في رحلة استكشاف ملف الأغنية الوطنية، نكتشف أن الغناء الوطني لا ينتعش الا في أعقاب أزمة، ولكن من دون توجيه رسمي، فحينما كان الغناء الوطني منتعشاً،وصادقاً،وخارجاً من القلب،لا بفرمان ملكي أو رئاسي،كانت العروبة في أزهى حالاتها وعصورها.وكانت العلاقات الأخوية بين أفراد الشعب العربي الواحد،علاقات تليق بما ينبغي أن تكون بين الأشقاء. هذه ملاحظة يجدر تسجيلها. وفي أكتوبر من عام1973 المجيد. انتعشت الأغنية الوطنية من جديد،وذاقت طعم الفرحة وإيقاع النصر،وصيحة العزة،بعد أن عاشت فترة زمنية ليست قصيرة منتعشة أيضاً،ولكن تحت راية مُنكّسة عقب نكسة1967،وعلى نغمات ناي حزين أخضر واكب العدوان الثلاثي على مصر عام1956. غنى لمصروالعروبة فريدالأطرش،الرحبانية،فيروز،وديع الصافي،نجاح سلام،فايزه أحمد،ليلي مراد، وردة الجزائرية...،... أسماء كبيرة ومهمة في تاريخ الغناء العربي،ولكن الغريب أنه برحيل هؤلاء أو ابتعادهم عن الساحة،لم يظهر في الأفق حماساً واضحاً لدى جيل آخر ليغني لنصرة العرب،ولأمجاد العرب. بل إحتاج الأمر إلي عقدين من الزمان عندما جاء الشاعر الوطني الرقيق مدحت العدل،وجمع حشداً من نجوم الصف الأول في معظم البلدان العربية،وقدم معهم وبهم أوبريت"الحلم العربي"ثم"القدس ها ترجع لنا"ولذلك كان استقبال الشعوب العربية لهذين العملين عظيماً وبحجم الإخلاص الذي لمسناه جميعاً في هذين العملين.. واجتمع العرب مرة أخري لأول مرة منذ سنوات بعيدة يغنون حلماً واحداً،وينشدون أملاً موحداً. فيما عدا ذلك كانت المحاولات فردية،والجهود مشتتة،فكان كل مبدع عربي يحاول جاهداً أن يصفق بيد واحدة، وبالطبع كان ذلك مستحيلاً. أو على الأقل..هزيلاً! وقد يقول قائل إن سيد درويش..ذلك الملحن والمطرب العبقري،العظيم،قد بدأ التجربة..تجربة الغناء للوطن..وحيداً،ورغم ذلك استطاع أن يصنع أمجاداً،وأن يفتح آفاقا ًواسعة، للغناء الوطني،وأن يكون رائداً في هذا الاتجاه. تلك حقيقة..ولكنها نصف الحقيقة.. أما النصف الآخر ،هو أن سيد درويش كان"مؤثراً" بحجم موهبته،و(قائداً)بحجم ريادته،و(مسموعاً)بحجم انتشاره..ولذلك لا أظن أن مطرباً آخر،مؤهلاً لأن يجمع كل الطوائف حوله كما فعل الشيخ سيد درويش في بدايات القرن العشرين. الأن إقتسم المطربون الساحة،كما تقاسموا الاُذُن العربية،وأصبح المطربون تماماً كمشايخ الطرق الصوفية،لكل منهم مريدوه،وأتباعه،وناصروه،فتفرقت أصواتهم بين القبائل! ولذلك لن تنجح أغنية عربية قومية،دون أن يشارك فيها كل العرب. لقد انتهت الأغنية الوطنية العربية الفردية. تماماً كما إنتهي زمن التعصب لقطر من الأقطار. حالة واحدة في عصر ما بعد عبد الحليم حافظ ورفاق جيله من العمالقة الأوفياء،حالة واحدة نجحت فيها أغنية وطنية فردية تتكلم عن وطن بعينه وعبرت الحدود هي أغنية المطرب الكويتي المعروف عبد الله الرويشد في إحدى الليالي المحمدية التي أقامها التلفزيون المصري إبان الغزو العراقي والأصح أن نقول الغزو الصّدامي نسبة إلى الرئيس المخلوع صدام حسين للكويت. الأغنية هي"بيتي وبيقول بيته..ومسجد لله بنيته ويقول ده مسجدي"وكانت هذه حالة استثنائية للنجاح ساهم عليها ودَّعمها هو أن الحدث هو الآخر استثنائياً وغير قابل للتكرار فيما نتصور وأيضاً فيما نتمنى..