يحكي لنا التراث أن رجلا مدمنا للخمر سار في ذات يوم برفقة ابنه الذي طالما امتعض من إقدام أبيه على شرب مثل هذا النوع من سوء الشراب، فلما كان أن مر الاثنان ببركة ماء آسن ( أي عفن).. كان أن وجدا عندها رجلا مخمورا ظل يسبح فيها ويسبح وقد غمرت رأسه المياه على قذارتها!! فالتفت الابن إلى أبيه صائحا: ألم أقل لك يا أبي إن الخمر يذهب بالعقول ويدفع بشاربيه إلى غريب التصرفات؟ فانهمرت من الأب الدموع، ففرح الابن بما رأى في عيني أبيه من تأثر، وقال: لعلك ندمت يا أبي لما رأيت الرجل علي هذا الحال، فقال الأب: كلا، والله ما بكيت من الندم، وإنما بكيت لأنني طالما تمنيت أن أجد ماء كهذا أسبح فيه فلم أجد !! وقيل إن رجلا اشتد به الخمر وأعياه، فاستلقى على قارعة الطريق، فجاءه كلب فلحس وجهه، فقال له الرجل: خدمك بنوك (أي أبناؤك) ولا عدموك، فلما انتهى الكلب تبول على وجه الرجل فقال: وماء حار أيضا ؟ بارك الله فيك!! حتى في الجاهلية نفسها قبل ظهور الإسلام كان أن فطن الناس إلى خطورة تبعات الخمر على شاربه، فحرمه البعض على أنفسهم، ومن هؤلاء كان قيس بن عاصم.. ذلك لأنه شرب في ذات ليلة فراوده عقله أن يمسك بالقمر!! فراح يثب الوثبة تلو الوثبة فيقع على وجهه ويتمرغ في التراب، فلما أشرق الصبح عليه وأفاق، قال: مالي هكذا؟ فأخبروه بما فعل، فأقسم بألا يشرب الخمر أبدا، فسألوه: لما تركته وهو يزيد في سماحتك؟ قال: أكره أن أصبح سيد القوم وأمسي سفيههم!! وقال قائل في الخمر قديما: وكل الناس يحفظون حريمهم وليس لأصحاب النبيذ حريم فإن قلت هذا فليس عن جهالة ولكنني بالفاسقين عليم وأجدني أتعجب أشد العجب حين تتعالى الأصوات خوفا من منع الخمور في مصر، وكأننا شعب يصبح ويمسي والكأس لا يبرح يده!! ولسنا شعب يتمسح بالدين جهد إيمانه لعل الله يرحمه، يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويفرح بالصيام!! ويتفلسف متفلسف من بيننا، فيزين للناس سوء أعمالهم، فيتوعدهم الفقر إذا ما توقف بيع الخمور، فلا سياحة، ولا سائحين، ولا فنادق، ولا اقتصاد، وكأننا في الأصل خمارة نشأت من حولها دولة، ولسنا دولة بها قليل (جدا) من الخمارات؟ أو كأننا نصنع من الخمور أفضلها مثلا فلن يجد العالم أفضل من خمورنا خمرا، فلما نتوقف نحن عن بيعه الخمر إذا بالعالم يهب عن بكرة أبيه حزنا فيمتنع عن زيارتنا من بعد انتفاء جدوى هذه الزيارة!! وهذا أمر يناقض العقل والمنطق معا: فإذا كان العالم لا يرى ميزة سوى الخمر سببا لزيارتنا، إذن فحضارتنا التي نتشدق بها ليست هى السبب، وإذا كانت حضارتنا هى سبب الزيارة فلما القلق من اختفاء الخمر؟ أم ترى مطالعة الآثار تكون أفضل بمذاق الخمور؟ أم ترى الخمر رمزا لشيء آخر في عقول المعترضين؟ نعم, يبدو أنه في عقول هؤلاء رمز للحرية، وبالأخص الشخصية منها، فتكون القاعدة المنطقية عند هؤلاء: أنا أشرب إذن فأنا حر!! فمن ذا الذي يمنعهم حينئذ عن الشرب؟! أما المضحك المؤسف فهو أن من بين هؤلاء من لا يشرب الخمر أساسا، ولكنه الخوف بالإيحاء من منعه دون إعمال العقل وهؤلاء أخطر من المخمورين، ذلك لأن المخمور فاقد لعقله حين الشرب، فلما ينتهي أثره يفيق، أما الذي لا يعمل العقل فهو مخمور دوما بدون خمر!! ولعل موقفهم هذا يستدعي إلى ذاكرتي مشهدا من مسرحيات عادل إمام حين تهددته مصلحة التليفونات بأن يدفع فاتورتها وإلا قطعوا عليه الخطن فما كان منه سوى أن هرول إلى المصلحة فدفع، مع العلم بأنه ليس لديه تليفون أساسا!! وهكذا حال من لا يعقلون!! وأنت حين تجالس المخمور تجد له أطوارا، ففي البدء هو فرح مقدم على الحياة، تعتليه نشوة الإقدام على تناول ما تاقت إليه نفسه بعد طول استعداد، وبعد الكأس تلو الكأس، تجد مزاحه يتزايد، وتجد ضحكاته تتعالى على توافه الأمور، وهو في ذلك ودود بار بكل من حوله، ثم سرعان ما يزوغ البصر، وتجد الحدود الفاصلة بين الأشياء عنده وقد بدأت تتلاشى، فإذا به جريء متبجح عدواني أحيانا، أو حزين مكتئب، وفي أحيان أخرى يعبر عن أحزانه بالمزاح الرخيص والجهر بما خفي من بواطن ومكنونات نفسه فيما كان العقل عن الإفصاح بها يمنعه، يقتاده تفكيره إلى حافة تشارف مساحات من الجنون!! ألم أقل لك إن قيسا أراد أن يمسك بالقمر؟ ولن أحدثك هنا عن زنا المحارم أو ربما(الميل إليه)، فهو حديث ذو شجون، تشهد عليه إحصائيات عالمية، وتغض الطرف عنه الإحصائيات (المحلية) تحت تأثير الخمر وشقيقته المخدرات!! سيقولون بأنني مبالغ، وما أنا والله بمبالغ، فليس معنى أن قليله لا يذهب العقل كلية، أن كثيره مضمون العواقب، وفي ذلك تحضرني مقولة للحسن ( رضي الله عنه): "لو كان العقل يشترى لتغالى الناس في ثمنه، وإني لأعجب ممن يشتري بماله ما يفسده"!! ويقصد الخمر. وأعلم وأنا أسطر هذه السطور أن كلامي هذا لن يروق لكثيرين، وربما يقول قائل بأنني أعتلي موجة قد علت أو إنني إخواني أو سلفي، و أنا لا أدعي هذا الشرف أو ذاك والجميع يعلمون، ولكنني أكره أن أكون متناقضا مع نفسي، أكره أن أؤمن بشيء وأمارس نقيضه.. أكره الخمر وأكره أن أجالس شاربيه حتى يتبينوا ما يقولون وهذه حريتي الشخصية في مقابل حريتهم التي يزعمون، أم أن الحرية حلال لهم وحرام على الآخرين ؟ وفي هذا لعل قارئي الكريم يتصور أنني أمهد الحديث لإدخاله إلى رحاب الشريعة الإسلامية فأفند له الأسانيد والحجج وهى كثيرة، ولكني اليوم سأخالف توقعاته بأن أدخله في رحاب الشريعتين المسيحية واليهودية رأسا لأؤيد حجتي فإليك بما يأتي: في سفر أمثال أصحاح 31 آية 4 يقول كتاب العهد القديم ( ليس للملوك أن يشربوا خمرا ولا للعظماء المسكر. لئلا يشربوا وينسوا المفروض ويغيروا حجة كل بني المذلة. أعطوا مسكرا لهالك وخمرا لمري النفس) في إشارة إلى أنه لا يقدم على الخمر إلا السفهاء والتعسين!! وفي سفر العدد إصحاح 6 الآية 4:2 يقول الكتاب: (كلم بني إسرائيل وقل لهم: إذا انفرز رجل أو امرأة لينذر نذر النذير لينتذر للرب فعن الخمر والمسكر يفترز ولا يشرب خل الخمر ولا خل المسكر ولا يشرب من نقيع العنب ولا يأكل عنبا رطبا ولا يابسا كل أيام نذره لا يأكل من كل ما يعمل من جفنة الخمر من العجم حتى القشر) وهنا تتجلي التفاصيل الشائكة التي دائما ما يهتم بها اليهود فيغالون في عقيدتهم إلى حد تعقيد الأمور، فالنذير أي من قدم نذرا عندهم ليس فقط ممنوعا من شرب الخمر وإنما من أكل قشرة الثمرة التي تنتجه!! أما عن الإنجيل فيقول في الرسالة الأولى إلى مؤمني كورنثوس إصحاح 6 آية 9:10 ( أم لستم تعلمون أن الظالمين لا يرثون ملكوت الله. لا تضلوا. لا زناة ولا عبدة أوثان ولا فاسقون ولا مأبونون ولا مضاجعو ذكور ولا سارقون ولا طماعون (ولا سكيرون) ولا شتامون ولا خاطفون يرثون ملكوت الله) وكأنه ساوى بين كل هذه الرذائل ورذيلة السكر!! وفي نفس الرسالة إصحاح 6 آية 13:12 يقول( كل الأشياء تحل لي لكن ليس كل الأشياء توافق. كل الأشياء تحل لي لكن لا يتسلط علي شيء) كناية عن أنه ولو لم يوجد طعام أو شراب محرم وفق العقيدة المسيحية، إلا أن من هذه الأشياء ما لا ينفع، ومنها ما يتسلط على المرء فيكون على الانسان ألا يقربه في إشارة تنسحب على الخمر في المقام الأول!! وفي الرسالة إلى مؤمني أفسس يقول الإنجيل في إصحاح 5 الآية18:( ولا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة بل امتلئوا بالروح)!! وأخيرا.. إذا كان هذا البلد مقسم ديموجرافيا ما بين مسلمين ومسيحيين، وإذا كانت عقيدة الاثنين ترفض الخمر، فمن ذا الذي يروج له إذن؟ نقلا عن "الأهرام"