يصف لنا "معروف الكرخى"، وهو أحد العارفين الذين اُشتهروا بزهدهم، وورعهم، وتقواهم، رجلا بلغ به الشوق لمكة، فيقول: "رأيت رجلا بالبادية يمشى بلا زاد، فقلت له: إلى أين تريد؟، قال: لا أدرى، قلت: هل رأيت رجلا يريد مكانا لا يدريه؟!، قال: أنا هو، قلت: فأين تنوى؟، قال: مكة، قلت: تنوى مكة ولا تدرى أين تذهب؟!، قال: نعم وذاك لأنى كم مرة أردت أن أذهب إلى مكة فيردنى إلى طرسوس، وكم مرة أردت طرسوس فيردنى إلى مكة، قلت: من أين المعاش؟، قال: من حيث يريد، يجوعنى مرة والطعام حاضر، ويشبعنى مرة والطعام غائب". هكذا حال من ارتبطت صلته بمكة، وهواء مكة، فعندما يقترب موسم الحج يزداد تعلق الأبصار والقلوب بزيارة بيت الله الحرام.. يتجدد الحنين، وتذرف العيون دمعات ساخنات شوقا إلى مكةوالمدينة.. إنه شعور التمنى لكل من حج أو اعتمر أن يكرر الزيارة مرارا لكى تغتسل الروح، وتُخفف الذنوب عنه.. ملايين يطوفون فى ثياب الإحرام الأبيض، وهذا هو ثوب الميت- المولود من جديد .. لا تعرف الواحد من الآخَر.. كأن كل واحد يشعر بأنه يخاطب الله بقلبه ولا ينطق لسانه من أمانيه إلا بعدة حروف.. لا تعرف مَن الفقير ومَن الغنى.. الكل ينطق بلسان واحد: "لبيك اللهم لبيك"، بعضهم ينطقها مكسرة، وبعضهم ينطقها بلكنة أجنبية، والبعض الآخر يمد، ويأكل بعض الحروف ولكنك تستطيع أن تفهم من الجميع، وتستطيع أن تسمع أنهم يهتفون فى خشوع وابتهال لله الواحد . فى مكه نغتسل من جديد، ونتخلص من متاع الدنيا وحملها.. نتوحد جميعا، ويُعاد الناس مرة أخرى سواسية كأسنان المشط فى مشهد نورانى مهيب.. نلبى، وندعو، ونبكى على ما فاتنا، فالنظرة إلى الكعبة عبادة.. نظرة تتعلق بها الروح، فلا ترى شيئا يساوى تلك اللقطة، مهما تعيش، أو تعاصر، حتى تتم الحج، أو العمرة، وتغتسل الروح، وتتخلص النفوس من أطماعها وتمسكها بالدنيا. فى مكة يُجلى القلب بفضل إلهى، فتجد نفسك والمحيطين غارقين فى الدموع لأسباب لا نقدر على حصرها، فستبدو، وقتها، الكلمات مبتذلة، والعقل عاطلا، والعبارات ناقصة، فلا يبقى إلا الصمت، والدموع.. دموع الجبر، والفرح، والندم، والتوبة.
بعد إتمام مراسم الحج، أو العمره، نُوقِفُ نحن المصريون الحصول على لقب "الحاج" على زيارة المدينة.. مدينة رسول الله، وكأن زيارة خاتم المرسلين هى الختام، وشرط لقبول الزيارة، والدعاء، والعمل الصالح.. من منا لا تهفو نفسه إلى المدينةالمنورة.. من منا لا يمتلك الشغف، والرغبة العارمة لزيارة الحبيب، فروائح المدينة لا تشبه نسيم أى مكان على الأرض، حيث لا يرتفع صوت هنا، فالجميع يقدس وجود الرسول بالمدينة، والناس وجوهها مريحة للنفس، يتجلى فيها كرم أحفاد الأنصار لتقديم واجب الضيافة، وعند زيارتك الأولى للمسجد النبوى سوف ترتعد أعصابك إجلالا، وهيبة، فهنا يرقد رسول الله عليه الصلاة والسلام، والمسجد له وجهات عريضة، وبه عشرات المآذن، والمظلات المتحركة، وتبلغ مساحة الساحات التى تغطيها المظلات المتحركة 143 ألف متر مربع، والتى تهدف إلى وقاية المصلين من حرارة الشمس فى أثناء الصلاة، وحمايتهم من مخاطر الانزلاق، والسقوط فى حال نزول المطر، بالإضافة إلى توفير الراحة، والاطمئنان لزوار المسجد النبوى، ويبلغ مجموع هذه المظلات 250 مظلة، ويحرص الزوار على الصلاة فى الروضة الشريفة التى تساعد السلطات السعودية على تتظيم الصلاة بها كى تستوعب الآلاف الزائرين كل يوم فى أجواء روحانية طاغية هنا، وتصورات لهيئة وشكل الرسول الكريم، ووصفه، وسيرته، وصبره على توصيل الرسالة، وتحمل الأذى، وهجرته من مكة إلى المدينة التى تستغرق حاليا أكثر من 6 ساعات بالأوتوبيس المكيف، فما بالك أن تلك المسافة قد قطعها الرسول الكريم بالتناوب مع الصديق أبوبكر على ركوب الدابة والسير على الأقدام!
هناك جانب لا يراه البعض وهو ما تقوم به السلطات السعودية من جهود عملاقة لإراحة الحجيج، والمعتمرين الذين يأتون من كل فج عميق بلغات مختلفة، وملامح متباينة.. يفهمون كل إشارات جنود المملكة التى تتلخص فى جملة: "من هنا يا حجى"، فيسمعها العربى، والغربى، والآسيوى، ويفهم، ويُقدِّر هؤلاء الجنود الذين نلتمس دائما لهم العذر، ونتمنى لهم التوفيق فى حماية الأرواح، وكبار السن، والسيدات، كما أن الشرطة، والإسعاف موجودة فى كل مكان، علاوة على الشركات الكبرى السعودية، ورجال الأعمال الذين تتدفق عطاياهم بالأطعمة الطازجة، ومشروبات المياه المثلجة حتى يتفرغ الحجيج للعبادة، وأداء المناسك.
عندما نقول إن هذا "التطوع" لخدمة الملبين من كل حدب وصوب فإن ذلك لا يرتبط فى المقام الأول بأى مكاسب مادية، فلا أكذب حينما أقول إن هذا البلد قد كلفه الله بخدمة ضيوفه، وقد اكتملت كل عناصر النجاح، والاستقرار، والتفوق فى المملكة العربية السعودية من خلال منظومة عصرية فائقة الجودة وضع لبنتها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولى عهده الأمين محمد بن سلمان الذى رفع شعار "مد العون لكل الزائرين" من لحظة وصولهم إلى المملكة حتى المغادرة والعودة إلى بلادهم من دون أذى. شد الله رِحالى، ورحالكُم إلى مكة قريبا، أو كما كانت تنشد جدتى- رحمها الله- كل عام قائلة: "يَا صاحِب البيْتِ.. يَا صَاحِب الدَّار.. أَنعَم عليْنَا واكْتبْنَا مِن الزُّوَّار".. اللهم آمين.