والعدوان غير قابل للتبرير وحينما سألت مؤلف هذه الأنشودة الجميلة الصديق الكبير عبد الرحمن الأبنودى،ولم أكن في سياق توجيه اللوم لا سمح الله عن لماذا لم تستمر الأغنية الأكتوبرية في تصاعدها الدرامي وقتاً أطول،علي عكس الغناء الوطني إبان الهزيمة قبلها وبعدها قال الخال الأبنودى،ورأيه محل احترام كبير عندي:أن فرحة النصر كانت كبيرة،وعندما بدأ يستوعبها المبدع المصري،كان أكتوبر قد دخل في دروب المفاوضات حول السلام مع عدو الأمس،وربما تصور البعض أن أكتوبر الرسمي الجديد سيتعارض مع أكتوبر الذي يريد ان يعبر عنه الشعراء. عند هذا الحد ارتشفت ما تبقى من كوب الشاي المنعش الذي صنعه الخال عبد الرحمن الأبنودى،وكتمت ما تبقي في حلقي من أسئلة واستفسارات،وتنحنحت استعداداً لفتح الطريق أمامي للعودة إلي مكتبي،وفي حلقي سؤال: هل إختنقت الأغنية الوطنية على حناجر الشعراء والمبدعين؟ يقينا..لست أدرى! وهنا تذكرت مرة أخرى العملاق سيد درويش. سيد درويش الذي كان يتحايل على الظروف السياسية المضطربة من أجل أن يصل صوته إلي الناس،والذي كان يعي تماماً أن"كل لبيبٍ بالإشارة يفهُم"وأيضاً الذي كان يعرف رسالته تجاه شعبه ووطنه،كان يصل إلي الناس في أماكنهم،في وقت لم يكن معروفاً فيه أدوات الإتصال المتداولة الآن. تأملوا معي مدى الصدق والبساطة في أغنية"الموظفين"التي رددتها مصر إبان ثورة1919،وهي الأغنية التي تعبر عن حال الموظفين الذين أضربوا تضامناً مع مطالب ثورة1919 التي هي مطالب الأمة كلها ومضت على هؤلاء الموظفين أسابيع في بيوتهم،حتى هدأ الحال،فخرجوا إلي وظائفهم،بعد أن إمتلأوا بنشوة تحقيق الانتصار،ورغم ذلك كان الخوف يملأ قلوبهم من عواقب انقطاعهم عن العمل،خوفاً من الحكومة الموالية للإنجليز وتربصهم بهؤلاء الموظفون البسطاء والتهديد بقطع مرتباتهم. غنى لهم الشيخ سيد.غنى لأولاد بلده: هِز الهلال يا سيد / كراماتك لأجل نعود يكفى اللي حصل / كام يوم غاب وصل يا زارع بصل / والكلمات توازن بين الإحساس الوطني الجارف،وبين الرغبة في تحقيق مطالب الحياة اليومية للموظف. هِديت وراق الحال / ورجعنا للأشغال دا الموظف منا مش وش خناق ولا شومة لما يحَّمر عينه،والاَّ يقوم له قومه حد الله ما بينا وبينك / غير حب الوطن يا حكومة ولكن حب الوطن يتملك منه فينطلق في المقطع التالي: عشرين يوم راحوا علينا / إن شا الله يا خدوا عينينا بس المقصود يبقى لنا وجود / والدنيا تعود. وسيد درويش قام بدور المؤرخ،وهو هنا يسجل خروج المرأة في المظاهرات،وكان ذلك حدثاً فريداً يستحق التسجيل المغنى: يا ما شُفنا من الستات / طِلعُم عملوا مظاهرات والكناسين روخرين رأسهم وألف مقشة / لا يكنسوا كنسه، ولا يرشوا رشه هكذا كان الصدق والتعاطف مع بنى وطنه،بكل فئاته وطوائفه،فأجتمع من حوله الجميع في حالة مميزة من الغناء الوطني الثوري. ذلك كان مدخلا تاريخيا وفنيا مهما ونحن نحلل لماذا نجحت أغنية أوبريت تسلم الايادي، وذلك لأنها سارت على نفس منهج المزاج الشعبي ( القومي ) للمصريين الذين يقدسون نموذج البطل المخلص بتشديد اللام منذ عنترة وابو زيد الهلالي وسعد زغلول وجمال عبد الناصر والسادات والفريق السيسي فجميعهم غنى له المصريون، وربما قبل ذلك لو مددنا الخط على استقامته لوصلنا الى أحمس قاهر الهكسوس. [email protected]