تلقيت منذ عدة شهور دعوة من صديقين في الكويت، الدكتور حسن الإبراهيم والأخ أنور النوري، ونظرا لأنني عملت في الكويت في عدة فترات، حيث كانت الفترة الأولى في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات عندما أعرت لجامعة الكويت حين كان الأستاذ أنور النوري وقتها أمينا عاما للجامعة، كما عاد إليها آنذاك الدكتور حسن الإبراهيم بعد إتمام دراسته في الخارج ليعمل أستاذا للعلوم السياسية ثم عميدا لكلية الاقتصاد والسياسة، التي كنت أعمل بها، وقد تعرفت علي الاثنين في وقتها، وقد تولى كل من الدكتور حسن الإبراهيم والأستاذ أنور النوري منصب وزير التربية والتعليم واحدا بعد الآخر. وفي فترة لاحقة عملت من جديد في الصندوق العربي ثم مستشارا لوزير المالية في الكويت، ثم عين الأستاذ أنور النوري رئيسا لبنك الكويت الصناعي، فدعاني للعمل معه في البنك مديرا للدائرة الاقتصادية. وكنت أرى في كل منهما أحد عناصر التنوير في الكويت. وكانت دعوتهما لي في اتصالهما لي هى لقبول عضوية مجلس أمناء جمعية شمعة، وحضور الاجتماع المقبل للمجلس في بيروت، ولم أكن سمعت عن شمعة مسبقا، ولكن إعزازا للصداقة السابقة والاحترام والتقدير لشخصهما، فقد وافقت على قبول العضوية بعد أن عرفت أهدافها العامة. ولكن ليس من رأي كمن سمع، فقد حضرت اجتماع مجلس الأمناء، وناقشنا خططه المستقبلية ونشاط الجمعية في المنطقة وفي مصر، واختيار اسم شمعة عنوانا للجمعية، بدا لي في أول الأمر أنه يرجع إلى الرغبة في إضاءة ولو شمعة في الطريق المظلم الذي يحيط مشكلة التربية والتعليم في وطننا العربي، ولكنني اكتشفت أن شمعة هى أيضا اختصار للحروف الأولي لاسم الجمعية: شبكة المعلومات العربية التربوية، ففي العصر الحديث لثورة المعلومات والاتصالات، أصبح الوصول إلى الدراسات والأبحاث المنشورة في مجال التربية والتعليم في منطقتنا العربية هو أحد أهم وسائل الارتقاء بهذا القطاع الأساسي والضروري للتقدم الاقتصادي والاجتماعي. وهدف الجمعية الرئيسي هو تكوين قاعدة معلومات إلكترونية توثق الدراسات التربوية الصادرة في البلدان العربية في مجمل ميادين التربية، وذلك باللغات الثلاث: العربية والإنجليزية والفرنسية وإتاحتها مجانا للباحثين والمهتمين بالدراسات التربوية، وتجمع شمعة المعلومات التربوية التي ترد في الكتب أو المقالات أو التقارير أو الرسائل الجامعية في الجامعات وكليات التربية ومراكز الأبحاث ودور النشر والدوريات.. ولا يخفي على أحد أن أحد أهم وسائل التقدم العلمي، في أي مجال يتوقف إلى حد بعيد على مدى توافر بيانات عن الدراسات والأبحاث السابقة في الموضوع في مختلف الدول، فلا أحد يبدأ من الصفر، والتقدم هو بناء على التراكم المعرفي السابق، ولذلك فإن توفير قاعدة بيانات للدراسات والبحوث التربوية يمثل إحدى الخدمات الرئيسية لدفع عجلة التقدم العلمي ومن ورائها التقدم البشري في هذا المجال. وقد أدركت معظم الدول أهمية وجود مثل هذه القواعد للبيانات وإتاحتها لجمهور الباحثين والدارسين، ويعتبر مركز معلومات المصادر التربوية، الذي يعرف بERIC في أمريكا، أهم وأكبر قاعدة معلومات تربوية في العالم، وقد عقدت