منتصف الليل يرددون أغاني الأسف والحزن في الشوارع. وقد أوشكت ذخيرتهم على النفاد وشعروا بأن قائدهم تخلى عنهم. وارتدوا ملابس عسكرية ليبدوا مثل جنود الجيش آملين أن يتمكنوا من الفرار في ظل التشوش. وانسحب كثيرون في تلك الليلة آخذين أسرهم معهم إلى مناطق أخرى تسيطر عليها المعارضة جنوبيدمشق مثل مخيم اليرموك والحجر الاسود. وقالت هند "لكن القليلين الذين بقوا كانوا مصممين على إعدامنا قبل أن يغادروا المنطقة. اقتادونا إلى آخر الشارع وكانت مجموعة منهم تسير أمامنا وواحد آخر خلفنا. وكانت أختي تسير بجواري ودموعها تسيل على خدها." وأضافت وقد حبست انفاسها واغرورقت عيناها بالدموع: ثم وقع انفجار ضخم. كانت ضربة من الجيش. وتبعثر المقاتلون وعمت الفوضى. "ورفعت عيني فرأيت الجيش. كان أغلب الأفراد من جماعة حزب الله (اللبنانية). "أخذت أجري جيئة وذهابا وأصرخ. وأعتقد أنني بدأت أقبلهم وأبكي. لم يفهموا تصرفاتي وداخلهم الشك ثم أدركوا انني في حالة هيستريا. لقد وهبني الله حياة ثانية."