وهكذا إذن سبقت القوي السياسية عندنا بمختلف أطيافها العصر والزمان، وكتبت ( ببلاهتها) المتعمدة فصلا عبقريا جديدا في كتاب الدبلوماسية العالمية, يحمل عنوان دبلوماسية السذاجة, بل وسبقت به وتجاوزت المنظومة الأمريكية ذاتها, فماذا جري عندنا, وماذا جري في أمريكا, وكيف تفوقنا عليهم؟ فتح دماغك! لقد شهد الأسبوع المنصرم مشهدين رائعين, أولهما عندنا, والثاني عند الأمريكان, فأما الذي هو عندنا والذي لم يفهمه الجمهور المصري حق فهمه فهو الاعتماد علي ادعاء العبط والاستهبال وإخفاء العمامة, والإيحاء للآخر بأنك موش فاهم حاجة في أي حاجة, ومن ثم تستدرجه, وتخدره فينام, فإذا غط في النوم, هوب, تنقض عليه سيادتك انقضاض الأسد الهصور, فتلتهمه التهاما, يعني إيه؟ وكيف كان ذلك؟ شوف ياسيدي, نحن ندعو إلي اجتماع لرموز القوي السياسية النافذة المتحكمة في البلاد, ويكون الاجتماع في غرفة واسعة, ثم نترك هؤلاء الزعماء الطواويس الأشاوس يتكلمون ويفضفضون ويهرتلون, ولمكنون أنفسهما يفضحون, وبعد ذلك نوحي لجمهور النظارة بأن هؤلاء السادة المجتمعين لم يكونوا يعرفون أنهم علي الهواء, وأنهم بوغتوا, فيمثلون الدهشة, ويصطنعون الخيبة, ويصرخون مذهولين: ماذا.. هل نحن صحيح علي الهواء؟ هنا, ستكون الرسالة التي ستصل إلي الجمهور الآخر, الإثيوبي يعني, هي أننا ناس موش فاهمة حاجة, ومن ثم يستكين الإثيوبيون, وتضعف عزيمتهم, وتفتر همتهم, وينامون, فنحمل نحن عليهم حملة رجل واحد, ونأخذهم من حيث لايتوقعون, أخذة عزيز مقتدر, وعندها لن يكون هناك سد ولا يحزنون, تلك هي دبلوماسية السذاجة, والتي هي في واقع الأمر نتاج لميراث متجذر مأخوذ عن بيت الشعر العتيد: ليس الغبي بسيد في قومه, لكن سيد قومه متغاب! غير أن السؤال هنا هو: علي من بالضبط ستضحك ياحلو المعاني؟ ومن قال لك إن الأشقاء الإثيوبيين سيأكلونها هنيئا مريئا؟ كيف تصورت أنهم أغبياء, بينما هم وراءهم موروث من الغيظ والغضب لن يطفئه ماء النيل؟ ثم من قال لك إن إثيوبيا هي التي ستبني السد؟ لماذا لم تسأل نفسك: من وراءهم؟ ونروح الآن إلي المشهد الأمريكي. لقد تفجرت منذ أيام سلسلة من الاتهامات في وجه الإدارة الأمريكية, برئاسة العم أوباما, بأن إدارته تستخدم شركات التواصل الاجتماعي الكبري علي الإنترنت( مثل جوجل وفيس بوك وياهو وآبل ومايكروسوفت.. وغيرها) للتجسس علي الأجانب المقيمين داخل الولاياتالمتحدة. إنها فضيحة ولاشك, لكن ماذا فعل إزاءها مستر أوباما؟ انظر إلي لعب السياسة الصح. لقد رمي الكرة في ملعب الكونجرس, قال لهم: أنتم كنتم تعرفون كل شيء منذ البداية. فماذا كان رد فعل الكونجرس؟ لقد أعلنوا بعلو الصوت: لن نحاسب أوباما علي شيء. وهكذا لم يطلبوا اجتماعا علي الهواء كده وكده, ويفضحوا أنفسهم, ويشمتوا فيهم العدا, بل عادوا إلي قواعد اللعبة, وهي انك مادمت تسعي للحفاظ علي أمن أمريكا القومي, فكل شئ مباح لك في مواجهة الأجانب, تتجسس عليهم, تضربهم في العراق, تقتلهم في أفغانستان.. لايهم, إن المهم هو صالح أمريكا في النهاية وطبعا ستموت قضية التجسس في المهد, وسوف ترون! إن السياسة البراجماتية النفعية الأمريكية مأخوذة, في واقع الأمر, من المرحوم خالد الذكر ماكيافيللي, الذي قال في كتابه الأمير: افعل ما شئت في الشعوب الأخري مادمت ستحقق مصالح شعبك أنت في نهاية المطاف. وهكذا فنحن أمام دبلوماسية عتيقة معتقة تبحث عن مصلحة الشعب, ودبلوماسية أخري عتيقة معتقة أيضا لكنها تنهض علي مبدأ ليس الغبي سيد قومه! طيب, ما الدلالات, وماهي الدروس المستفادة من هاتين المقارنتين,( دبلوماسية السذاجة في مواجهة الدبلوماسية البراجماتية)؟ ثمة دلالات ثلاث: أولا: أن مفهوم خدمة الشعب بل ومفهوم الشعب نفسه مختلف عندنا عما عندهم. نحن ننظر لشعوبنا علي أنهم ناس طيبون, عاوزين يعيشوا, وبكلمتين تأكل بعقولهم حلاوة طحينية. ما المشكلة يا أخي؟ جلسنا في اجتماع, وفضفضنا بكلمتين فارغين, وماله ياسيدي, وهل كل الكلام الذي سمعه الشعب من زعمائه الأقدمين كان معقولا وموزونا؟ فإن سألتهم: وماذا عن تأثير هذا الذي تفوهتم به أمام الكاميرات في مقر الرئاسة علي مصالح الشعب؟ فستجدهم يردون عليك: انسي.. ألم يمارس هذا الشعب معنا نحن الحكام لعبة (طب انسي وأنا هاانسي) طوال الزمان؟ وأما الدلالة الثانية, فهي أننا قوم نتكلم وبس, ومع أن الله تعالي خلق لنا الألسنة كي تأتمر بأمر العقل, إلا أننا للأسف خرجت عندنا الألسنة من عقالها, وبتنا نقول أي كلام, وطبعا معروف ذلك المثل الشهير( لولاك يالساني ما اتسكيت ياقفايا) فإلي متي ستظل أقفيتنا تتحمل السك؟ والدلالة الثالثة, هي اننا سنظل حتي إشعار آخر قوما عشوائيين. ولا يقتصر الأمر هنا علي الكلام فقط, بل يمتد إلي التفكير والقوانين والبناء والسير في الطرقات.. ولذلك لم يكن مستغربا هذا المشهد العشوائي الذي جري في الاتحادية. وللعلم سنبقي هكذا, مادمنا نتبني دبلوماسية السذاجة كمنهج للحياة! نقلاً عن الأهرام المزيد من أعمدة سمير الشحات