شمعة اتفاقية تعاون معERIC بحيث توفر لشمعة من خلال علاقتها بهذه المؤسسة جميع الدراسات والأبحاث المنشورة عن المنطقة العربية. ولكن شمعة توسع نشاطها لإدماج الدراسات والبحوث والتقارير الصادرة باللغة العربية في مختلف الدول العربية أيضا، وقد حققت الجمعية إنجازات مهمة في العديد من البلدان العربية، خصوصا مع دولة المغرب، حيث يضم مجلس أمناء الجمعية الدكتورة عزيزة البناني، مندوبة المغرب الدائمة لدى اليونيسكو وعضو المجلس التنفيذي لهذه المنظمة الدولية. ورغم ما حققته شمعة من إنجاز خلال فترة حياتها القصيرة، فإن هناك اعتقادا لدى أعضاء مجلس الأمناء أن الثروة الحقيقية للدراسات والبحوث العربية في هذا الميدان هى في مصر، وهناك حاجة إلى التعاون بينها وبين الجامعات ومراكز البحوث المصرية للتنسيق في إتاحة هذه البيانات للباحثين المصريين والعرب بشكل منهجي، ولذلك قرر المجلس إيفاد وفد لزيارة مصر ومقابلة المسئولين، خاصة رئيس جامعة عين شمس، الذي فهمت أن جامعته تضم ثروة هائلة من الدراسات والبحوث التربوية من الدارسين المصريين والعرب، كذلك ستتم دعوة مدير مكتبة الإسكندرية لإلقاء كلمة افتتاحية في مؤتمر شمعة المقبل في شهر نوفمبر ببيروت. ورغم أننا نعيش هذه الفترة في مرحلة من الارتباك السياسي والاقتصادي والمجتمعي، فإننا في حاجة إلى إضاءة شمعة لنرنو إلى مستقبل أفضل، وليس هناك من طريق أكثر ضمانا للتقدم والاستقرار غير طريق العلم، والخطوة الأولى في العلم هى التربية والتعليم من خلال البحوث والدراسات والإفادة من التراكم المعرفي المتوافر في هذا المجال. وقد فتحت ثورة المعلومات والاتصالات الطريق من خلال قواعد البيانات لإتاحة خلاصة الفكر العالمي تحت نظر الباحثين، فنحن نعيش في عصر لا يستطيع أحد أن ينفصل عما يجري من حوله والإفادة من تجارب الآخرين ونجاحاتهم وإخفاقاتهم، ومن هنا فقد رأيت أن أكتب مقالي الدوري هذه المرة عن شمعة، لكن هناك سببا آخر قد لا يقل أهمية، وهو أننا في انغماسنا في مشكلاتنا الآنية، وفي ظل الارتباك العام السائد، بدأنا أو البعض منا ولأسباب وقتية عارضة، نكيل الاتهامات للعديد من دولنا وشعوبنا العربية، رغم أن انتماءنا الحقيقي لا يمكن أن يتجاوز هذا الواقع، فالأمة العربية، وباستثناء حالات منفردة، هى الصمام الحقيقي والسند الرئيسي لنجاحنا في المستقبل، فهذا المستقبل هو مستقبل واحد للأمة العربية في مجموعها، وبوجه خاص، فإن دور مصر وقيمته لن يتحقق إلا بالعمل العربي المشترك. وبالرغم من بعض الاستثناءات هنا وهناك، فإنني لم أذهب إلي أي بلد عربي وكل من قابلتهم من هذه البلدان إلا ورأيتهم يضعون مصر في حبات العيون، وأنا شخصيا أؤمن إيمانا راسخا بأنه لا نجاح لمصر إلا في إطار عربي، الخلافات العارضة تأتي وتذهب، ولكن تظل أمتنا العربية هى صمام الأمن والأمان، وعلينا أن نتصرف دائما بمسئولية، خصوصا في لحظات الأزمة، وقد وجدت في صحبتي ل"شمعة" مع الإخوة من العديد من دول هذه المنطقة ما أكد ظني، وفي إطار هذا الظلام المخيم على أوضاعنا المصرية فإننا في حاجة إلى مجرد شمعة.. والله أعلم. نقلا عن "الأهرام اليومى" المزيد من أعمدة حازم الببلاوي